Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قبل قرن من "أوبنهايمر"... بريخت يصور مسؤولية المثقف وجبنه

"حياة غاليلي" طريقة الكاتب المسرحي الكبير في الرد على المحاكمات الستالينيسة في خريف موسكو المرعب

برتولد بريخت (1898 – 1956) (الموسوعة البريطانية)

ملخص

واضح أن مسرحية بريخت "حياة غاليلي" ليست مسرحية تاريخية، بل هي عمل معاصر تماماً، يقول عبر درس التاريخ، كثير من المشكلات التي كان المثقف والعالم يجد نفسه إزاءها

عندما ظهر قبل أشهر في صالات السينما العالمية فيلم "أوبنهايمر" للسينمائي الأميركي كريستوفر نولان الذي سيعود ويحصل على عدة جوائز أوسكار، تساءل كثر عن الواقع التاريخي الذي يمكن أن يكون قد أوحى بذلك العمل ليصلوا إلى نتيجة مفادها، أنه يمكن القول تحديداً إن ذلك الواقع التاريخي لا يمكنه أن يكون سوى محاكمات موسكو الستالينية التي وصلت إلى ذروتها في عام 1936 ووقع ضحيتها عشرات بل ربما حتى مئات من المثقفين والثوريين الروس، لا سيما منهم أولئك الذين كانوا من أشد مناصري ثورة لينين البلشفية قبل ذلك. ونعرف طبعاً أنه في عام 1936 إذاً، وصلت المحاكمات الستالينية في موسكو إلى ذروتها موقعة كثير من المبدعين التقدميين في العالم كله في حيرة من أمرهم. ولكن بعد ذلك بعامين تماماً أي في عام 1938، حدث أول اشتغال على مادة اليورانيوم بغية صنع القنبلة النووية. وفي ذلك الحين بالذات، كانت الحرب العالمية الثانية تقترب، ونذرها تدوي في طول أوروبا وعرضها متوعدة بمجازر ضخمة.

غاليلي وحيواته العديدة

في هذا الإطار بالذات كتب برتولد بريخت، الصيغة الأولى لمسرحية "حياة غاليلي"، هو الذي سيعود ليكتب صيغة ثانية بعد انقضاء الحرب هي التي نعرفها مع بعض التعديل، كما سيظل يشتغل على صيغة ثالثة حتى رحيله في عام 1956. وإزاء هذا كله يتساءل المرء، عن أي من الظروف التي ذكرنا كانت وراء كتابة هذه المسرحية التاريخية -التعليمية- والسياسية؟ بحسب تعبير بريخت نفسه، فيأتي الجواب من إسحاق دويتشر مؤرخ حياتي ستالين وتروتسكي، الذي يقول إن الدافع الأساس كانت محاكمات موسكو "ما يكشف قلق عبارة بريخت في المسرحية". أما بعض كاتبي سيرة بريخت فيقولون، إن مسألة انشطار اليورانيوم هي ما حرك تساؤلات بريخت حول مسؤولية العالم تجاه مفاهيم التقدم، في أي زمان ومكان. أما الآخرون فيقولون، إن اقتراب الحرب هو ما حركه دافعاً إياه إلى إعادة النظر في التاريخ، في حركة ثقافية احتجاجية شملت يومها كتاباً ألماناً كثراً راحوا ينهلون من الماضي لإلقاء أضواء كاشفة على الحاضر، ومنهم توماس مان وليون فوختفانغلر. أما بريخت نفسه فإنه كان يحلو له في ساعات صفائه أن يقول إن غايته الأساس إنما كانت فضح التواطؤ بين الكنيسة والطبقات الحاكمة ضد أصحاب الفكر المتنور بغية إبقاء العامة على جهلهم، لأن هذا الجهل هو الذي يسهل اقتيادهم والسيطرة عليهم.

التفسير يأتي لاحقاً

طبعاً من المعروف أن المبدع حين ينكب على إبداع عمل ما، لا يسأل نفسه عن الدوافع التي رمته حقاً في خضم ذلك العمل. هذا النوع من التفسير يأتي لاحقاً في العادة. ومن هنا، قياساً على هذا الأمر يمكننا القول، إن هذا كله قد لعب دوراً أساساً في دفع بريخت، في تلك الآونة بالذات، إلى الخوض في حياة ذلك العالم المنتمي إلى أزمان سابقة في صورة لا يكتفي بإدانة موقف الكنيسة منه، بل يتجاوز ذلك ليطرح كثيراً من الإشكالات المتناولة مسؤولية المثقف، والصراع بين القديم والجديد، والحقيقة العلمية إزاء منطق التاريخ، وما شابه ذلك من قضايا.

ذلك أن "حياة غاليلي" تحوي ذلك كله، وإن في ثناياها لا في واجهتها في بعض الأحيان. ومن هنا تنبع أهميتها وفرادتها في حياة بريخت وعمله، إذ نجدها تبتعد من "الخطية" التي كانت ميزت أعماله السابقة، لتخوض في جدلية فكرية وفنية مدهشة.

تتحدث المسرحية، إذاً، عن العالم الإيطالي النهضوي غاليليو غاليلي، عبر 15 فصلاً. منذ بداية هذا العمل نعرف أن غاليليو يعيش بفضل مرتبه كمحاضر جامعي في مدينة البندقية التي كانت جمهورية ذات حكم ذاتي في ذلك الحين، وهو يبدو لنا نهماً إلى العلم والمعرفة نهمه إلى الطعام وملذات العيش. أما أقرب المقربين إليه في المسرحية فهما ابنته فرجينيا وتابعه أندريا، الفتى الموهوب علمياً. وغاليليو يستخدم في بحوثه العلمية منظاراً مقرباً ألماني الصنع لا يكف عن الزعم أنه من اختراعه، وهو يراقب به النجوم وحركة الفلك ليؤكد أن كوكب الأرض ليس سوى واحد من كواكب كثيرة، وأنه ليس مركز الكون كما تقول الكنيسة، بل كوكب يدور حول الشمس.

العالم يزور الحاكم

ولما كان غاليليو فقيراً، لا يستفيد كثيراً من عمله العلمي، يقرر ذات يوم أن يقصد قصر الدوق حاكم فلورنسا سعياً وراء منفعة مادية. في تلك الأثناء يكون كبير فلكيي البابوية في روما قد أفتى بصحة نظرية غاليليو المتعلقة بدوران الأرض حول الشمس، بيد أن السلطات الكنسية، تتحفظ بشدة على ذلك انطلاقاً من أن نفي مركزية الأرض، سيؤدي إلى طرح كثير من الأسئلة حول كل سلطة من السلطات وصولاً إلى سلطة الكنيسة. وإذ يخشى غاليليو عواقب مجابهة الكنيسة، وإذ يتورع في الوقت نفسه عن التراجع عن منطقه العلمي، يقرر الصمت وعدم البوح بأي رأي جديد طوال ثمانية أعوام. وعند نهاية ذلك يكون الكاردينال باربيريني، العالم المتفتح قد أضحى بابا تحت اسم أوربانوس الثامن، وهنا تتحرك آمال غاليليو من جديد، لكن محاكم التفتيش تكون في المرصاد، فتقنع البابا بأن السكوت عن نظريات غاليليو سيكون مدمراً للكنيسة. أما غاليليو فإنه بعدما تعرض أمامه أدوات التعذيب و"الإقناع" التي تمتلكها تلك المحاكم يقبل التراجع عن نظرياته. وهنا أمام هذا يشعر أندريا بالغضب أمام موقف أستاذه المتهافت والجبان، ويتخلى عنه فيما تواصل فرجينيا العناية بأبيها الذي أضحى الآن مكتهلاً. ويمر وقت طويل يقوم أندريا بزيارة أستاذه الذي أضحى اليوم يعيش تحت رقابة محاكم التفتيش. ويسر إليه غاليليو بأنه، وفي تكتم شديد، أنجز صوغ أسس فيزيائية جديدة، فيدرك أندريا أن نكوص أستاذه إنما كان لاكتساب الوقت لا أكثر، فيما يعترف غاليليو أمامه، بأن ما دفعه إلى التراجع أمام الكنيسة إنما كان خوفه من العذاب الجسدي لا أكثر، ويدين نفسه أمام أندريا لأنه غدر بعقله وخان ضميره العلمي وإن كان ذلك وفر له وقتاً إضافياً مكنه من متابعة عمله وبحوثه، ويقول لتلميذه إنه إنما يرى في إخفاقه جذور اغتراب العلم عن الأهداف الإنسانية، وإذعاناً من العلم إزاء سلطان القمع، وينتهي الأمر بأندريا أن يهرب ما دونه غاليليو من نظريات جديدة إلى خارج إيطاليا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين الحاضر والماضي

واضح هنا تماماً أن "حياة غاليلي" ليست مسرحية تاريخية، بل هي عمل معاصر تماماً، يقول عبر درس التاريخ، كثير من المشكلات التي كان المثقف والعالم يجد نفسه إزاءها. ولعل ما يؤكد ذلك أن ألبرت أينشتاين سيستثير إعجاب بريخت في تلك الآونة بالذات حين يقول خلال حضوره "معرض نيويورك العالمي"، "لقد تقدم الإنسان سريعاً في الميادين العلمية والتقنية، لكن سرعته في تعلم كيفية تخطيط "إنتاج الثروات وتوزيعها"، كانت أقل بكثير، بحيث إنه يعيش الآن في رعب دائم خوفاً من الانهيار الاقتصادي، وهو رعب لا يقل عن رعبه إزاء شبح حرب ماثلة أمام ناظريه على الدوام".

والحال أن بريخت، حين كتب هذه المسرحية كان لا يفتأ يطرح على نفسه سؤالاً نجده مسيطراً على مضمونها تماماً: هل كان في الإمكان التكلم على البقاء على قيد الحياة من دون ملامسة مشكلة الجبن؟ وواضح هنا أن بريخت، في سبيل الوصول إلى إجابات ترضيه، خرق قوانينه الجمالية الخاصة ومبادئ المسرح الملحمي، ليقدم دراسة في الانتهازية، فريدة من نوعها في عمله. وفي ذلك الحين كان برتولد بريخت 1898 - 1956 في نحو الـ40 من عمره، وكانت معركته مع النازية فتحت منذ زمن. وبريخت، كما نعرف، هو واحد من كبار كتاب المسرح في تاريخ هذا الفن، كما أنه واحد من كبار مبدعي القرن الـ20. ومن أعماله الكبرى: "الاستثناء والقاعدة" و"إنسان ستشوان الطيب" و"دائرة الطباشير القوقازية" و"الأم" و"أوبرا القروش الثلاثة" و"في أدغال المدن" و"السيد بونتيلا وتابعه ماتي".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة