Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أدبيات "الموبايل" والشاشات الصغيرة تثير سجالا حول شرعيتها

نصوص شعرية وسردية هجينة تمزج بين خصائص الأدب الورقي والتقنيات الإفتراضية

تطور وسائل الكتابة وصولاً إلى الموبايل (اندبندنت عربية - رسم علاء رستم)

لا تقتصر الرقمية بمعناها الواسع، في ميدان الأدب، على آلية بث الكلمات والصور والرسوم وغيرها من عناصر المنتج الإبداعي المتشابكة بصيغة إلكترونية، سواء على أسطوانات مدمجة أو عبر شبكة الإنترنت، فالرقمية تتجاوز ذلك بكثير، لتقترب من أن تكون أسلوب حياة يسود الواقع الراهن، في القرية الكونية الصغيرة، في سائر الأنشطة والتعاملات اليومية.

وبالتالي، فإن انعكاسات هذه الرقمية على الأدب قد تخللت نسيجه وأطلقت محتواه ورؤاه وأفكاره في فضاءات مغايرة، وتلك المضامين الجديدة المختلفة، القائمة على التثوير والإدهاش والدينامية والمشاركة اللحظية مع المتلقي، هي جوهر رقمنة الأدب، الأكثر أهمية من وعاء نشره غير الورقي بالضرورة، الذي توقف عنده كثيرون من دون أن يتخطوه إلى طبقات أعمق.

مفاهيم تشاركية

في هذا الإطار، سعى بعض المؤلفين العرب منذ فترة غير بعيدة إلى بلورة ملامح الرواية التفاعلية، بالمزج بين خصائص الأدب الورقي من سرد وحوار، والمستجدات الحركية والسمعية والبصرية والتخييلية والافتراضية، والتقنيات التشكيلية والتجسيمية، مع إعطاء أدوار للمتابعين للدخول إلى عوالم النص، وربما المشاركة في وقائعه وإحداثياته.

وتمثل روايات الأردني محمد سناجلة بوادر هذه التجارب، كما في "شات" و"صقيع" و"ظلال الواحد" و"ظلال العاشق"، وهي تفتح الأدب على برمجيات متطورة في مجالات الأنيميشن والغرافيك والتصوير والإخراج وغيرها. وراح مطوّرون آخرون في وقت لاحق، مثل المصرية ريهام حسني في روايتها "البرّاح"، صوب انعطافات تكنيكية وإجرائية أكثر عمقاً وتعقيداً، مع توظيف "الهولوغرام" للتشخيص، و"الواقع المعزز" لمزج الخيال بالحقيقة.

وعلى الرغم من هذه المحاولات الروائية الأولية، وغيرها، فهي اتهمت بأنها لم تنسلخ كلية من جذور الطرح الورقي الاعتيادي من حيث صياغة العمل وبنائه. إنها بلا شك رسّخت للانطلاق نحو التفاعلية والرقمية، وآثرت أبجديات انفتاح الأدب على الإحالات والروابط الإلكترونية والمفاهيم التشاركية، الأمر الذي فتح المجال واسعاً لأدبيات متنوعة، في السرد والشعر، ملأت الفضاء الإلكتروني خلال الفترة الوجيزة الماضية، سواء عبر مواقع الإنترنت، أو صفحات التواصل الاجتماعي.

تطورات مذهلة

مع انجراف ملايين المتفاعلين العرب إلى السوشيال ميديا، وبرامج أمازون كندل القرائية، وانتشار التعليم الإلكتروني، والتثقيف عن بُعد، والفنون الافتراضية وعروض الأونلاين، وذيوع النشر الرقمي بصفة عامة كبديل عن الورقي، وتصاعد إجراءات العزل الاجتماعي، ازداد تدفق التيمات الإبداعية المبتكرة، خصوصاً تلك الصيغ الأحدث، الملائمة لأجهزة الموبايل والشاشات الصغيرة. وهي أنساق شعرية وقصصية بالغة التكثيف في أغلب الأحوال، ومضية، خاطفة، مثيرة للجدل من حيث قيمتها المجردة، ومدى أهليتها لتجسيد ألوان أدبية جديدة مستقلة بذاتها.

 

لم تأتِ هذه النثارات الإبداعية الرقمية الموجزة من فراغ، فهي منحدرة من أشكال شعرية وسردية حديثة ذات مسمّيات متعددة، عرفتها صفحات المبدعين العرب الشخصية ومواقعهم الإلكترونية، من قبيل: القصيدة المضغوطة، قصيدة النانو، الهايكو العربي، قصيدة الومضة، القصة القصيرة جداً، سرديات التيك أواي، وغيرها. ومع انتشارها الجنوني كالطوفان، اختلط الحابل بالنابل، وصار العمق الإنساني المنشود نادراً وسط ركام الخواطر الضحلة والكتابات الاستسهالية المجانية.

لقد تولدت أدبيات الموبايل والشاشات الصغيرة من رحم الإيجاز، فهي التكييف العصري للإرهاصات العربية في هذا المضمار، ومنها "الهايكو العربي"، الذي يقدم ذاته بين صنوف الأدب الحديث بوصفه برقاً خاطفاً أو لقطة عصرية للحاضر الراهن، وهو للحظة الحالية من أنسب الوجوه الإبداعية للبث الرقمي من خلال الشاشات الصغيرة.

وتمتلئ الصفحات الإلكترونية بمحاولات تقديم هايكو بنكهة عربية، غير منقطع الصلة عن مواصفات الهايكو الياباني والغربي (التماهي مع الطبيعة، الارتجالية، الطفولية، اللاذهنية، مواسم السنة وفصولها، عدد الكلمات والنسق الموسيقي...)، كما في صفحة السوري رامز طويلة، الشاعر و"الهايكست"، مؤسس موقع "هايكو وشعر"، على سبيل المثال، ومن نماذجها: "دائم الخضرة/ أيها الجبل/ وإن توشَحتَ بياضَ الثلج".

وتعج فضاءات الإنترنت بآلاف الصفحات العربية المشابهة التي تقدم ما يسمى بالهايكو العربي، مثل: رابطة شعراء الهايكو العرب، نخبة شعراء الهايكو، هايكو دوت كوم، نبض الهايكو، مدرسة الهايكو العربي، وغيرها. وأغلبها تتيح النشر المباشر لأعضائها، الذين قد يكونون من الهواة، وغير المتعمقين في فهم فلسفة الهايكو ومحدداته، بل إنها قد تدفع القارئ العادي إلى أن يكون شاعر هايكو، من خلال عدة "حصص" للتعلم السريع، ما يقود أحياناً إلى طرح "ذهنيات" أبعد ما تكون عن روح الهايكو، وبثها عبر الموبايلات والشاشات الصغيرة كقصائد هايكو، من قبيل "في المُعتَقَل/ آثار أقدام السجين/ أكبر من حِذائه"، للسوري أحمد قسيم الرفاعي. 

 

ومن تجليات الكتابة الشعرية المكثفة جدّاً كذلك قصيدة "النانو"، التي يعرّفها الشاعر العراقي أسعد الجبوري في "مشروع الشعر المضغوط" بأنها نتاج مجموعة من الأدوات والتقنيات والتطبيقات التي تتعلق بتصنيع بنية معينة وتركيبها باستخدام مقاييس في غاية الصغر، ومن نماذجها: "بمجرّدِ أن يكتبَ عن تَغيّبِ الشمس/ تحترق السبورةُ وتسقط جدرانُ الأجفان". وهناك أيضاً "قصيدة الومضة"، ذات الكلمات القليلة، كتلك التي يكتبها السوري مصطفى سعيد على هيئة برقيات: "فتاةٌ مـكـوَّرَةٌ/ إنها الأرض".

وعلى الصعيد السردي، هناك القصص القصيرة جداً، أو سرديات "التيك أواي"، التي تُكتب لقطاتها المختزلة خصيصاً من أجل البث عبر الموبايل في بعض الأحوال، كما في تجربة القاص المصري الشاب حسن الحلوجي "رسم قلب"، حيث قد تتقلص القصة المكتوبة والمبثوثة عبر الموبايل إلى ثلاث كلمات فقط: "راحته... بسط راحته".

إطار تسويقي

تندرج نسبة غير قليلة من أدبيات الموبايل والشاشات الصغيرة، العربية وحتى العالمية، ضمن منظومة استهلاكية، شأنها شأن الرسائل الميديوية والفيديوية والإخبارية عبر الوسائط الإلكترونية ذاتها. ومن ذلك غالبية الإبداعات والكتب التي يجري تسويقها تجارياً عبر تطبيقات "أمازون كندل" مثلاً، وهي مصنفة عادة ضمن "الأكثر مبيعاً"، وربما تنشر ورقياً بالتوازي. وكتلك المقاطع الشعرية المسموعة لشعراء معروفين من مُجيدي الإلقاء والإنشاد، بالعربية الفصحى واللهجات العامية، والتي يجري ترويجها أحياناً كنغمات للموبايل، مثلها مثل مقاطع الموسيقى والأغنيات والأدعية الدينية الشهيرة.

وهناك كذلك الروايات البوليسية، والتشويقية، والحكايات الشعبية، والملحمية، والأسطورية، التي تصاغ بأسلوب سهل يلائم القارئ العادي البسيط، ويجري تمريرها إلكترونياً على أجهزة الموبايل والشاشات الصغيرة، وتلقى رواجاً كبيراً، لكون التلقي بهذه الطريقة يوفر مناخاً دافئاً وحميمياً للقارئ أو مستخدم الموبايل، ذلك الجهاز السحري الأقرب إلى اليد والقلب من الكمبيوتر العادي الكبير. كما أن تقنية اللمس تمنح المتلقي إحساساً مختلفاً بالقبض على محتوى النص، واستشعار ما فيه من نبض حيوي، والتعاطي الخصب معه بشكل مباشر.

إن تلك النصوص التفاعلية، التي تمزج الكلمات والأصوات والموسيقى والحركة والألوان وغيرها من العناصر والمفردات، يفترض أنها تخوض هذه المغامرات من أجل كسر الأبنية النمطية المتوارثة في الإبداع الورقي، وتطمح إلى تقديم صورة ملائمة للعصر الحديث، بما فيه من تحوّل صوب الرقمنة والمكننة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن هذه الأعمال والتجارب قد تبدو في بعض الأحوال مجرد انزياحات شكلانية من دون تفجير مضموني مماثل. أي أن أسلوب النشر هو وحده الذي يكون مختلفاً، لكن الطرح ذاته يظل بعقلية ورقية، إلى جانب ما قد يعتري هذه النصوص من سذاجة وتسطيح، ربما حد الابتذال، بغية مخاطبة مستويات تعليمية متدنية، واستقطاب أكبر عدد من المتابعين. وهو الأمر الذي يفسّر ندرة المقاربات النقدية والأكاديمية الجادة لمثل هذه الأنواع الوليدة، التي لم تُثبت بعد نضجها ورسوخها بالشكل الكافي، على الرغم من تفوقها التقني النسبي.

ويبدو مدهشاً، أن منصة أمازون الشهيرة قد لجأت إلى بث أعمال ورقية تقليدية بصيغة رقمية، كما هي، على أجهزة كندل الصغيرة، من دون أي تطوير لمحتواها، ما يعني أن النشر الرقمي لم يضف جديداً، ولم ينتج منه سوى المكسب التجاري ببيع نسخ إلكترونية لمؤلفات ورقية رائجة، منها على سبيل المثال: "عزازيل" ليوسف زيدان، و"أرض الإله" لأحمد مراد، و"تاكسي الكلام" لخالد الخميسي، ومؤلفات أحمد خالد توفيق، وغيرها.

هكذا، فإن المسار لا يزال طويلاً لبلورة أدبيات الموبايل والشاشات الصغيرة في عالمنا العربي، فهي لكي تعبر عن نفسها كأنساق مستحدثة، عليها الخلاص التام من ميراثها الورقي، والإرتقاء فوق مستوى الخواطر الهشة "الأونلاين"، وتجاوز الرقمية كهيكل ووعاء وتقنية توصيلية نحو فلسفة مضمونية رصينة وقراءة واعية لمكابدات الحياة الجديدة المتسارعة، التي هي في أمسّ الحاجة إلى إبداع يعيد إلى الإنسان عمقه ونقاءه واتزانه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة