Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبده خال: الأدباء الذين تضخهم "الماكينات" زائلون والرواية النسائية ليست سلعة

"أنفس" روايته الجديدة تكشف زوايا مجهولة من المخيلة الشعبية

الروائي السعودي عبده خال (العربية نت)

كلما أصدر الكاتب السعودي عبده خال رواية أحدث سجالا أدبيا وثقافيا هو غالبا ما يصب في مصلحة الرواية نفسها. هذا ما حصل لدى صدور روايته "ترمي بشرر" التي حازت جائزة البوكر العربية العام 2010 وكانت اول رواية سعودية تفوز بهذه الجائزة القيمة. والسجال نفسه احدثته روايته "فسوق" التي سعت بطلتها الى التحرر من أسر التقاليد الجامدة. في روايته الجديدة "أنفس" الصادرة عن دار الساقي ينبش خال كعادته المخيلة والذاكرة الشعبيتين ليخرج منهما حكايات وشخصيات شبه "محظورة" وراقدة في اللاوعي الجماعي. ينفذ الروائي بجرأة إلى عالم حافل بالوقائع والأسرار ليسقط عنه الأقنعة التي يتوارى خلفها.

عبده خال المولود عام 1962 هو واحد من أبرز الروائيين الذين يحتلون صدارة الحركة الروائية السعودية، وما يميزه من الآخرين أنه صاحب مشروع يسعى إلى أن يكون متكاملا من ناحيتي السرد والبحث في الذكرة الشعبية الرهيبة. ولعل الروايات والكتب التي أصدرها حتى الآن تؤكد فرادة مشروعه هذا. لمناسبة صدور روايته "أنفس" كان لنا معه هذا الحوار.

- يسأل بطل روايتك "أنفس" نفسه في الرواية: "هل أعيش واقعا أم خيالا؟ ويصف حياته بأنها "سلسلة من الغرائب". ومن يقرأ الرواية يجد نفسه فعلا أمام عالم يندمج فيه الواقع بالخيال والسحر والأسطورة. لماذا اخترت هذه اللعبة السردية الملتبسة بين وقائع حقيقية وخيال شبه أسطوري؟

- الرواية يتلبسها كل شيء تم تخزينه في الخيال، والخيال مشبع بالأزمان والمواقع والأفكار وكل ما هو مجرد، وحين تأتيك الفرصة لبعثرة ما يجول بين المجرد والمشخص، فأنت تقوم بعملية سرية لو كشفتها من البدء لثارت عليك الدنيا. وأجد في الرواية ثورة حقيقية لما نحن عليه من سائد، سواء كان قيماً أو معرفة أو تاريخاً أو تقنية. ووجدت نفسي في رواية "أنفس" أعيث إصلاحا، فالواقع مادة صلبة مكتوب عليها بخط رديء "هذا هو الواقع"، بينما ليس هناك واقع مصمت، كل واقع مجوف ويحمل في داخله أسراراً بقيت في ذلك التجويف. والرواية دخلت إلى الخيال لتجسيد المجرد أي ليكون واقعا، سواء سلك عالم السحر أو الأسطورة أو المتخيل أو الفرضية أيضا. أقول وبصدق: رواية "أنفس" دعوة للفجيعة.

- هذا الالتباس يطاول شخصية البطل الذي سميته "وحي ...د"، فماذا أردت ان تحمّله هو الذي يجد نفسه مطلوبا لدى السلطات بصفته مجاهدا؟

- البطل اسمه "وحي...د" وانطلاقا من اسمه تتشابك الأحداث بين المتخيل والواقعي في تعدد الشخوص، وبين الديني والأسطوري، وبين السائد والمتنحي، فـ"وحي...د" جاء من معجزة ليواصل الإشارة إلى معجزات وإن كانت افتراضية. فالخيال مستودع ضخم لم نخرج منه شيئا يذكر عبر آلاف السنوات، وحيال هذا البطل الغريب الملامح والأطوار (وحي...د) تتشكل رواية تنثر الأفكار كما تنثر الأحداث، ويكون النثر أشبه بمضخة الألوان، فتجد "طرطشة" الألوان من غير استواء أو ظهور كامل هنا أو هناك.

 وحي...د" هو حامل لأسراره الخاصة والتي يعكسها على العالم بوصفها حقيقة، وبين الفرضية والواقع المعيش ينتظر أن يحين وقت تنبؤاته، لولا كدر اسمه "قدار الجبلي" أزاح الواقع وحوّله الى أسطورة وتغيّب رمز الوجود "ثنوى" الحبيبة الساحرة. هاتان الشخصيتان (قدّار وثنوى) محركتان للنص السردي داخل وعاء أسطوري، بينما كان البطل يتحرك بضخ الأفكار. ومن هنا يحدث التقاء الأسطورة بالعلم، وإن كانت الأسطورة هي علم العقل البشري الأول، إلا أنها ظلت في أذهان الكثيرين وكأنها عالم كذوب، بينما تشير الدلائل إلى أنها العلم الذي لم يحترمه الأبناء التالون زمنيا.

- كيف يمكن السير بهذه التجزئة داخل السرد؟

- الفضاء الروائي متسع باتساع الكون، وكلما أتقنت السرد استطعت إدخال كل حقول المعرفة داخل النص الروائي. وعندما تحركت لكتابة رواية "أنفس" توقفت كثيراً وتقاطعت مع الأفكار والأحداث، مما حملني على الشطب والإضافة في شكل متكرر... وفي شكل متكرر تولدت شخصيات لم تكن في الحسبان وتنامت الأفكار بما لم يكن في الحسبان أيضا. إن أي تزاوج ثنائي أو جمعي داخل الرواية يمكن الروائي النفاذ اليه وتقديمه في قالب حكائي محكم، هذا إن أردت المجازفة باسمك من أجل ألا تكون شبيها لنفسك في أعمالك السابقة.

- كيف تقرأ مقاربتك الفريدة للشخصية المجاهدة التي استوحيتها في روايتك؟ هل هي مقاربة للشخصية الإرهابية بصفة عامة؟

- رواية "أنفس" ليس لها علاقة بالإرهاب أو الجهاد إلا في جزء يسير منها، عرجت عليه بما يناسب التصعيد الدرامي. رواية "أنفس" تبحث في الوجود عن تلك المعضلة التي كلما فتحنا بابا مغلقا أسلمتنا الى أبواب ومغارات وكهوف من الأسئلة. هي رواية تتجه إلى الأسطورة بحثا عن أجوبة، وإلى السحر وإلى العلم، وفي كل تجويف من هذه الحياة ثمة سر يقفز في وجهك وكأنه خفاش خرج من ظلمة فاقعة، كي يرعبك أو يبعدك عن خرابته. الأسرار خرائب لا يصل إليها إلا من كان جسورا. وقد حملتني هذه الرواية على أن أكون جسورا، علني أسقط القناعات المتكلسة بحثا عن أفق ما خلف الميتافيزيقا.

- تميل روايتك إلى أسطرة الواقع لتعيد قراءته من خلال واقعيته الغرائبية، مما يذكر ببعض الأعمال الروائية التي سلكت هذا السبيل، ومنها أعمال لماركيز وبورخيس وسواهما؟ كيف تصنف هوية روايتك هذه؟

- لست أنا من يصنفها، فمهمتي خلق الدهشة، وقد تكون دهشة تعنيني وحدي. بينما كنت أكتب هذه الرواية خلقت محفزات عدة من أجل استثارة العالم الروائي في داخلي بغية صوغ الكون مرة أخرى. وهذا ما شعرت به عندما انتهيت من كتابة رواية "أنفس". وهي رواية لم تعتمد على غرائبية المكان، بل سلكت طريقين متوازيين هما: غرائبية الأحداث وغرابة الأفكار. وأجزم أنني كنت أسلك طريقي الخاص بعيدا عن التمثل أو المقاربة. وأعلم تماما أن التشبه بأي روائي إنما هو أشبه باتخاذ قرار تهيئة القبر، وأنا لن أموت تاركا فضاءات روائية تشبه فضاءات أي روائي كان. وفي شأن الغرائبية التي اشتهر بها الروائي الفذ ماركيز، كنت أقول إن عوالمه لا تدهشني لسبب بسيط أنني عشت حياة في قرية منسية، كل تفاصيل حياتها قائمة على الغريب والسحري، فما كتبه ماركيز من عوالم كنت أشاهده بأم عيني، وربما أنني احتزمت بعشرات الأساطير التي كانت تروى في مساءات القرى.

- حتى المكان لديك يراوح بين تاريخيته وواقعيته وأسطوريته. أي مكان هذا المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية؟

- فضاءات رواية "أنفس" ليس لها مكان ثابت إلا من خلال افتراض أن البطل يتنقل بين أماكن معروفة في واقع القارىء، تلك الأماكن جاءت فضاءاتها من حول العالم، حتى إذا استكان القارىء لفكرة البطل وآمن بها لدى قراءتها، فهو يجد أن كل زمان ومكان مقبولان في سياق السرد. وأنا اعتبر أن المكان يمكن أن تحتويه مفردة واحدة، بحيث تستطيع تلك المفردة جلب عوالمها وفضاءاتها.  فأن تقول مفردة مثل "لبنان" فهي قادرة على إضفاء عالم المكان، حتى لو لم يكتب الروائي سطرا واحدا عن لبنان سوى أنه ذكره كمفردة منبتة. إن تعريفنا للمكان فيه قصور، ولو تعمقنا فسوف نكتشف أن المفردة ذاتها لها زمانها ومكانها في الوقت نفسه.

- أين عبده خال اليوم بعد فوزه عن رواية "ترمي بشرر" بجائزة البوكر العربية التي وفرت له شهرة عربية وزادت من مبيع كتبه وفتحت أمامه بابا للترجمة؟

-  لقد تقدمت على الجائزة بمراحل، فكلما كان لديك توق داخلي إلى اخراج عشرات الشخصيات التي تسكنك، تكون في كل زمن في حالة مغايرة. فالشخصيات الروائية تقودك الى أزمنة وامكنة وأفكار هي التي تختار ظروفها وصياغاتها. ويجب عدم الارتهان الى جملة أو كلمة تفيد بأنك أجدت في عمل ما، هذا لا يعني التوقف بل يقودك الى بذل الجهد لكي تتخطى ما انت فيه.

- أنت الآن من أبرز الروائيين السعوديين الساعين إلى تأسيس رواية سعودية وعربية جديدة. كيف تصف ملامح مشروعك الروائي؟

- لا أرى ذلك، أنا ما زلت في حالة عدو في مضمار كبير يدعى مضمار الإنسانية، ولا يعنيني الموقع الجغرافي، إذ علي عبور تضاريس المخلوقات البشرية وحواراتها مع ذاتها وبقية المخلوقات، فهل يجوز قول: أنني الأبرز؟ أعتقد أنني ما زلت في أول خطوة ارتقيها في سلم طويل وشديد المهابة بذراعين صلبتين هما الحياة والموت. العملية الروائية لدي هي صحراء متسعة أجول فيها بحثا عن واحة أو بئر ماء أو سكون عاصفة، أو التمدد على رمال رطيبة لا أركن إليها عندما أنام. فكل شيء عليك أن تسلّم عليه لكي يعطيك معنى لوجودك ووجوده. أعلم أن السؤال أشبه بعزف حاوٍ لإخراج أفعى من جرتها، ولأنني باحث عن سموات غير السماء وأراضين غير الأرض، فلن يغريني سؤال لأن أقول أن الأبرز... سوف أخبر بما في داخلي، فشعوري أنني لم أفعل شيئا حيال عشرات الشخصيات الروائية التي تسكنني ولم تخرج بعد. ولن أصف مشروعي فهو من الاتساع بما يمنع حالة الشرح البليد.

المزيد من ثقافة