ملخص
سينما المغامرات الأميركية تحول رواية التسامح الكبرى بين البشر إلى سلسلة مغامرات لا طعم لها ولا لون
من المؤكد بالنسبة إلينا أن الغالبية العظمى على الإطلاق من "زبائن" سينما المغامرات الهوليوودية الذين يتدافعون عادة لمشاهدة كل حلقة جديدة من سلسلة الأفلام التي تحمل في عنوانها كلمة "المومياء"، لا يعرفون أن أفلام السلسلة إنما أتت أصلاً من مصدر فرنسي يحمل توقيع كاتب من المؤكد كذلك أنهم لم يسمعوا اسمه في حياته، ثيوفيل غوتييه. والحقيقة أن ليس في وسعنا أن نلومهم إذ نفترض حتى إن كثراً من صانعي تلك الأفلام والعاملين فيها، أكانوا أم لم يكونوا أميركيين، لم يسمعوا بدورهم باسم غوتييه ويجهلون تماماً كل شيء عن روايته. كل ما يعرفونه أن لديهم سيناريوهات كتبت لأفلام رعب تلقى إقبالاً من الجمهور وتحديداً جمهور مراهقي المجمعات التجارية. ومع ذلك لا بد من التذكير دائماً بأن رواية غوتييه لم تكتب أصلاً كرواية رعب، بل كنص رومانطيقي عرف كيف يحرك وقبل ما بات يقرب من قرنين من الآن، مخيلات ملايين القراء، وأعاد الاعتبار لما كان يسمى منذ ذلك الحين "الهوس بكل ما هو مصري".
حكاية عالمين ولوعة غرام
والحقيقة أنه، حتى ولو لم يكن ثيوفيل غوتييه مخترع النوع، فإنه كان من أعاده إلى الحياة وأسبغ عليه أبعاداً جديدة، ليصبح عملاً متعدد الأبعاد. والحال أن "رواية المومياء" عمل لا ينبغي أن يقرأ كما اعتيدت قراءته: رواية عن القبور الفرعونية وعن الرعب الذي يزامن اكتشافها ولغتها وما شابه. وربما كان القسم الأول من الرواية يقترب من هذا، ولكن من المؤكد أن القسم الثاني يبتعد تماماً عن ذلك المناخ الجنائزي، ليصبح متراوحاً بين أن يكون نصاً تاريخياً، وأن يكون حكاية غرام حقيقية رومانسية وفاتنة. ففي القسم الأول من "رواية المومياء"، نجد أنفسنا في مصر المعاصرة (أي أواسط القرن التاسع عشر)، ولدينا منذ مفتتح الأحداث لورد إنجليزي شاب هاو للآثار، يرافقه عالم ألماني. والرواية تقدم لنا (بعد وصف دقيق ومفصل لقبر فرعوني، استوحاه الكاتب من قبر سيتي الأول، أحد أشهر ملوك الأسرة الفرعونية الـ19، التي حكمت مصر خلال القرن الـ13 قبل السيد المسيح)، لدينا هذان العالمان وهما في صدد اكتشاف القبر. وبعد زمن من التعب والجهود التي كادت تدخل الرجلين ومعاونيهما وهدة اليأس، يفتح أمامهما القبر بشكل لم يكن متوقعاً، ويجدان نفسيهما في حضرة جثمان محفوظ في شكل ممتاز. وبعد شيء من البحث والتمحيص، يتبين بسرعة أن الجثمان هو لفتاة في روعة صباها، ويجد الرجلان نصاً مكتوباً على ورق البردي وضع إلى جانب الفتاة الميتة داخل قبرها، وإذ يقوم العالم الألماني بترجمة النص، يتبين له أنه يحتوي حكاية هذه الفتاة وحكاية موتها. وهذه الحكاية هي التي تشكل القسم الثاني من "رواية المومياء"، وهي التي تجعل اللورد الإنجليزي الشاب يقع في هوى صاحبة الجثمان، فيعيش هواجسها وحياتها كعاشق لامرأة ميتة. ميتة؟ بالأحرى حية، لأن كل ما في رواية ثيوفيل غوتييه هذه، يعمل على "إعادة" الفتاة إلى الحياة.
ابنة الكاهن وغرامها المستحيل
الفتاة تدعى تاحوسر، وهي ابنة واحد من كبار الكهنة في مصر في ذلك الزمان. وكان يمكن لتاحوسر هذه أن تعيش حياتها في شكل عادي وتموت وتنسى، لولا أنها عاشت قبل موتها غراماً ملتهباً مع شاب عبري يدعى بويري، لكنها لم تتمكن من الدنو من هذا الشاب، بسبب التقاليد التي لا تسمح لابنة كاهن فرعوني بمخالطة شاب من غير دينها إلا إذا تنكرت في زي امرأة فقيرة من عامة الشعب. غير أن الفرعون سرعان ما يخطف الفتاة ويسجنها في قصره. وهناك، في القصر، تشهد تاحوسر بأم عينها ذلك الصراع العنيف والمجابهة اللفظية بين الفرعون وموسى العجوز، الذي قصد سيد البلاد كي يسأله أن يأذن للعبرانيين بالرحيل عن مصر. وتتلو هذا المشهد فصول عدة، ولكن سريعة، يصف فيها ثيوفيل غوتييه تصوره لبعض الأحداث التاريخية التالية، مثل الكوارث التي أحاقت بمصر وخروج العبرانيين، وتدمير الجيش الفرعوني ثم موت الفرعون نفسه وحلول تاحوسر في الحكم محله لفترة من الزمن سبقت رحيلها هي الأخرى عن دنيانا، وتحنيطها ودفنها مع النص الذي يروي حكايتها.
حكاية ملكة حقيقية
في الواقع التاريخي، كان هناك في مصر في تلك الأزمان الغابرة حقاً، ملكة تدعى تاحوسرت، وكانت زوجة سيتي الثاني ثم أرملته، وهي حكمت مصر عامين بالفعل، ولكن من المؤكد بالنسبة إلى دارسي عمل غوتييه، أن هذا الأخير إنما استعار الشخصية ليختلق لها أحداثاً لا علاقة لها بها، في الواقع التاريخي الذي نتحدث عنه. ومن هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الحكاية تبدو لنا كلها من اختراع غوتييه، بل إن هذا الأخير لم يتورع عن رواية أحداث تاريخية غير مؤكدة، جعل منها خياله الخصب خلفية لروايته. فمثلاً - وكما يقول نقاد فرنسيون راجعوا التاريخ لكي يعثروا على وجه شبه بين الرواية والحقيقة التاريخية - يمكن القول إن المشادة بين موسى والفرعون التي يصورها أحد الفصول لا يؤكدها أي مصدر تاريخي باستثناء العهد القديم. وهذا بالطبع أمر ليس هنا مجال الخوض فيه، وذكرناه عرضاً فقط، للإضاءة على العمل الأدبي الذي نتناوله. غير أن هذا كله لا يبدو أنه كان يهم غوتييه أو يثير أي إشكاليات لديه. المهم بالنسبة إليه كان خلق مناخ تاريخي يضفي على روايته الأساسية - أي المتخيلة - صدقيتها، وهو نجح في ذلك إلى حد كبير، وكذلك نجح في أن يرسم نمط العيش في مصر خلال تلك الأزمان بكل دقة، رسماً شديد القرب من الواقع التاريخي الملموس، والذي أمعن المؤرخون في وصفه بتفاصيل التفاصيل خلال القرنين الأخيرين، حتى باتت حياة الناس في زمن الفراعنة مألوفة للأوروبيين أكثر من حياة المصريين في الأزمنة الراهنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وثائق ودراسات تمهيدية
ومن الواضح أن غوتييه استفاد هنا من عشرات الوثائق والدراسات المتحدثة عن قصور الفراعنة وحملاتهم العسكرية. وكذلك نجده مهتماً في شكل خاص بالتسامح الذي كان العبرانيون يعيشون بفضله بين أحضان المصريين، حين نجدهم - كما ستكون حالهم لاحقاً أيام ازدهار الحضارة الإسلامية - يصلون إلى مراكز الدولة العليا ويمارسون حياتهم وعباداتهم الدينية من دون عوائق، لكنهم لأسباب ستظل غامضة إلى الأبد - سيقدمون على مبارحة مصر ذات يوم. وإزاء هذا كله، أوليس في إمكاننا أن نقول إن ثيوفيل غوتييه إنما قدم من خلال هذا النص التاريخي مرافعة حول التسامح والتعايش؟ حتى إن لم يكن هذا هو مراده، فإن روايته تتحدث عن ذلك التسامح بصفته الأسلوب الوحيد الذي يمكن الناس من التعايش.
مسيرة كاتب
ولد ثيوفيل غوتييه، الشاعر والناثر والناقد، في عام 1811 في مدينة تارب الفرنسية. ولئن عرف عنه أنه لعب دوراً أساسياً في تأسيس الحداثة الشعرية في فرنسا، فإنه اشتهر أكثر وفي شكل مبكر، من خلال وقوفه إلى جانب فيكتور هوغو في المعركة التي ثارت حول مسرحية "هرناني" لهوغو. أما مجموعة غوتييه الشعرية الأولى، فصدرت عام 1830 (وكان في الـ19) بعنوان "أشعار"، من دون أن تحمل مزايا حقيقية. وأما المجد، فبدأ يصل إليه من طريق النصوص التالية، والفكهة، التي أصدرها بعد ثلاث سنوات بعنوان "الشباب". وهو أصدر عام 1835 رواية "الآنسة موبان"، مصدراً إياها بمقدمة أثارت صخباً، إذ نجده، على الضد من المذاهب السائدة في ذلك الزمن، يؤكد نزعته في "الفن من أجل الفن". وهو لكي يعيش، مارس النقد وكتب أكثر من ألفي مقال خلال فترة قصيرة نسبياً، ثم زار كثيراً من البلدان المتوسطية، كما زار بلداناً عدة في الشرق الأوسط كتب عنها ولا سيما عن القاهرة والقسطنطينية، المدينتين اللتين لم يخف أبداً وقوعه في غرامهما. أما "رواية المومياء"، فصدرت في عام 1858، قبل رحيله بـ14 سنة، وتلتها روايته الأشهر "كابتن فراكاس".