Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبدالكريم الحجراوي يرصد السير الشعبية في المسرح العربي

الأعمال المشهدية عمدت الى استدعاء التراث تأصيلاً وإسقاطاً على الواقع

فن السيرة الشعبية في لوحة تراثية (صفحة السيرة الشعبية - فيسبوك)

لا خلاف على أن الأجناس الأدبية والفنية، باستثناء الشعر، هي في الأساس مستعارة من الفنون الأدبية الغربية، يستوي في ذلك المسرح والرواية والقصة القصيرة والسينما والفن التشكيلي. وتولدت هذه الفنون جميعاً عند العرب في العصر الحديث بفعل المثاقفة والاحتكاك بالآخر الغربي. ومن هنا جاءت محاولات تأصيل هذه الفنون وتعريبها، وكانت الوسيلة الأهم في هذا العودة للتراث على نحو ما يظهر في الرواية التاريخية ورواية الإسقاط السياسي. ولم يكن المسرح بعيداً من هذا التوجه، بل إن معظم الأعمال المسرحية كانت معتمدة على استدعاء التراث. وخير أمثلة على ذلك مسرحيات أحمد شوقي وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور وسعد الله ونوس وجلال خوري وعز الدين المدني. ومن هذا المنطلق يطرح عبدالكريم الحجراوي في كتابه "تجليات السير الشعبية في المسرح العربي" (منشورات بتانة- القاهرة) رؤيته لكيفيات استدعاء السير الشعبية في المسرح العربي سواء كان نثرياً، كما في أعمال يسري الجندي وألفريد فرج ومحمد أبو العلا السلاموني وشوقي عبدالحكيم، أو شعرياً كما في مسرحية "حمزة العرب" لمحمد إبراهيم أبو سنة بين عامي 1967 و2011.

أشكال مسرحية عربية

إذا كانت السير الشعبية، إضافة إلى الحكايات وقصص ألف ليلة وليلة وغيرها من الموروثات، عملت على خلق اتجاه عربي خاص في المسرح، فقد توالت الدعوات إلى خلق أشكال مسرحية عربية بحيث لا يظل الأمر مقصوراً على محتوى النص بل يتجاوزه إلى شكله. فشهدت السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات نزوعاً إلى خلق أشكال مسرحية مثل "مسرح السامر" في مصر و"المسرح الاحتفالي" في المغرب و"مسرح الحلقة أو الفرجة" في بلاد الشام. وهكذا يتآزر الشكل والمحتوى لتقديم مسرح ذي ملامح عربية ظاهرة، مما دفع الباحث إلى رصد كيفية توالد المسرح العربي من السير الشعبية تحديداً، وكيف جرت عملية التحويل من جنس إلى آخر، وإلى أي مدى تأثر المؤلفون بالنصوص الأصلية القديمة التي توالد عنها نصهم الحاضر.

ومن خلال الدراسة المستوعبة لكيفيات هذا التوالد يقسم الباحث طرائق تأثر الكتاب بالسير الشعبية إلى ثلاث فئات، فئة النقل ويكون فيها التأثر مباشراً فيكتفي المؤلف بمسرحة السير الشعبية ومن ذلك مسرحية "غريب في بلبيس" لعبدالغني داود و"ديوان السفيرة عزيزة" لعبدالحميد النجار و"سهرة مع البطل الهمام أبو ليلى المهلهل" لغنّام غنام، والثانية "فئة التحوير والتعديل" ويكون التأثر فيها بينياً، ومن ذلك "الزير سالم" لألفريد فرج و"علي الزيبق" ليسري الجندي و"حمزة العرب " لمحمد إبراهيم أبو سنة، أما الثالثة "فئة التبديل" فيكون التأثر فيها غير مباشر مثل "أبو زيد في بلدنا" لمحمد أبو العلا السلاموني و"يا آل عبس" لصلاح عبدالسيد.

لا يخفى علينا أن هذا التوالد من السير الشعبية إلى المسرح يعد ضرباً من ضروب التناص، إذ "تزعم نظريات التناص أن أي نص أدبي لا يمكن فهمه إلا من خلال علاقته بالنصوص الأخرى، وترى أنه ليس هناك نص مستقل، فكل نص هو عبارة عن شبكة من العلاقات مع نصوص أدبية متحول عنها". والمسرحيات موضوع الدراسة تشير كلها إلى ذلك، سواء بصورة مباشرة من خلال ثنائية النص الغائب والنص الحاضر. ولا يقتصر التناص على العلاقة بين السير والمسرح فحسب بل يمتد إلى علاقة النصوص المسرحية بما سبقها من نصوص في التراث اليوناني والغربي. ومن ذلك ما نراه بين "الزير سالم" و"حاملات القرابين" لأسخيليوس، فهناك تشابه في الحكايتين، وكذلك بعض التفاصيل. فالمسرحيتان تدوران حول فكرة الانتقام والثأر للأب المقتول. كما تتناص مسرحية "عنترة" ليسري الجندي مع "عطيل" لشكسبير، إضافة إلى المرويات التاريخية التي أوردها أبو الفرج الأصفهاني إذ رفض قوم عنترة إعطاءه مثل أنصبتهم حين أغاروا على "طييء" وغنموا منها مما دفعه إلى اعتزالهم في الحرب. بل إن ديدمونة تحل محل عبلة في "الليلة الحالكة" لأحمد بن سعيد حين تخاطب ديدمونة عنترة بقولها "إذاً فأنت لست كعطيل في القوة والشجاعة/ عنترة، وماذا كان من أمره؟/ ديدمونة، الكثير والكثير، لقد تحدث معي عن مغامرات كثيرة كبيرة".

غايات الفعل المسرحي

يرى الباحث أن الفعل المسرحي يتوزع على ثلاث غايات هي التحريض والتثبيط والعبثية، ومن النصوص التي كان خطابها تحريضياً "أبو زيد في بلدنا" للسلاموني و"حمزة العرب" لأبي سنة و"سعدي ومرعي" لشوقي عبدالحكيم. أما النصوص ذات الخطاب التثبيطي فهي "الزير سالم" لألفريد فرج و"علي الزيبق" و"عنترة" ليسري الجندي و"الظاهر بيبرس" لعبدالعزيز حمودة. بينما لا نجد مسرحية عبثية ترى الحياة وهماً وأنه لا سبيل لتغييرها إلى الأفضل. وتحت عنوان "مقصدية الخطاب المسرحي"، يرى الحجراوي أن القصد أحد المفاهيم الأساسية في النظرية التداولية التي يستخدمها منهجاً على مدار الكتاب، على أساس أننا لا يمكننا معرفة ما ترمي إليه المقولات من معانٍ مختلفة إلا من خلال معرفة قصد المتكلم. فلا يكمن معنى الكلمة في ملفوظها بل في ما يقصده قائلها. فحين يقول كليب للزير "أتنكر ما قالته جليلة بنت عمك وزوجتي؟"، يرد الزير "لا". لكن كليب يفطن إلى أنها "لم تكن تقصد شراً". إذاً فهو لا يحاسبها على الكلام بل على القصد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا يعني أننا أمام خطاب معلن وخطاب مضمر، وبناء على هذه الثنائية كانت مأساة ابن المقفع حين فهم خطابه المضمر في "كليلة ودمنة". وهذا ما ينطبق على كتاب المسرحيات المتحولة عن السير الشعبية، فاتخذوا السير قناعاً يعبرون به عن أفكارهم السياسية والاجتماعية. ومن ذلك مثلاً، ما نراه من إسقاط سياسي دالٍ على "التعذيب السياسي" في الواقع المعاصر في "الزير سالم" لألفريد فرج. وفي الباب الخاص بـ"الحجاج في الخطاب المسرحي"، يذكر الحجراوي تعريف بيرلمان له بأنه "دراسة التقنيات الخطابية التي تسمح بإثارة الأذهان أو زيادة تعلقها بالأطروحات التي تعرض من أجل تقبلها". وفي هذا السياق يفرق بين الصراع والحجاج، فهما يشتركان في كونهما بين طرفين، "بيد أن الصراع عادة ينتهي بانتصار طرف على آخر، سواء بانتصار حربي ساحق أو الهزيمة على يد القدر، وليس الإقناع هدفاً من أهداف الصراع بينما هو هدف أساسي للحجاج". ويضرب مثلاً على ذلك بالحوارات الحجاجية في "حمزة العرب" لأبي سنة. وفي مبحث مهم يتم التفريق بين الأيديولوجيا واليوتوبيا. فالمصطلح الأول يختص بمعتقدات متقلدي السلطة.

والثاني يتعلق بمعتقدات من يأملون في إطاحة النظام. ففي "أبو زيد في بلدنا" للسلاموني يبدو الصراع بين هذين المفهومين. فنجد الأيديولوجيا التي يمثلها الإقطاعيون واليوتوبيا التي يجسدها الفلاحون الذين يسعون إلى انتزاع حقهم في الجمعية الزراعية عبر عدد من الحجج يقدمها خطابهم ليثبت من خلالها هذا الحق المغتصب الذي يسعون إلى استرداده. ويتصاعد أمر الحجاج إلى ما يعرف بـ "حجاج الهويات". فمسرحية "الزير سالم" مثلاً التي كتبت في الستينيات، حقبة المد القومي العربي، تقوم على استلهام مؤلفها ألفريد فرج واحدة من أكثر السير تجسيداً لانقسام الهوية العربية على نفسها من خلال الاقتتال العربي، على العكس من معظم السير الأخرى، وقد مثل "هجرس" حلم القضاء على هذا الاقتتال وتوحيد الصف العربي في مواجهة العدو الرئيس "حسان اليماني"، والأمر نفسه نجده في "حمزة العرب" لأبي سنة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة