Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تحت القصف... رحلة البحث عن مأوى في غزة المنكوبة

قصص مآس وعذابات تظهر ضعف المدنيين بوجه آلة الحرب

شبان فلسطينيون يلفهم الحزن أثناء البحث بين أنقاض مبنى دمرته غارة إسرائيلية في خان يونس، الخميس 19 أكتوبر الحالي (أ ب)

ملخص

"فقدنا الكهرباء والمياه والسلع الاستهلاكية الأساسية، وجميعنا مهدد في ظل استهداف كل شيء حتى مراكز الإيواء"

"نقيم في مركز للإيواء ولا نعلم أين سنكون غداً" بهذه الكلمات بدأ ناهض منصور (46 سنة) سرد معاناته هو وأسرته بعد تدمير منزله إثر غارات إسرائيلية طاولت حي الكرامة شمال غربي غزة. يلتقط الشاب الأربعيني أنفاسه قبل مواصلة كلامه، "من أكثر الأشياء التي تزعجني أسئلة أولادي المتكررة في شأن المستقبل".

تتشابه ظروف ناهض ومأساته مع أكثر من مليوني فلسطيني ممن يعيشون في قطاع غزة، هو لا يعرف مثلهم متى ستنتهي الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بين الجيش الإسرائيلي وحركة "حماس"، والمصير الذي ينتظرهم بعدها، لكنه اكتفى بشرح الظروف الصعبة التي يعيشها يومياً منذ بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية على غزة، ويقول "قصف منزلنا وتحولت أبراج الكرامة إلى ركام، وانقطع التواصل بشكل كبير بين أفراد العائلة في ظل صعوبة الاتصال عبر الهواتف والإنترنت".

هجرة داخلية

كان منزله من بين المنازل التي تضررت أو دمرت عندما قصفت إسرائيل المنطقة التي يعيشون فيها، ويؤكد ناهض، الذي ما زال يبحث عن مكان آمن للاحتماء مع زوجته وأطفاله، أن الحياة في جميع أرجاء غزة أصبحت شبه مدمرة، والجميع إما يعيش في مراكز إيواء أو في مدارس وكالة الغوث (أونروا)، أو انضموا إلى أقربائهم في مناطق أقل خطورة، وتابع "حياتنا أصبحت عبارة عن هجرة داخلية من منطقة إلى أخرى".

ويعود ناهض بالذاكرة القريبة إلى ليلة استهداف منزله، فيقول "تم تدمير 13 برجاً، كانت وجهتنا الأولى مستشفى الشفاء، فكنت بين الذين ذهبوا إلى هناك"، لكن نتيجة اكتظاظ المركز الطبي بالنازحين والمصابين يشير إلى أنه اضطر إلى البحث عن مكان آخر، وكان تخوف ناهض من احتمال استهداف المستشفيات محقاً، وقلقه من أنها ضمن حيز الاستهدافات كان في محله، إذ قتل مئات الفلسطينيين بينهم أطفال في غارة جوية على مستشفى المعمداني بغزة أول من أمس الثلاثاء، وسط اتهامات متبادلة بالتسبب بالهجوم.

وتفاعل مع الحادثة قادة وزعماء، كما نددت دول خليجية بالقصف. وألغى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس اجتماعاً ثنائياً كان مقرراً مع الرئيس الأميركي بايدن إثر الحادثة، وأعلن الأردن إلغاء قمة رباعية كانت مقررة أمس الأربعاء في عمان بمشاركة بايدن وعباس والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.


رحلة الشتات

وحول كيفية تعاطي سكان غزة مع مثل هذه الأجواء الملتهبة يقول ناهض لـ"اندبندنت عربية"، "اعتدنا الحروب وتأقلمنا عليها، لكن هذه المرة الأمر مختلف تماماً، إذ لم نكن نتخيل وصول الدمار إلى هذه الدرجة".

وروى المواطن الغزاوي، وهو أب لأربعة أطفال، تفاصيل الأيام الصعبة التي مرت عليه قبل أن يتمكن من لم شمل أسرته من جديد، وقال "أول أيام الهجوم على غزة، أخبرت زوجتي أن تغادر المنزل لأنني توقعت استهداف المنطقة، وبسبب ظروف عملي لم أستطع العودة". وأضاف "بالفعل، توجهت زوجتي إلى أهلها عند دوار أبو مازن وتعرض المنزل للقصف، لكن في اليوم التالي تعرضت المنطقة التي وصلوا إليها للضرب، وأُصيبت زوجتي وأحد أبنائي بشظايا الزجاج، واضطروا للنزوح إلى مكان آخر".

واستذكر ناهض كيف أنه لم يستطع رؤية أسرته إلا بعد أسبوع من حرب غزة، وروى تفاصيل ذلك اليوم، "كانوا في وضع نفسي سيئ للغاية، وعندما أخبرتهم أن الشقة دمرت، وشاهدوا الصور التي بحوزتي أصيبوا بصدمة". وأضاف "سألني أولادي عن مكان إقامتنا المقبل وكيفية الذهاب إلى المدرسة وما سيحدث لهم، لكنني أخبرتهم أنني لا أمتلك إجابات".

حين عاودنا الاتصال بناهض أخبرنا بأنه انضم مع أسرته إلى 15 فرداً آخرين وقطعوا الطريق نحو الشيخ عجلين، كما قال قبل أن ينقطع التواصل معه "كان معنا أطفال ونتنقل سيراً على الأقدام، الأجواء شديدة الصعوبة، أرى سيارات تحمل أثاث النازحين في مشهد أشبه بالتغريبة الفلسطينية".

الخوف من الإجهاض

أما هيا الدبش (26 سنة) التي تقيم في مخيم الشاطئ، فدخلت في حالة من الاضطراب والصدمة بعد تلقيها نبأ مقتل ابنة خالتها في هجوم "الكرامة". وعايشت هي الأخرى لحظات من الفزع عندما سمعت أصوات الصواريخ تقترب من منطقتها، وتقول إن أكثر ما يخيفها أنها ما زالت في أشهر حملها الأولى، مما يزيد قلقها من احتمالية تعرضها للإجهاض، وتقول الشابة الفلسطينية أيضاً إنه لسوء حظها وقعت حرب غزة وقت استعدادها للرحيل والاستقرار في مصر لتلتحق بزوجها الذي يعمل في مستشفى القصر العيني.

وأعلن صندوق الأمم المتحدة للسكان أن حوالى 50 ألف امرأة حامل يواجهن تحديات كبيرة في الوصول إلى خدمات الولادة الآمنة، إضافة إلى دخولهن في معاناة مزدوجة تتمثل في الخوف الناتج من الحرب وصعوبة الوصول إلى خدمات الولادة الآمنة.

وتشير هيا الدبش إلى أنها تستخدم الإنترنت بشكل جيد بفضل مساعدة جيرانها الذين يعتمدون على الطاقة الشمسية وبتلك الطريقة تحصل على الكهرباء، كما تستفيد أيضاً بإبقاء هاتفها الجوال قيد الشحن، وحول طبيعة اختيارها الاستقرار في المنطقة بعد أن طلب الجيش الإسرائيلي من الأهالي مغادرة منازلهم والنزوح إلى الجنوب، تقول إنها قررت البقاء في منزلها خوفاً على حياة الجنين في أحشائها، وتابعت "تلقينا منشورات من الطائرات تدعونا لترك منازلنا، وبيننا من استجاب للطلب لكنني كنت ضمن الذين اختاروا البقاء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


صدمات نفسية

كذلك لم تكن الفتاة العشرينية مي زكريا أبو زيد التي تقيم في مدينة الزهراء بمنطقة الوسطى بمنأى عن الخطر، وتشير إلى أنها منذ بدء الهجمات العسكرية الإسرائيلية على غزة، بدأت في ممارسة تدوين يومياتها بسبب شعورها المضطرب، وضمن الرسائل التي كتبتها مي لنفسها، "النفسية متذبذبة تصعد إلى الـ100 وتهبط بشكل سريع ومفاجئ إلى الصفر... إنه شعور قاس وصعب وغير مفهوم". وترجع أسباب اللجوء إلى الكتابة على رغم حالة الحرب المفروضة على القطاع، إلى أنها تمثل لها نوعاً من التهوين والحديث مع النفس حتى لا تصاب بالجنون، وفق تعبيرها، وتشير مي إلى أنها فقدت الشعور بالأمان والطمأنينة بسبب عديد من المحظورات والمحرمات، منها استحالة السير في الطرقات بشكل طبيعي. وأوضحت أن "المدينة دمرت تدميراً كاملاً، فلا أستطيع الانتقال إلى مناطق حي الرمال أو تل الهوا أو غيرها من الأماكن".

ووفق دراسة حديثة أنجزها باحثون أجانب في معهد "غرينوود للصحة النفسية" بمشاركة شبان عرب من جامعة القدس، فإن المراهقين في قطاع غزة الذين يتعرضون للعنف الدائر هناك سيعانون في المستقبل على الأغلب من صدمات نفسية عنيفة تؤثر لاحقاً في حياتهم، وأشارت الورقة البحثية التي تحمل عنوان "الصدمة"، أن المراهقين الفلسطينيين يعانون لفترات طويلة من اضطراب ما بعد الصدمة.

أما في شأن المواقف الصعبة التي مرت عليها، حكت الشابة الفلسطينية، إن منزل عمتها تعرض للقصف ولم ينج منه أحد، ووصل رجال الدفاع المدني والإسعاف بعد سبع ساعات من القصف، وانتشلوا جثثاً. وأشارت إلى عدم تلقيهم الخبر إلا بعد الانتهاء من عملية الانتشال، ولم يقدروا حتى على توديع أحبائهم.

وقبل أيام دعا مدير عام التعاون الدولي في وزارة الصحة بغزة، مروان أبو سعدة، منظمات الإغاثة الطارئة إلى إرسال وفود طبية تطوعية من كل التخصصات لإنقاذ الجرحى المدنيين في قطاع غزة، كما حذر المتحدث باسم وزارة الصحة من حدوث تلوث بيئي جراء تحلل جثث الشهداء في القطاع، نظراً لامتلاء ثلاجات الموتى.

وفي ما يتعلق بكيفية قضاء ساعات الليل في مثل هذه الأجواء المتوترة، قالت إنهم استقبلوا مزيداً من أفراد العائلة بسبب أن منطقتنا أكثر هدوءاً من غيرها، وأوضحت أن الخطورة تتزايد في المناطق الحدودية، وأضافت "اتفقنا على أن يظل أحدنا مستيقظاً، على أن نتناوب في ما بيننا لننتبه بحال تعرضنا لأي للهجوم أثناء أوقات النوم"، مؤكدةً أن منزلهم لم يتضرر باستثناء تهشم الزجاج.

ومضت قائلةً "لم أنم خمس ساعات متواصلة منذ بدء حرب غزة، نحن نعاني على رغم أنه لا علاقة لنا بأحزاب أو سياسة، ونشعر بقلق دائم على حياتنا، ولذلك اتفقنا على أن نبقى مجتمعين في بيت واحد حتى إذا تعرضنا للقصف لا يبقى أحد يمكنه أن يشعر بالقهر على بقية العائلة، فإما أن نعيش جميعاً أو نموت جميعاً".

وتنتقل مي إلى أزمة أخرى وتقول إن الطعام على وشك النفاد، ولا يوجد محال مفتوحة لشراء حاجياتنا، وأبدت استغرابها من استخدام الفوسفور الأبيض المحرم دولياً، وقالت "حتى الحيوانات البريئة لم تنج من القصف والشوارع تدمرت، كما نشعر بشكل دائم أننا مهددون، وهو أمر ثقيل على النفس".


معاناة نفاد السلع الاستهلاكية

أما طه أبو زينة، الذي يقيم في منطقة جنوب حي الرمال، وفقد شقته التي جهزها للزواج فيقول، "اكتفيت بالنظر إليها من بعيد، لم أمتلك القدرة على الاقتراب لمعاينة حالتها". وأضاف "كنت أشعر أن أرضية الشقة تتحرك كأمواج البحر من شدة القصف". لكنه يعود ويؤكد أن أسرته من ضمن القلة التي لم تبتعد عن بعضها بسبب الحرب، وحول الطريقة التي يستخدمها لطمأنة أقاربه ومعارفه، يشير الشاب الثلاثيني إلى أنهم يعتمدون على شبكة اتصال واحدة من الجيل الثاني "بالتل"، ويلجأون إلى الطاقة الشمسية لشحن الهواتف.

في اليوم السادس من الحرب، اضطر أبو زينة إلى الانتقال رفقة أسرته إلى المحافظة الوسطى، مرجعاً أسباب اختيارهم لها، القلق المستمر في ظل القصف المتواصل في منطقة إقامته، معتبراً أن "الوسطى أقل خطورة من غيرها".

وحول الأمور المشتركة التي تجمع سكان قطاع غزة، يقول "فقدنا الكهرباء والمياه والسلع الاستهلاكية الأساسية، وجميعنا مهدد في ظل استهداف كل شيء حتى مراكز الإيواء"، مشيراً إلى أنهم يتجهون نحو المجهول، "وكثير من الأسر ما زالت تحت الركام".

ومن جانبه اعتبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، أمس الأربعاء، قيام إسرائيل بوقف إمدادات المياه لسكان غزة، انتهاكاً للقانون الدولي. وقال أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبرغ، إن "تعليق إمدادات المياه إلى مجتمع تحت الحصار يتعارض مع القانون الدولي، لا يمكن للاتحاد قبول ذلك".
وبحسب الدفاع المدني في غزة، فإنه وجد قبل أيام، أكثر من 1000 مفقود تحت أنقاض المباني التي دمرتها طائرات الجيش الإسرائيلي في غزة، مشيراً إلى أن "نقص المعدات والإمكانات يعيق عمليات الإنقاذ وانتشال الجثث من تحت الأنقاض في أنحاء القطاع كافة".
وتواصلنا مع وسام عبدالرحيم الذي غادر حي الكرامة بعد تعرض منزل عائلته للقصف الإسرائيلي، فأبلغنا بأن "الهجوم الإسرائيلي أدى إلى تدمير منزلنا، كنا نائمين واستيقظنا على صوت طرقات الأبواب وصرخات تطلب منا إخلاء المنزل، واتجهنا في نهاية المطاف نحو الجنوب حيث مدينة رفح".
وتابع وسام الذي تتكون عائلته من سبعة أفراد، "في البداية انتقلنا إلى إحدى مدارس الأونروا حيث يعمل والدي، وبعد بضعة أيام غادرنا المدرسة وانتقلنا إلى مخيم الشاطئ لنجتمع مع أحد أقاربنا".
وتعاني مدارس الأونروا من نقص في الموارد الأساسية التي تقدمها للنازحين، واكتظاظ بسبب عمليات النزوح المستمرة إليها، كما تبدي مخاوفها بشأن الجفاف مؤكدة أن الأمراض المنقولة بالمياه مرتفعة نظراً لانهيار خدمات المياه والصرف الصحي. وحول أسباب استخدام المدارس على وجه التحديد في إيواء النازحين وليس منشآت أخرى، أوضح المتحدث باسم الأونروا عدنان أبو حسنة أن "المدارس فيها فصول دراسية يمكن أن تستخدم كغرف، وفيها أعداد من دورات المياه، كما يوجد فيها خزانات مياه مزودة بمحطات تحلية صغيرة، وبداخلها أيضاً سولار سيستم، وأنظمة طاقة شمسية، هذا سبب استخدامنا لها".

يعود وسام ويؤكد أنهم وصلوا إلى الجنوب حيث مدينة رفح بعدما وزع الجيش الإسرائيلي منشورات بضرورة مغادرة سكان غزة من مناطق الشمال، مبدياً قلقه من عدم وجود مناطق آمنة في قطاع غزة، مشيراً إلى أن "الأمر يعتمد على الاختيار وفق المؤشرات وتطور الأحداث".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات