Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عاليه عطايى تروي جحيم الحدود بين إيران وأفغانستان

9 سرديات تصور العنف الشيوعي والفارسي ومأساة الهوية المزدوجة

الحدود بين إيران وأفغانستان منطقة شهدت حروباً (أ ف ب)

ملخص

الحرب، الهوية والمنفى، موضوعات ثابتة في نتاج الكاتبة الأفغانية الإيرانية عاليه عطايى الذي أثمر إلى حد اليوم أربع روايات وقصصاً كثيرة

الحرب، الهوية والمنفى، موضوعات ثابتة في نتاج الكاتبة الأفغانية الإيرانية عاليه عطايى الذي أثمر إلى حد اليوم أربع روايات وقصصاً كثيرة. ولا عجب في ذلك، فهذه الكاتبة والناشطة النسوية، ولدت لأبوين أفغانيين في منطقة داميان التي تقع على حدود إيران، ولا تقتصر مأساة قاطنيها على الحرب التي لم تتوقف رُحاها فيها منذ سنوات طويلة، بل تكمن أيضاً في هويتهم الإشكالية في نظر الإيرانيين والأفغان على حد سواء. منطقة تعود عطايى إليها مجدداً في كتابها الجديد، "حدود المنسيين"، لتخطّ هذه المرة مسيرتها، منذ طفولتها فيها وحتى فرارها منها إلى طهران.

الكتاب الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار "غاليمار الباريسية، يتألف من تسع سرديات حميمة تتصادى في ما بينها، معرّية حقائق معتمة وصادمة تتجاوز معيش عطايى الشخصي. فمع أنها جميعاً سير ذاتية، لكن ذلك لم يمنع الكاتبة من خط بورتريهات داخلها لكائنات عاشت مثلها في ذلك "البرزخ"، كما تسمّي داميان، وتحمل كلها جروحاً عميقة سبّبتها رصاصات حقيقية أو خفية. كائنات، معظمها من النساء، تتشارك "كروموسومات الألم"، وتسعى عطايى إلى رفع أصواتها التي لا يسمعها أحد.

هكذا نتعرف إلى قاطني ذلك اللامكان بين أفغانستان وإيران، "بين الحياة والموت"، الذين اختبروا، من جهة، الاجتياح السوفياتي وعنف "الطالبان" وجحيم قنابل أميركا "الذكية"، ومن الجهة الأخرى للحدود، ثورة الملالي وقمعهم، مع ثابتة واحدة لا تتغيّر أبداً على الجانبين: الحرب التي تتسرّب إلى داخل حياتهم من أقل فجوة، فتطال عبث الأطفال الذين يستهوون مطاردة العقارب القاتلة، وطقوس النساء اللواتي يمررن الوقت في تلميع الطلقات النارية، وحتى قصص الحب التي تنتهي دائماً بمأساة. حيوات ممزّقة، يسير أصحابها أبداً على شفير هاوية في تلك "المنطقة الحرام"، حيث كل شيء يخضع للتفاوض، البضائع، الوقود، الأفيون، وحتى الرجال، وحيث الفتيات والزوجات والأمهات يحملن في جلدهن ندوب الحروب التي لا تنتهي، وآثار الاستعباد والاستغلال اللذين لم تعرف العصور المظلمة مثلهما.

الأب والرصاص

في السردية الأولى، تروي عطايى قصة والدها الذي أصيب بمرض الصرع بعد مشاركته في حرب الخليج الأولى، وتحديداً نقله من داميان إلى طهران لمعالجته. رحلة برية دامت يومين، وشكّلت للكاتبة، التي كانت آنذاك طفلة في السادسة، محنة صادمة لسببين: اختبارها على طول تلك الرحلة بلداً في حالة حرب، ينتفي فيه أي هامش للحرية، وتعرّضها لحادثة مأساوية تمثّلت في سحق والدها، عن غير قصد، أصابع يدها اليمنى تحت أسنانه خلال واحدة من أزمات الصرع العديدة التي انتابته. حادثة طبعتها إلى حد أنها، حين فقدت والدها بعد سنوات، لم تجد سبيلاً آخر لتلطيف الحزن الذي اجتاحها، سوى سحق أصابع يدها بنفسها داخل طقم أسنانه!

وفي سن السادسة أيضاً، شاهدت عطايى للمرة الأولى جسداً، أو بالأحرى أجساداً ممزقة بالرصاص. هذا ما نعرفه في سردية أخرى رصدتها عبر واحد من أقاربها، كان ذنبه الوحيد أنه أحبّ شابة يسارية في الجامعة وتزوج منها. "ذنب" جعله يعتقد أن خلاصه الوحيد من قمع الملالي لليساريين، ومن كراهية عائلته لهم، يكمن في الفرار مع زوجته وأطفالهما إلى أفغانستان، التي كانت خاضعة آنذاك لحكم الشيوعيين. لكنّ ما لم يحسب هذا الشاب حسابه هو أن أعداء الشيوعيين كانوا كثيرين، ويتواجدون في كل مكان، بما في ذلك داخل السيارة التي ظنّ أنها ستنقله وعائلته إلى برّ الأمان...

وفي سردية مخصصة لوصف الحياة اليومية أثناء الحرب في تلك المنطقة الحدودية، تؤدي الجرذان دور الشخصيات الرئيسية. جرذان ضخمة لم يكن من المتعذر التخلص منها فحسب، بل كانت تحتل المنازل بجسارة وتنهش لحم قاطنيها أثناء نومهم. وهو ما اختبرته الكاتبة في طفولتها مع سائر أفراد عائلتها. كابوس جدير بفيلم رعب، قضّ كل ليلة مضجع ضحاياه الذين فشلوا في تحديد مصدر تلك الجرذان لسبب بسيط، هو أن الوحوش التي مثلها كانت متوافرة بغزارة على طرفي الحدود.

العقارب الصفراء

ومن الجرذان، ننتقل في سردية أخرى إلى العقارب الصفراء الخطيرة التي اجتاحت تلك المنطقة وتسببت في مقتل عشرات الأطفال. عقارب كادت لدغة واحدة منها تودي بحياة عطايى وهي طفلة، إثر تنافسها يوماً مع طفل آخر على اصطياد أكبر عدد منها. ونعبر أهوال غزو الجيش السوفياتي لأفغانستان، وأهوال هزيمته، في سردية خصّصتها لطبق البامية الذي يُحضَّر بالطريقة نفسها في إيران وأفغانستان، ومع ذلك، يختلف مذاقه وفقاً لمكان تحضيره. ونتعرّف في سردية أخرى إلى قصة حبّها الأول لشاب كان يقيم في أفغانستان ويكتب لها رسائل غزيرة، نقرأ في واحدة منها: "إلى عشيقة قلبي الوحيدة، ستُهزم الدكتاتورية قريباً. إنها في طور المنازعة، عاجزة أمام زحف الشعب...". شاب لن تُسنح له فرصة الاجتماع بحبيبته، لأن الدكتاتورية لن تكتفي بقطع يده، بل تقتله وتسلّم جثّته ناقصةً لأهله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذ لا مجال هنا للتوقف عند جميع السرديات التي تؤلّف "حدود المنسيين"، نشير إلى أن عطايى تستحضر في جميعها كراهية عائلتها للشيوعيين نظراً إلى التنكيل الذي تعرّضت له في عهدهم، وذهب ضحيته عشرات من أفرادها، العلاقات الوثيقة بين إيران وأفغانستان اللتين كانتا في الماضي فضاءً جغرافياً وثقافياً واحداً، عنصرية الإيرانيين تجاه الأفغان، الغياب الصارخ للرجال بسبب الحرب، ودائماً تلك المنطقة الحدودية التي تتسلط على حاضر الكاتبة وذاكرتها، بعيشها الرهيب فيها، وبلاجئيها الذين يعيشون بلا هوية ولا وطن، ويذكّرونها باستمرار بما يمكن أن يعنيه المنفى والهوية في ذلك اللامكان. المنفى كانتماء إلى أرض تنبذ أبناءها وتدفعهم إلى عبور حدودها للبقاء على قيد الحياة، والهوية كمجرّد ذاكرة مؤلمة وغير قابلة للتغيير حتى على مدى عدة أجيال.

باختصار، سرديات "كافكاوية" تستحضر في جانبها المعتم، والخاتمة الصاعقة لكل منها، قصص صادق هدايت، وتكمن قيمتها في بوحها بما لا يمكن لمراسلي الإعلام الشرقي والغربي معرفته، وبالتالي قصّه، عن ذلك المكان وناسه. سرديات حميمة، من داخل فتاة صغيرة أو شابة، مكتوبة بلغة شعرية قاطعة، ذات نبرة مأساوية مفجعة يصعب أحياناً تحمّلها، نظراً إلى الألم الذي ينضح منها. ومع ذلك، نقرأ هذه النصوص حتى السطر الأخير، لأن كلمات عطايى فيها، تبقى أقوى من العنف الذي تصوّره، بدافع الشهادة والتعزيم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة