ملخص
ما البنود غير المطبقة من اتفاق بريتوريا الشامل للسلام، وما مسؤولية الاتحاد الأفريقي عن إلغاء جزء منه أو عدم تنفيذه لسبب أو لآخر، وهل يؤدي ذلك إلى إمكانية العودة إلى النزاع المسلح بين الطرفين؟
تزامناً مع الذكرى الأولى لتوقيع اتفاق بريتوريا للسلام الموقعة بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، برعاية الاتحاد الأفريقي، وضمان حكومة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، استغل قياديون سابقون في الجبهة تلك المناسبة لتقديم رؤيتهم حول الاتفاق، وما اعترى مسيرة تطبيقه من معوقات وكوابح سياسية وقانونية وإجرائية، وذلك في رسالة إلى قيادة الحزب الحاكم في إقليم تيغراي.
ويرى هؤلاء الساسة أن الجبهة باعتبارها أحد الموقعين على الاتفاق، أمامها فرصة تفرضها الضرورة القانونية والسياسية، من خلال المادة 15 من الاتفاق، للمطالبة بتعديلات عاجلة، وإدراج بند لآلية مساءلة دولية، حول مزاعم وقوع جرائم حرب و"تطهير عرقي" واسع استهدف التيغراويين، وأكدوا أن ثمة حيلاً قانونية تستخدمها الحكومة المركزية الآن، لتجنب المتابعة القانونية، أهمها التلويح بملف "العدالة الانتقالية" واستغلاله كممر آمن للمتهمين للإفلات من العقاب.
واعتبر القياديون أن اتفاق بريتوريا للسلام يفتقر إلى أحكام قانونية محددة وواضحة، تضمن سلامة وحماية المدنيين في إقليم تيغراي، وتحتكم لقواعد القانون الدولي، من ثم فثمة ضرورة لتعديل الاتفاق بحيث تتضمن أحكاماً صريحة في هذا الصدد، كما عدد القياديون جملة من العوامل التي أسهمت في عدم تنفيذ معظم بنود الاتفاق حتى الآن.
فما البنود غير المطبقة من اتفاق بريتوريا الشاملة للسلام، وما مسؤولية الاتحاد الأفريقي عن إلغاء جزء من الاتفاق، أو عدم تنفيذه لسبب أو لآخر، وهل يؤدي ذلك إلى إمكانية العودة إلى النزاع المسلح بين الطرفين اللذين عاشا فترة هدنة خلال العام الماضي، وهل ثمة إمكانية وفقاً لروح ونص الاتفاق إلى تعديل بعض بنودها كما يطالب بعض التيغراويين؟
مسار الاتفاق
من جهته يرى سلمون محاري المتخصص في الشأن التيغراوي، أن الاتفاق الموقع منذ عام، نجح في تحقيق الهدف الرئيس له والمتمثل في "إنهاء عامين من الحرب الأهلية الدامية في البلاد، لكن تداعياته الأساسية آخذة في الاتساع، وثمة عوامل أخرى أسهمت الحرب الأخيرة في تعميقها أكثر، من بينها الفقر المدقع، والنزوح وانهيار مقدرات التنمية في تيغراي، مما ينذر بإمكانية انفجار الأوضاع بشكل مختلف".
يقول محاري لـ"اندبندنت عربية" إن الاتفاق الذي لم يتم توقيعه من جانب أطراف النزاع فحسب، بل وأيضاً من جانب لجنة وسطاء تابعة للاتحاد الأفريقي، وحكومة الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها الجهة الضامنة، فشل في الوفاء بعدد من الوعود الأساسية التي قطعها على نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف أن "الاتحاد الأفريقي ظل يفيد بأن نزع سلاح قوات تيغراي قد تم إنجازه إلى حد كبير، وأن الجبهة شكلت إدارة إقليمية موقتة، بموجب الاتفاق، إلا أن فشل الحكومة الفيدرالية في استعادة أراضي تيغراي الغربية، من القوات الأمهرية والإريترية، وحماية المدنيين في الإقليم من الأعمال العدائية، فضلاً عن عدم قدرتها على إنفاذ بند (نزع السلاح) بخصوص الحركات الأمهرية المسلحة، كل ذلك يشير إلى عجز إدارة آبي أحمد، عن تنفيذ التزاماتها"، منوهاً بأن ثمة أسباباً كثيرة تدفع التيغراويين، على عكس المبعوثين الغربيين والأمم المتحدة، للاعتقاد أن اتفاق بريتوريا لم يحقق ما وعد به.
وأوضح المتخصص في الشأن التيغراوي أن "هناك تجاهلاً واضحاً لبنود جوهرية في الاتفاق، فعلى رغم مرور عام على التوقيع فإن القوات الإريترية وكذلك الأمهرية لم تنسحبا من تيغراي، مما يصعب إمكانية عودة النازحين إلى مناطقهم، كما تم تجاهل الحاجة إلى وصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق، وإعادة إعمار تيغراي، إذ يبدو أن الحكومة الفيدرالية تفتقر إلى الدافع لذلك، بخاصة أنها حققت مطالبها الأساسية من الاتفاق، والمتمثلة في نزع سلاح الجبهة، واعتراف الأخيرة بأن الجيش النظامي، هو القوة المسلحة الشرعية الوحيدة في البلاد، فضلاً عن الاعتراف المتبادل بين حكومتي تيغراي الفيدرالية، وأديس أبابا المركزية".
البنود المجهضة
ينوه محاري بأن ثمة مواد في الاتفاق، قد أجهضت، فيما تم الالتفاف على مواد أخرى، ربما باتفاق الطرفين، لأنها تمثل عبئاً عليهما، في مسار تقاسم السلطة والثروة، مما يدفع التيغراويين للاعتقاد أن الاتفاق لم تلبِ تطلعاتهم الأساسية في العدالة والسلام.
ويشير إلى المادة 10 من الاتفاق الموقع، التي تنص على أن "الأطراف تلتزم بحل قضايا المناطق المتنازع عليها وفقاً لدستور جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية"، مما يعني انسحاب جميع القوات إلى حدود الثالث من نوفمبر 2020، ومعالجة القضايا الخلافية لاحقاً، عبر أحكام الدستور الإثيوبي، في حين لا تزال المناطق الغربية في إقليم تيغراي تخضع لسيطرة القوات الإثيوبية والأمهرية والإريترية، التي لا تزال تتعاطى مع هذه المناطق المتنازع عليها، باعتبارها "غنيمة حرب" خصوصاً أنها تشكل الممر البري الوحيد لتيغراي نحو العالم الخارجي، ومن ثم خنق الإقليم وحرمانه من صلاته بالحدود الدولية، بغرض قطع الطريق على أي إمدادات عسكرية واقتصادية.
ويوضح أن "غرب تيغراي يعد ممراً اقتصادياً للإنتاج الزراعي، من ثم يوفر المداخيل النقدية، والحكومة الموقتة في تيغراي، تدفع بمطالبها للحكومة المركزية، بضرورة انسحاب جميع القوات من الغرب، إلا أنها لا تملك الآلية الضرورية لإجبارها على تنفيذ هذا البند العالق، لا سيما وأنها لا تمتلك القوة العسكرية الرادعة، كما تفتقد للشرعية الانتخابية، وتتعرض لضغوط داخلية قوية".
بخصوص المواد الأخرى الملتف عليها، باتفاق صامت بين الطرفين، يقول محاري إن اتفاق بريتوريا ينص على "إنشاء آلية للرصد والتحقيق في شأن مزاعم ارتكاب جرائم حرب وتصفية عرقية أثناء فترة الحرب، تعمل تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، وبمشاركة خبراء من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة"، منوهاً بأن "آلية التحقيق لم تنطلق، ويتم تجاهل الإشارة إليها كجزء من استحقاقات الاتفاق، إذ إن الاتهامات تلاحق طرفي النزاع بارتكاب انتهاكات واسعة قد تصل إلى جرائم حرب".
وأوضح أن إحدى طرق الالتفاف على هذه المواد، ما يتم ترويجه عن مشروع "العدالة الانتقالية"، التي قد تمثل سبيلاً لإفلات الطرفين من العقاب، مؤكداً أن المادة 15 من الاتفاق توفر الأرضية القانونية للمطالبة بإدراج بند لآلية المساءلة القانونية الدولية، موضحاً أن مطالب بعض قياديي الحزب الحاكم في تيغراي تكتسب شرعية قانونية وسياسية وفقاً لهذه المادة.
الجائز والمحظور
بدوره يرى المتخصص في الشأن الإثيوبي، طلاهون تفري، أن اتفاق بريتوريا "تتجاهل الأصوات المتنوعة داخل إقليم تيغراي، إذ وقعت جبهة تحرير تيغراي بمفردها على الاتفاق كممثل للإقليم"، مؤكداً أن ذلك يمثل عامل ضعف للاتفاق، لكنه يوضح أن قبول الجبهة كطرف أوحد ممثل للإقليم، فرضته ضرورات الحرب، باعتبار أن الجبهة كانت مسيطرة على الوضع العسكري، إلا أن ذلك لا يمنحها الشرعية القانونية والدستورية، لتحديد مصير الإقليم.
ويقر طلاهون بأن الاتفاق في حد ذاته مرن، وثمة إمكانية لإحداث تعديلات عليه، من دون الإخلال بالبنود الجوهرية، بشرط أن تتم التعديلات بغرض تعزيز الالتزامات الأصلية وليس التراجع عن الوعود، لأن الفشل في التكيف مع الاتفاق قد يدفع الطرف غير الراضي إلى التخلي عن الاتفاق، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من الفظائع.
ونوه بأن ثمة "مخاوف جدية في شأن شرعية الاتفاق ومدى امتثالها للمعايير القانونية الدولية الأساسية، إذ تفتقر بعض بنودها إلى أحكام واضحة، تدعم المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وتضمن إجراء تحقيق مستقل ونزيه في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي وعدم تكرار الجرائم أو العودة إلى النزاع المسلح.
ويؤكد أن الحاجة إلى وقف إطلاق النار، وإيقاف حمام الدم، قد دفع الاتحاد الأفريقي، والشركاء الدوليين، إلى تجاوز عدد من القضايا المتعلقة بالقانون الدولي، إلا أن ذلك لا يمنع من إمكانية إعادة النظر في بعض البنود، مع الحفاظ على المواد الأساسية.
ويرى المتخصص الإثيوبي أن الاتفاق ينبغي أن يبقى في منأى عن الصراعات السياسية القائمة على تقاسم مستحقات السلطة والثروة، بين الحزبين الحاكمين في أديس أبابا ومقلي، معتبراً أن "نظام العدالة الانتقالية" الذي تضمنه اتفاق بريتوريا، ويتم الترويج له عبر المنابر الحكومية في الجانبين، يبدو مليئاً بأوجه القصور، وأبرزها الافتقار إلى الحياد والكفاءة وغياب الإرادة السياسية، وهي ثلاث سمات لا غنى عنها في أي آلية قضائية ذات صدقية، بحسب قوله.