ملخص
انطلقت فاعلية معرض فنون البناء التقليدي بمنطقة جدة التاريخية مستندة إلى الإرث الثقافي الذي تختزله البلاد
ما من أحد يتجول بين أزقة المنطقة التاريخية في مدينة جدة السعودية إلا ويجد نفسه مشدوهاً إلى تفاصيل المباني وما تحمله من فن العمارة، ويدفعه الفضول إلى معرفة فنون البناء التقليدي والإبحار في أعماق تفاصيله، وذلك ما فعله معرض فنون البناء التقليدي لعرض أعمال وابتكارات طلاب المعهد الملكي للفنون التقليدية.
انطلقت فاعلية معرض فنون البناء التقليدي، بمنطقة جدة التاريخية، مستندة إلى الإرث الثقافي الذي تختزله البلاد والتنوع الجيوغرافي والديموغرافي الفريد من نوعه، لتكون في مصاف الدول المتطورة سياحياً وثقافياً وترفيهياً.
ووثق المعرض الذي نظم في بيت نصيف التاريخي، أعمال الطلاب خلال فترتهم الدراسية التي استمرت لعامين، حيث أخذ زواره في رحلة تعكس احترافية الطلاب وجمالية أعمالهم في فنون البناء التقليدي، ورحلة مشاريعهم التي تم فيها دمج ما اكتسبوه من مهارات ومعارف لتطبيقها في أعمال تسهم في مشاريع حفظ وترميم تراث منطقة جدة التاريخية المعروفة باسم (البلد).
تطوير الرواشين
رصدت "اندبندنت عربية" خلال جولتها في معرض "فنون البناء التقليدي" في جدة التاريخية "الرواشين" التي اشتهرت بها المدينة منذ عقود، وتم اختيارها كمشروع لتخرج الطلاب، كونها مهمة في العمارة التقليدية، واستخدمت في واجهات مباني جدة التاريخية، لتكون ساترة لمن في المنزل بجمالية، وبالوقت نفسه تسمح بدخول الهواء والضوء بأشكال متميزة، فتضيف لمسة ساحرة على المنازل.
وأوضح الخريجون أن الروشان الذي طوروه يتكون من ثلاثة أجزاء تساعد على التهوية والتكييف وهي (التاج والجسم والقاعدة)، وصنع بخشب "التيك" وهو أفضل أنواع الخشب تلاؤماً مع ظروف جدة المناخية، كاشفات عن تطوير فكرة "الشيش" الموجودة في المباني للحفاظ على خصوصية أهل البيت، بنفس وظائفه، واستبدالها بـ"المنجور".
الفضول
التقت "اندبندنت عربية" عدداً من خريجي المعهد الملكي للفنون التقليدية، فأرجع المعماري مصطفى أحمد حسان سبب التحاقه بالمعهد إلى البحث عن إجابات لأسئلة كانت تدور في ذهنه وهي "كيف بنيت جدة التاريخية؟"، و"ما هي الأسرار الموجودة خلف هذه البيوت؟" و"كيف تعاملت هذه الحرف وهذه الفنون التقليدية والمعمارية الموجودة في المدينة؟"، مؤكداً أن جميع هذه الإجابات حصل عليها من خلال برنامج دبلوم "فنون البناء التقليدي" على مدار عامين.
وقال حسان إن "هناك تفاصيل كثيرة أعطتنا مفاتيح لنستكشف أكثر، وما تعلمناه كان أشمل وأجمل، فبدأت أنظر إلى التفاصيل الموجودة من حولي بشكل مختلف، وأربط التفاصيل الفنية بالطبيعة، وهذا هو الذي تعلمناه من العناصر الموجودة في البلد، فالعناصر المعمارية متفاعلة مع الطبيعة ومع البيئة ودائماً ما تحمل معاني كثيرة، فعند تصميم شيء أفكر بأن لكل شيء أبعاداً مختلفة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكونه الطالب الشاب الوحيد من بين تسع طالبات مشاركات في دبلومة "فنون البناء التقليدي"، فإن الأمر لا يزعج حسان الذي قال إن "الفنون المستخدمة في عمارة جدة التاريخية زرعت روح العمل الجماعي، فالجميع يعمل باسم مجموعة واحدة، فجدة كلها معمولة بروح جماعية واحدة، وهذا أكثر أمر استفدناه من هذا العمل".
وأبدى حسان فرحته بإقامة المعرض في قلب جدة التاريخية، التي ألهمت المشاركين بفنونها وجمالها.
أما حنان بقلين، فأوضحت أن اهتمامها بتعلم الفنون الإسلامية في جدة التاريخية كان سبباً لالتحاقها ببرنامج الدبلومة، قائلة "فوجئت بوجود هذا المركز الذي يدرس الفن المعماري من الأساسات، حتى وجدنا أنفسنا بين الروشان الموجودة في المعرض حالياً".
وأضافت أنه "على الرغم من خبراتها الهندسة المعمارية، فإن انضمامها إلى البرنامج أضاف لها كثيراً"، مبدية سرورها بالمشاركة في المعرض مع فريق العمل، وكونه مقاماً في موطن التعليم ذاته وهي منطقة جدة التاريخية.
وأفادت بأنه من أهداف المعهد الملكي إحياء الفنون القديمة بطريقتها التقليدية ونقلها إلى أجيال مقبلة، مضيفة: "أكثر ما أبهرني في الفن السعودي، هو الفن التقليدي الموجود في جدة التاريخية والدقة الملحوظة من زخارف وأبواب ورواشين، فجميعها معمولة بنسب وبأشكال هندسية مدروسة، فهذا كان شيئاً جديداً ومبهراً بالنسبة إليّ".
أما الخريجة سماهر باشماخ (مصممة داخلية) فعلى الرغم من أنها تعمل في مشروع ترميم ولي العهد للمنطقة التاريخية، فإنه كان ينقصها كثير من المعلومات والحرف للترميم بالطريقة الأصلية أو التقليدية. تقول "لا بد أن يكون لدينا إدراك بشكل كامل عن الحرفة بأصولها، فالكتب لا تشرح الفنون العملية كونها نظرية، وعلى الرغم من قراءتي لكثير من الكتب، فإنها لم تمنحني المهارة العملية، وسررت بوجود المعهد الملكي الذي تعلمت منه كثيراً بعد التحاقي به، فحقق لي نقلة كبيرة، وأدركت كل ما هو حولي لأعرف كيفية الترميم بالطريقة الصحيحة".
وبينت باشماخ أن المعهد أضاف لشخصيتها كثيراً، فمنحها الصبر والدقة والحرفية العالية والخبرة، حتى أصبحت تربط الزخارف التي تراها في أزقة البلد بالشبكات التي تعلمتها، وكأن واجهات المباني تتحدث عن نفسها وعن روايات ساكنيها.
واعتبرت جدة التاريخية، بيتها الثاني كونها تمضي بين أروقة البلد ساعات طويلة، مؤكدة أنها ستخدم المنطقة بالشكل الذي يلائمها، خصوصاً أنها منطقة ملهمة بالفن والإبداع، كمنازل حارة الشام وبيت السباعي وبيت المال وبيوت باناجة وبيت نصيف ذي العناصر الجميلة، وبيت المتبولي وبه عناصر جبسية أو عناصر نورية، مضيفة: "أغلب البيوت تتميز بأعمالها الخشبية أو النورية، فمنطقة البلد مليئة بالفن المعماري الملهم".
وعن هدف خريجي الدفعة الأولى من المعهد، أوضحت باشماخ أن هدفهم يتمحور حول تطوير المنطقة ونقل ثقافة الفن المعماري التقليدي للأجيال المقبلة، ونشر ثقافة هذا الفن للمجتمع ونقل ثقافة التراث السعودي إلى الخارج.
التمكين في البناء التقليدي
وقدم المعهد برنامج دبلوم فنون البناء التقليدي بهدف تمكين الكوادر الوطنية من خلال الإعداد المعرفي والمهني في مجال البناء التقليدي، وذلك لمدة عامين دراسيين، حيث بلغ عدد المنضمين للبرنامج 11 طالباً وطالبة، في فرع المعهد بجدة التاريخية "البلد"، فيما يتضمن البرنامج مجال التصميم بتعلم الطريقة الفنية الصحيحة لهندسة الزخارف التقليدية في جدة التاريخية ومهارات الرسم والتخطيط، والحرف عن طريق التدريب على المهارات الحرفية في مختلف الأعمال، وذلك بتعميق فهم طريقة بناء وتصميم المباني التقليدية للحفاظ على الموروث الثقافي من خلال أسس علمية موثقة ودراسة بحثية عميقة مرتبطة بالزيارات الميدانية للمشاريع التراثية القائمة في جدة التاريخية، ودراسة الوظائف العملية والجمالية والاجتماعية لفنون البناء التقليدي وامتدادها لحياتنا المعاصرة.
ويعد المعهد جهة رائدة لإبراز الهوية الوطنية وإثراء الفنون التقليدية السعودية محلياً وعالمياً، والترويج لها، وتقدير الكنوز الحية والمتميزين وذوي الريادة في مجالات الفنون التقليدية، والإسهام في الحفاظ على أصولها ودعم القدرات والمواهب الوطنية والممارسين لها، وتشجيع المهتمين على تعلمها وإتقانها وتطويرها.
فنون المعهد الملكي
وتشمل الفنون التقليدية المدرجة في المعهد الملكي للفنون التقليدية: السدو، والقط العسيري، والفخار، والبناء التقليدي، والأعمال المعدنية والخشبية والحجرية، والخط العربي، والتطريز والمنسوجات، والخوص، والفنون الأدائية، إضافة إلى تقديم برامج التعليم المستمر بما فيها الدورات القصيرة والتخصصية، وبرامج التلمذة من ستة إلى تسعة أشهر، والبرامج الأكاديمية التي تبدأ من سنتين فأكثر.
ويعد المعهد الملكي للفنون التقليدية إحدى مبادرات برنامج جودة الحياة، أحد برامج تحقيق رؤية السعودية 2030، وضمن مبادرات وزارة الثقافة الرامية إلى تطوير القطاع الثقافي المحلي وتنميته بالتعليم والمعرفة، حيث يعمل المعهد على توفير برامج تعليمية متقدمة للمواهب والكفاءات السعودية المتخصصة، في قالب أكاديمي يضمن استدامة نشاط الفنون التقليدية في المملكة، ويسهم في نموها وازدهارها.