Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأدب يغوي الفيزياء في سرديات "الثقوب البيضاء"

كارلو روفيلي يستعيد كوميديا دانتي للصعود إلى العوالم المدهشة

الثقوب السوداء كأن لها عيناً (مواقع التواصل)

كثيراً ما وقع الأدب في غواية العلم، وها هي الفيزياء الحديثة تعاود إغواءه بتصورات مذهلة عن الواقع المادي، فيظهر ما يسمى الخيال الكمي الذي استفاد من الاحتمال والإمكانية في صنع عوالم مدهشة. وعلى رغم غموضها، أو ربما بسبب غموضها، أحدثت شروخاً في نسيج السرد بما يتيح التلصص على طرائف وغرائب، كنا افتقدناها طويلاً من عهد الأسطورة.

هذا عن الأدب، المعروف بسهولة إغوائه، فهل من الممكن أن يحدث العكس، كأن يغوي الأدب الفيزياء برصانتها المعهودة ورموزها المحكمة؟

في كتابه "الثقوب البيضاء" الصادر حديثاً عن دار ريفرهد للنشر، يسترشد عالم فيزياء الكم الإيطالي كارلو روفيلي برحلة دانتي إلى العالم السفلي، وهي سابقة لم يكن حرياً بالعلم من قبل أن يهبط من عليائه إليها، لكن السؤال الأهم، ما الذي استدعى جحيم دانتي في رقعة البياض التي يصدرها العنوان؟ أهي مفارقة؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من ربط حزام الأمان والانطلاق مع مواطن دانتي في رحلته "العلمية" إلى أحلك بقعة في العالم، الجوف الأكثر عتمة الذي اصطلح على تسميته الثقب الأسود.

ظهرت الثقوب السوداء للمرة الأولى في معادلات أينشتاين مصحوبة بكثير من الشك والارتياب، حتى إن أينشتاين نفسه اعتبرها مجرد خيال نظري بحت في مجال الفيزياء. في رده الشهير على رسالة من الفيزيائي الألماني ماكس بورن حول لعبة الاحتمالات التي تطرحها الفيزياء الحديثة، كتب بانفعال شديد "إن الله لا يلعب النرد". منذ تلك اللحظة، طفقت الفيزياء تفقد يقينها تدريجاً حتى أصبحت دون منازع، أرض الأحلام المستحيلة.

في عام 2019 وبعد قرون من الجدل في شأنه، تمكن العلماء من رصد أول ثقب أسود وخرج هذا الكيان المخيف من منطقة الجدل إلى حيز الواقع الأكيد، ليذهب يقين أينشتاين في استحالة وجودها إلى أعماق الجحيم. وعلى عادتهم، راح العلماء يجهدون عقولهم في الرصد والبحث والتنقيب كي نتعرف على جارنا الجديد، أو بالأحرى، الذي ندركه لأول مرة.

إنه ببساطة جثة لنجم ضخم، كان يوماً ما، شديد السطوع لدرجة يتعذر معها التخيل باحتمالية نفوقه. غير أن هذا ما يحدث بالضبط حين تنفد طاقته مثل أي كائن حي. آنذاك ينضوي النجم على نفسه منضغطاً مثل كرة الغولف متحولاً إلى ثقب في نسيج الكون الممتد بلا انقطاع، ونتيجة الفراغ الهائل داخله، يكتسب قدرة خارقة على شفط كل ما يتجرأ على الدخول في مجال جاذبيته التي لا يمكن حتى للضوء الفكاك منها. إن هالة الغاز الساخن التي تدور حولها هي شهادة على فراغ مريع في المركز.

على رغم الخشية، وكما هبوط فرجيل مع الشاعر الملحمي إلى أعماق الجحيم، نهبط مع روفيلي داخل ثقب أسود مستأنسين في هذا الفراغ المهول، بكلمات دانتي الساحرة في وصف الداخل الجهنمي، "هناك في عماء العالم السفلي"، نجد أنفسنا في فضاء غير كروي وفق معادلات أينشتاين التي أشارت إلى أنه أشبه بقمع يضيق كلما استطال مع مرور الوقت، وفي "العمق النهائي والدهليز الأكثر ظلمة. والأكثر بعداً من السماء التي تلفنا"، كما أبعد دائرة في الجحيم عند دانتي، تصل كثافة المادة إلى اللانهائية في مركزه "التفرد"، وهي ظاهرة لا يمكن أن تحدث في الطبيعة، وهناك، مع توقعك الوصول إلى طريق كوني مسدود، ثمة مفاجأة بانتظارك.

بوابات العبور

على رغم الجهود المبذولة وما توصل إليه العلم من أفكار مذهلة، فإن مصير المواد التي أسرت في الداخل، ظل من الألغاز المستعصية على الحل. البعض رجح أنها نقطة اختراق تدفع إلى مستقبل بعيد لا يمكن التحقق منه، بحيث لا وسيلة للاتصال بمن نجح في اختراقها وربما لن تكون. والبعض وجد أن من الصعب خروج المادة سليمة بعد كل ما تعرضت له من ضغط وتشظٍ. هنا تبرز أهمية كتاب روفيلي الذي يعتمد على فيزياء الكم لرسم جسر زمني يربط بين الماضي والمستقبل على نحو يقترب من الخيال العلمي. يقترح روفيلي أن المادة التي تنضغط إلى ما يجاوز الحد الأقصى، تفلت من قوانين النسبية العامة مفسحة المجال لميكانيكا الكم. وبما أن فيزياء الكم هي فلسفة اللايقين، تتحول جزيئات الفضاء إلى سحب من الاحتمالات، ويصبح المستحيل سابقاً ممكناً. يستغل روفيلي كل ذلك ليشير إلى أن النجم الموجود في مركز الثقب الأسود، الذي يحاول الانهيار إلى عدم، قد يصل إلى نقطة من عدم اليقين الكمي تسمح له ب"الارتداد" إلى الوراء عبر الزمن، وهنا يتحول الأسود إلى الأبيض، مثلما يرى دانتي بياتريس، وفجأة تغمرها أشعة الشمس، و"نحلق إلى الجانب الآخر من المكان والزمان".

إذاً، هناك عبور ما، نقطة يستطيع الضوء فيها التسرب من الثقب الأسود في نهاية القمع، وهذا معناه انطلاق الطاقة، من ثم بدء الزمن من جديد. الثقب الأبيض إذاً هو زمن استعادي، رجوع القهقري إلى الوراء، وبينما لا يمكن لأي شيء الهرب من الثقب الأسود فإن تحوله فجأة إلى اللون الأبيض في تقلبات كمومية يسمح بطرد كل ما بداخله ولا يسمح لأي مادة بالدخول. إنه الوجه الآخر للعملة، بوابة الخروج، يطرد فحسب. الأسود يتجه إلى المستقبل والأبيض إلى الماضي السحيق، وخارج هذا الدهليز الدودي نعيش الحاضر لنرصد غرائبه بخوف.

في الجانب الآخر من المرآة

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نرى الثقوب البيضاء تلمع في صفحة السماء ليلاً؟ يجيب روفيلي لأن الرياضيات تؤكد أن الثقب الأبيض يبدو تماماً مثل الثقب الأسود من الخارج. علاوة على ذلك، فإن الثقب الأسود يصبح أبيض اللون فقط عندما "يتبخر" جزء كبير من أفقه، لذلك ستبدو الثقوب البيضاء أصغر بكثير، حيث يتقلص حجمها إلى شكل من ذرات الثلج أو الغبار المتناثر في جميع أنحاء الكون، أو "نقط بيضاء صغيرة في السماء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يأخذنا روفيلي في رحلة استكشاف رائعة لندرك معنى الأفق بالنسبة إلى لزمن، كتب يقول "... إذا اقتربنا من أفق (الحدث) وتجاوزناه، فإن ساعاتنا لا تتباطأ ولا يحدث شيء غريب للفضاء من حولنا، كما لا يحدث شيء غريب للسفينة عندما تعبر خط الأفق وتختفي عن أنظارنا". إنه الانحناء، تشوه نسيج الزمكان، لذلك تسمى تلك الثقوب بالزمكانية، المفهوم الغامض لتداخل الزمان في المكان. ولعل ما يساعدنا على المواصلة، حقيقة أن روفيلي لا يستهدف إلا القارئ العادي، لذا اضطر إلى التضحية بالمعادلات الرياضية التي لا بديل عنها في فهم الفيزياء، حيث لا تستطيع الظاهرة كشف حقيقتها بوضوح تام ومقنع، إلا من خلال الأرقام والرموز، لكن روفيلي يكتب لفئتين، "أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن الفيزياء، وأولئك الذين يعرفون القليل جداً".

أما بالنسبة إلى المتخصصين الذين لا يروقهم افتقار المادة إلى أدق التفاصيل، فلسوف ينتقدونه بشدة، لا سيما أنه يمر سريعا كالقطار على موضوعات عدة تمتد على أقل من 200 صفحة، وتشمل ملخصاً سريعاً لكتاب ستيفن "تاريخ موجز للزمن" في فصلين قصيرين، ونسبية أينشتاين التي أوصلتنا إلى أن "وقتك ليس وقتي"، وأن تدفق الزمن نسبي يعتمد على مدى سرعة المراقب بالنسبة إلى غيره أو مدى قربنا من الأجسام الضخمة (مثل الثقب الأسود)، ولكنه من هذه الملاحظات والمرور السريع على مصادر متنوعة، ووعيه المرن بمدى تأثير الأدب في الوصول إلى حقيقة الكون، بكل هذا، يجسر طريقاً نحو نظرية جديدة عن الثقوب السوداء ومصيرها، تسحبك إلى قلب الثقب الأسود ثم تخرجك من الجانب الآخر.

الكون في راحة اليد

في دراسة أجريت عام 2020 حول أوجه التشابه بين الكون والعقل البشري، توصل البحث إلى نتائج مثيرة في شأن درجة التطابق المذهلة بين عقل الإنسان وبنية الكون، سواء على مستوى التركيب أو آلية العمل. إنها تزعم أن الكون عقل ضخم لكائن علوي الأبعاد لا يكاد يختلف عن العقل البشري إلا في فورية الإرسال والاستقبال، بينما يمتد الطريق عبر المجرات طويلاً لدرجة أن إرسال واحد قد يستغرق من الضوء عمر البشرية كلها قبل أن يصل بأول استجابة. مع ظهور تلك الجسور الأسطورية، الدهاليز المختصرة، تنشأ روابط سريعة وموجزة تختصر الزمان والمكان ولا تقل فورية عن آلية عقل الإنسان. فهل نحن بدورنا عقل ضخم بالنسبة إلى كائنات تسكن بالداخل، وهذا ما يفسر سر الارتباك المزمن، أم إننا مجرد أفكار صغيرة تتشكل في عقل عظيم؟ تجري علينا سنن التطور كما تتطور الشخصيات في النص، وهو ما يفضي في النهاية إلى تطور مبدعها، إذا كنا مجرد أفكار في مخيلة إبداعية مذهلة، كيف إذاً اكتسبنا الوعي، عساه تخلق من تراكب الأفكار وتشابكها مع بعضها. وما حقيقية تفسير العلماء لظاهرة تأثير الملاحظ حد أن يدفع الذرة إلى تعديل سلوكها؟ قديماً تخيل أسلافنا لو تمكنوا من الطيران، ووصل الحلم بأحدهم إلى الموت ساقطاً من حالق، فإذا بالكون يقدم لأحفاده طائرة. وفي الأساطير كتبنا عن كرة الساحر البلورية التي تنقل الأحداث من بلاد بعيدة، فإذا بالكون يتحول إلى شبكة صغيرة، والآن جاء دور مركبة الزمن لتخرج من أفلام هوليوود وقصص الخيال العلمي، وتحقق الحلم بالسفر عبر الزمن، ما معنى هذا؟ يقول كارل ساجال "الكون داخلنا، نحن المصنوعين من غبار النجوم، ونحن الوسيلة التي بها يعرف الكون نفسه".

اقرأ المزيد

المزيد من كتب