Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجاسوسية عند الرومان... شفرة وبريد وحمام زاجل

فرق الكشافة أول جهاز استخبارات منظم في تاريخ روما القديمة

يوليوس قيصر كان من أوائل الأباطرة الذين اعتمدوا الجاسوسية وبلور عالم البريد العسكري (أ ف ب)

ملخص

ما قصة مكتب البريد الاستخباري الذي أسسه أوكتافيوس قيصر؟

ربما لم يعرف التاريخ البشري إمبراطورية سادت لمدة تصل إلى 500 عام، مثل الإمبراطورية الرومانية، حتى يمكن القول إنها حكمت العالم القديم بالفعل.

لم تسيطر تلك الإمبراطورية على شرق العالم بقوة السلاح فقط، بل بقوة القانون، إذ عرف عنها أنها من أعمق وأقدم الأنظمة القانونية، سواء ما يتصل بحياة المواطنين في الداخل، أو بحضورهم في خارج أراضيها.

نظراً إلى اتساع الإمبراطورية الرومانية وفترة بقائها الطويلة، كان لمؤسسات وثقافة روما تأثير عميق ودائم في تطور اللغة والدين والعمارة والفلسفة والقانون وأشكال الحكم في المنطقة التي تحكمها، وحتى أبعد من ذلك، تطورت اللغة اللاتينية من الرومان إلى اللغات الرومانسية في العصور الوسطى والعالم الحديث.

يطول الحديث عن تلك الإمبراطورية التاريخية، غير أن ما يهمنا في هذه القراءة هو الوقوف أمام أدواتها السرية التي من خلالها استطاعت السيطرة على الدول والممالك المحيطة بها.

أي عالم استخبارات عرفته روما القديمة، وكيف تطورت مسيرة التجسس على الآخرين، وهؤلاء شملوا مواطني الإمبراطورية انطلاقاً من درء المؤامرات السياسية، التي ستقتل الإمبراطور يوليوس ذات يوم، كما شملت المسيرة التجسس على الأعداء من الدول المحيطة القريبة، وكذا من الممالك الكبرى البعيدة كما الحال مع الإمبراطورية الفارسية.

نجحت استخبارات الإمبراطورية الرومانية في درء الخطر عن هيبة الدولة ونفوذها وقتها لنحو خمسة قرون، قبل أن يقدر لقبائل الفندال أن تحطم أركان تلك الإمبراطورية الفائقة الوصف.

ماذا عن تلك المسيرة الماورائية في حياة الإمبراطورية الرومانية؟

يوليوس قيصر وخداع جواسيس الغال

في مؤلفه الموسوم "تعليقات على الحرب الغالية"، يروي يوليوس قيصر قصصاً كثيرة  تشهد على أنه أخذ حين غرة من جواسيس الغال (منطقة جغرافية تضم فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ وسويسرا)، وأنهم خدعوه، بل مكروا به من خلال مراوغتهم في نقلهم المعلومات والأسرار العسكرية.

غالب الظن كانت هذه هي نقطة الانطلاق في بلورة ما سيسمى عالم البريد العسكري الاستخباري، بهدف جمع المعلومات عن الأعداء حول الإمبراطورية.

أدرك يوليوس جيداً أن دور الأخبار والمعلومات، سواء أكانت سرية أو علنية، يتوقف على سرعة نقلها، وعلى تأمين وصولها إلى أصحاب الشأن، ففي سباق الحرب الأهلية بين الرومان أنفسهم، هذه الحرب التي كان هو نفسه تسبب في اندلاعها من خلال عبوره نهر "روبيكوني" للاستيلاء على روما، تسابقت الأطراف المتحاربة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، على إحراز السبق في الوصول إلى روما ونقل أخبار الانتصار، أي تسابقوا جميعاً على تحقيق أقصى تأثير سياسي ممكن.

حقق يوليوس نصراً مؤزراً على جحافل الجنرال الروماني الشهير بومبي، وذلك خلال المعركة المصيرية التي دارت رحاها في مدينة فارسالا بإقليم ثيساليا في التاسع من أغسطس (آب) من عام 48 ق.م.

ووفقاً لبعض التكهنات، وزع يوليوس خلال هذه المعركة فرقة فرسان على طول الطريق الذي يسلكه سعاة البريد، وفي فترة زمنية قياسية، وصلت أنباء انتصار يوليوس إلى مدينة مسينة التي كان أسطول بومبي يشكل خطراً كبيراً عليها.

كان خبر انتصار يوليوس زاد من معنويات أنصاره القتالية وحفزهم على الثبات في الدفاع عن مدينتهم، وعليه يمكن القول إن يوليوس هو أول من استخدم فكر الحرب النفسية، وهزيمة العدو عن بعد من خلال المعلومات التي يبثها الجواسيس، غير أن إمبراطوراً آخر سيأتي من بعده، سيقدر له أن يبلور الفكرة عبر تأسيس عمل منظم يقوم على المعلوماتية.

أوكتافيوس قيصر والبريد العسكري

تبدو فكرة البريد العسكري في زمن الإمبراطورية الرومانية، مشابهة بشكل كبير لفكرة المحطات الاستخبارية التي تنشئها الأجهزة في المدن الكبرى، لتكون بمثابة "عيون وآذان"، تمكنها من التقاط الشاردة والواردة قبل أن تقع القارعة.

كان استحداث ديوان لتوصيل الأخبار والوثائق وممول من الدولة من إنجازات الجنرال الروماني "غايوس أوكتافيوس"، وكان عمه يوليوس قيصر، ولاحقاً سيعرف باسم الإمبراطور أوغسطس قيصر.

قبل أوكتافيوس لم يكن هناك ديوان من هذا القبيل، وكما هي الحال مع الآخرين، لاحظ أوكتافيوس أن سياسات الرومان العسكرية "الاستخبارية" في أمس الحاجة إلى  التجديد، إذا ما أراد المرء إمبراطورية عالمية بجدارة مناسبة، وبكفاءة عالية. ففي وقت مبكر أيام انتصاره في الإسكندرية المصرية على خصمه ماركوس أنطونيوس، أظهر أوكتافيوس اهتماماً ملحوظاً بشبكة البريد الملكي والكفاءة العالية في إدارة وحفظ الوثائق السرية التي تميزت بها إمبراطورية البطالسة في عهد كليوباترا السابعة، ملكة مصر وزوجة خصمه ماركوس أنطونيوس.

وعلى الصعيد نفسه، كتب المؤرخ الروماني "غايوس سيوتونيوس" في سياق حديثه عن سيرة حياة أوغسطس قيصر، أي أوكتافيوس نفسه، يقول: "ولكي يحصل على التقارير بأسرع وقت ممكن، ومن أجل أن يحيط علماً بما يحدث في كل إقليم، وزع أوكتافيوس في بادئ الأمر شباناً، ومن ثم عربات، على طول طريق الجيش، وعلى مسافات مناسبة، وكان هذا التدبير معقولاً جداً، وذلك لأنه يمنح الفرصة المناسبة لاستجواب الأفراد الذين تلقوا المعلومات، بنحو مباشر إذا ما تطلب الأمر ذلك".

 

هذه الملاحظة تظهر بكل وضوح حقيقة العلاقة المتينة القائمة بين المسالك المستخدمة في إيصال البريد من ناحية، ومساعي الحصول على معلومات من ناحية ثانية، والأمر المثير للانتباه هنا، هو أن أوكتاوفيوس ألغى النظام الروماني القديم، أعني النظام الذي يتولى فيه أفراد من القطاع الخاص نقل الوثائق والرسائل الحكومية مستخدمين الخيول والعربات، ويسمح للظروف المحلية والرغبات والنزوات الشخصية  بأن تتحكم في نقل الوثائق والرسائل الحكومية، واستحدث نظاماً جديداً اسمه cursus pubicus أي استحدث ديوان بريد حكومياً تموله الضرائب المستقطعة من دخول الرعية.

هل تأثر أوكتافيوس في هذه الفكرة بالبطالسة في مصر؟

غالب الظن أن ذلك كذلك، فقد كان شديد الإعجاب بالمؤسسات التي أنشأها البطالسة في مصر،  علماً بأن بعض هذه المؤسسات كان المثال الذي سار الرومان على هديه، فبفضل هذا المثال القدوة استحدث الرومان ضرائب معينة جديدة، ونفذوا  عمليات إحصاء رسمية على نحو مخصوص.

على أن علامة استفهام تقابلنا في طريقة "جوسسة الرومان"، إن جاز التعبير: بأية طريقة كان يتم التواصل عبر هذه المحطات البريدية العسكرية؟

المقصود هنا، أية لغة كان يتم بها كتابة الرسائل السرية، والوثائق فائقة الأهمية، التي تحوي أخبار الجيوش وتحركاتها، وتعداد الفيالق الرومانية ومخططاتها العسكرية، عطفاً على الطرق والأساليب التكتيكية الواجب اتباعها، بهدف تحقيق أهداف استراتيجية للإمبراطورية الرومانية؟

عن شفرة القيصر وعالم الخوارزميات

لعل الرومان هم أول من عرف طريق الكتابة المشفرة، التي لا تزال حتى اليوم وسيلة الجواسيس حول العالم للتواصل مع الأجهزة التي تتولى تشغيلهم لحساب الدول والإمبراطوريات الكبرى.

كان يوليوس قيصر هو صاحب أول شفرة في التاريخ المعروف، وإن لم يعن ذلك أن حضارات أخرى سابقة لم تعرف أنواعاً مشابهة من الكتابات السرية، فالحضارات القديمة تنبهت منذ بدايات تكوينها لهذا الأمر وأعطوه أهمية كبرى كالمصريين القدامى والآشوريين، حتى إن أحد أمراء الإغريق جاء بفكرة عجيبة لإرسال رسائله، إذ أمر أحد عبيده بحلق شعره كاملاً بعدها قام بكتابة رسالته على رأس العبد بطريقة الوشم، وانتظر الأمير نمو شعر العبد ثم أرسله برسالته الموشومة تلك إلى الطرف الآخر.

شفرة قيصر وتسمى كذلك تشفير قيصر أو تشفير الإزاحة، هي طريقة من طرق التشفير التقليدي، بهدف "تعمية النصوص" أي إصابة الآخرين بالعمى المجازي، أي انعدام قدرتهم على قراءتها أو فك طلاسمها.

هذه الشفرة شاع استخدامها قديماً ويرجع تاريخها للإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، الذي كان أول من استخدم هذه الوسيلة، وكان ذلك بين 58 حتى 51 ق. م.

تتميز هذه الشفرة بسهولة تطبيقها لذلك يتم اعتمادها غالباً كمدخل للتعرف على علم التعمية الكلاسيكي.

تعتمد فكرة شفرة قيصر على مقابلة حروف الأبجدية بنسخة محورة من الحروف نفسها، وذلك باعتماد تحوير بسيط غالباً ما يكون سرياً ومتفقاً عليه.

ويقوم مبدأ شفرة قيصر أو شفرة  الإزاحة على مقابلة حروف الأبجدية بنسخة من الأحرف نفسها تمت إزاحتها بموضع ثلاثة أحرف.

وكما جاء على لسان المؤرخ الروماني سويتونيوس في كتابه "القياصرة الاثنى عشر"، فإن أوغسطس قيصر، وهو كما أشرنا ابن أخ يوليوس قيصر، استخدم مبدأ التشفير نفسه الذي وضع عمه أساساته، غير أنه كان يعتمد على إزاحة بمقدار موضع واحد فقط، مع تشفير آخر حرف في الأبجدية بتكرار أول حرف من الأبجدية مرتين.

 الحمام الزاجل والتجسس عبر الحدود

يحتاج الحديث عن الحمام الزاجل قصة بمفردها، إذ تمتلئ بطون التاريخ بأخبار عنه، وقصص بشأنه، وكان الإغريق أول من استخدموا الحمام الزاجل لنقل نتائج الألعاب الأولمبية اليونانية من مكان إقامتها إلى المدن البعيدة عام 776 قبل الميلاد.

وعقب ذلك استخدم المصريون القدماء والفرس والعرب الحمام الزاجل في التواصل.

غير أن صفحات التاريخ تحمل لنا ما يميز استخدام الرومان للحمام الزاجل كسلاح في معاركهم، وبدأ ذلك من عام 24 قبل الميلاد، إذ استخدموه في وقت الذي فيه جيش القائد "بروتوس" القائد الروماني "مارك أنطونيو"، خلال المعارك التي دارت بينهما في مدينة "موديلينا" إلا أن القائد "أوكتافيو الثالث"،  تمكن من الاتصال بالقائد المحاصر "بروتوس" بجنوده من خلال الحمام الزاجل، وتمكن من تزويده بالمدد الزمنية اللازمة، وبقى على علم تام بالوضع داخل المدينة المحاصرة.

 

هذه القصة هي التي استلهم روحها خلال الحرب العالمية الأولى، حين استخدم نوع من الحمام الزاجل عرف في فرنسا باسم Cher Ami أي "الصديق العزيز".

عرف هذا النوع من الحمام الزاجل كيف يحمي آلاف الجنود الفرنسيين المحاصرين من هلاك مؤكد.

 حمل الحمام رسالة من كلمات قليلة "نحن على شفا الدمار"، وسارت إلى وجهتها، ووصلت في الموعد المحدد، مما مكن قيادة الجيوش الفرنسية من إرسال الدعم والمدد لإنقاذ الجنود المحاصرين، والمثير أن الحمامة التي قامت بهذا العمل الكبير، حصلت على وسام النصر، أعلى نجمة عسكرية في الجيش الفرنسي تقديراً لتفانيها وكفاءتها العسكرية.

والمعروف أن أصل الحمام الزاجل يعود إلى عهد نبي الله نوح، إذ تقول الرواية الدينية إنه أطلق الحمامة من فلكه ثلاث مرات ليعرف هل جفت الأرض أم لا، ففي المرة الأولى عادت مسرعة للفلك، ففهم نوح أنها لم تجد مستقراً لها على الأرض، وفي المرة الثانية عادت وفي فمها غصن زيتون، فأدرك نوح أن مياه الطوفان إلى انحسار، وفي الثالثة أطلقها فلم تعد بالمرة، مما يعني أن الأرض جفت ووجدت لها مستقراً عليها.

عظم الرومان استخدامات الحمام الزاجل، فسخروه لحمل رسائل التهنئة بالفوز في المعارك، وكأداة لتبادل المخططات العسكرية قبل المعارك الكبرى، فكان قادة الجيوش يتبادلون الرسائل المشفرة من خلال لفافات الجلود.

الشرطة السرية وأعمال الاستخبارات

أولى الرومان اهتماماً كبيراً جداً بأعمال الرقابة داخل مؤسسة الجيش، ومن هنا جاءت فكرة الاستعانة بالشرطة السرية الرومانية التي عرفت باسم frumentarli التي كانت تعمل ضمن كل فرقة من فرق الجيش الروماني.

ارتأى الإمبراطور الروماني هادريان، أحد أهم خمسة أباطرة في تاريخ روما القديمة، وحكم في الفترة ما بين 117-138 ميلادية، استخدام هذه الشرطة السرية في الأغراض الاستخبارية، فبصفتها شرطة عسكرية مكلفة سد حاجة الجيش إلى المواد الغذائية، كانت عناصر الشرطة السرية تتغلغل بيسر في صفوف الناس وفي الأسواق المختلفة، وفي المدن والموانئ البحرية وتمارس، إضافة إلى مهماتها المعلنة، عمليات التجسس وجمع المعلومات.

إلا أن هؤلاء أيضاً سرعان ما كرههم الشعب الروماني، ولم يغب الأمر عن الإمبراطور ماكرينوس، لا سيما أنه هو نفسه استشعر عداء موجهاً إلى شخصه حينما أرسله ماركوس أوكلاتينوس أدفينتوس إلى مجلس الشيوخ ليكون عضواً من أعضائه، فهذا الرجل كان في سابق الزمن، رئيس الشرطة السرية الرومانية، وواحداً من الفئة التي كانت تطلق على نفسها لقب "بريتور" (أي اللقب الذي سبق لحكومة روما القدمية أن خلعته على بعض قادة الجيوش وعلى  الولاة المنتخبين).

ووفق ما يقوله المؤرخ الروماني "كاسيوس ديو"، في سياق حديثه عن تاريخ روما، "خدم هذا الرجل في صفوف فصيل مرتزقة، ونفذ مهمات يمارسها عادة الجلادون والجواسيس وآمرو الوحدات العسكرية".

استخبارات روما واضطهاد المسيحيين

اعتبرت الإمبراطورية الرومانية المسيحيين الأوائل فصيلاً خطراً على أمن الدولة، ولهذا مضت في تعذيبهم عبر أدواتها المتمثلة في الشرطة السرية أو استخبارات الداخل.

 في سياق دراسته لتاريخ الكنيسة، يصف المؤرخ يوسابيوس القيصري تفاصيل الاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون على يد عناصر الاستخبارات الرومانية الداخلية، بأمر من الإمبراطور " ترايانوس ديكيوس".

من ناحية أخرى يصور أسقف قرطاجة القديس كبريانوس أساليب الملاحقة والاضطهاد التي مارستها عليه الشرطة السرية الرومانية، مؤكداً أنه تخلص من قبضتهم، من خلال أساليب الخداع التي مارسها إخوانه في العقيدة، ونعثر على وقائع مشابهة في التقارير التي تتحدث عن حياة هذا الشهيد، علماً بأن أغلب هذه التقارير لا تتحدث عن عناصر شرطة سرية بل عن جنود أقرب ما يكونوا بفكر اليوم لعنصر الاستخبارات.

بيد أن المرء لا يشط أبداً إن قال إن مضطهدي المسيحيين لم يكونوا جنوداً بل كانوا في المقام الأول، عناصر من الشرطة السرية تغلغلوا في الوحدات العسكرية، كوحدات خاصة ملحقة بكل فصيل من الفصائل العسكرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه الشرطة السرية هي فقط التي كان مسموحاً لها اغتيال الجواسيس المزعومين فوراً (والمسيحيين وقتها في مقدمتهم).

ومن أجل التمويه والتعتيم على مهماتهم الحقيقية، جرى من حين إلى آخر، تكليف عناصر الشرطة السرية بمهمات من قبيل مراسلين وسعادة بريد رسميين، أو مراسلين وسعاة يعملون لحسابهم الخاص.

غير أنه حين انهارت روما شيئاً فشيئاً، وتحولت إلى مملكة تشبه ما كان قائماً في الشرق الآسيوي من ممالك توظف سلطانها السياسي لترسيخ هيمنة الحاكم على مقدرات البلاد، وإبراز عظمة بعض أفراد النخبة السياسية، جرى استخدام الشرطة السرية، أو الاستخبارات الداخلية بالنحو المناسب للوضع الجديد الذي باتت عليه روما.

بلغ الانحطاط لاحقاً مستوى أجبر الإمبراطور ديوكلتيانوس، على حل جهاز الشرطة السرية، وكان قرار الحل هذا حظي بترحيب الشعب فعلاً. غير أن شأن أعمال الجاسوسية في أطراف الإمبراطورية كان حكماً في حاجة إلى بديل.

موظفون مكلفون... جواسيس متنكرون

لم يكن للإمبراطورية، على رغم كل ما ألم بها من علل، أن تمضي من غير جهاز استخبارات داخلي وخارجي، لهذا سرعان ما عين موظفون كان عنوانهم agents in rebus أي "موظفون مكلفون بتنفيذ مأموريات خاصة".

كانت هذه الوحدة الخاصة الجديدة تدرج في الموازنة الحكومية، تحت بند رئيس الديوان الملكي، علماً بأن موظفيها كانوا مرهوبين جداً ويتمتعون بالأهمية نفسها التي يتمتع بها قادة الجيوش والولاة. أضف إلى هذا أن ديوان البريد كان يخضع لسلطانهم.

كان كبير هؤلاء الموظفين يشرف على المترجمين بنوع خاص، ربما لضمان الفهم الكامل والشامل لما يدور من حول الإمبراطورية وبلغة واضحة تكفي شر التفسيرات الملتوية التي تقود للاختصام من نفوذ الإمبراطورية.

من عند هذه اللحظة بدا الخلط الواضح بين أعمال الدبلوماسية والجاسوسية.

كانت هذه المهمات الواسعة وعظيمة الخطر مكنت بعض موظفي الديوان الملكي من أن يظهروا على المسرح، كأنهم وزراء خارجية، بيد أن الاستخبارات العسكرية والخارجية ظلت خلال عصر الأباطرة الرومان تفتقد كثيراً من المقومات، أو لنقل أنها هانت من إهمال الدولة لها.

تثبت قصص تاريخ الإمبراطورية الرومانية، أن المسؤولين نشروا على طول الحدود الخارجية للإمبراطورية أبراج مراقبة محلية، وذلك للحيلولة دون التعرض لهجوم مباغت، غير أن هذا الإجراء لم يكن من شأنه التعويض عن جمع وتنسيق المعلومات المتعلقة بالخصائص الجغرافية والتحولات السياسية والحضارية  المتحققة لدى الشعوب الأجنبية، القاطنة خارج حدود الإمبراطورية.

هذا الشأن كان حظي باهتمام بعض الإغريق ونفر من التجار أيضاً، ويكفي أن نذكر هنا العالم اليوناني الموسوعي كلاوديوس بطليموس الذي يعتبرونه أول من أرسى جذور علم "الجغرافيا"، منارة يهتدى لها في تاريخ العلوم، فهو يتحدث في مؤلفه هذا عن تجار كانوا في القرن الثاني يستخدمون القوافل لنقل الحرير الذي يستوردونه من الصين.

هل هذا كل شيء عن الجاسوسية في عهد الإمبراطورية الرومانية؟

ربما يحتاج الأمر إلى عودة لاحقة للنظر في الجانب الآخر من تلك الإمبراطورية الهائلة، أي الجانب المشرقي للإمبراطورية المعروف بالبيزنطية وسياستها العالمية وأجهزة استخبارها التاريخية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات