أدى اشتداد المنافسة بين واشنطن وبكين إلى تزايد هجرة العلماء الصينيين من الولايات المتحدة، حيث ينتهي الحال ببعضهم تحت رقابة السلطات الأميركية بسبب شبهات التجسس ويعاني آخرون من العمل في بيئة يعتبرونها مسمومة بالتوترات العرقية والسياسية.
وفيما تهدد هذه الهجرة تعاون البلدين البحثي الذي يعتبر من أهم ما حظيت به البشرية في العقود الماضية، فإنها تمثل فرصة ذهبية لدول الخليج، وفي مقدمها السعودية التي ترغب بأن تكون مركزاً تجارياً وبحثياً في الشرق الأوسط، وتريد جذب أبرز العقول حول العالم.
وباتت تداعيات الهجرة الصينية من الولايات المتحدة مرئية في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية المعروفة بـ"كاوست"، إحدى أهم صروح البحث العلمي في السعودية، حيث اتجه كثير من الباحثين الصينيين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى العمل والدراسة هناك، بدلاً من الولايات المتحدة، بسبب تخرجهم في جامعات صينية مدرجة في القائمة السوداء الأميركية، وفق "فايننشال تايمز".
طموحات سعودية
تعتبر جامعة "كاوست" عصباً رئيساً لطموحات السعودية في النهوض بالبحث العلمي محلياً والصعود كقوة تقنية في الشرق الأوسط، إذ أصبحت الجامعة من أبرز مشتري الرقائق المتطورة من نوع H100 التي تنتجها شركة "انفيديا" والضرورية لبناء برامج الذكاء الاصطناعي. وتعد رقائق الشركة الأميركية التي تباع الوحدة منها بـ40 ألف دولار أسرع بتسع مرات من الإصدارات السابقة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة، وهو ما تحتاج إليه النماذج المدربة على إنتاج النصوص مثل "شات جي بي تي".
وستتلقى "كاوست" مع حلول نهاية العام الحالي ما لا يقل عن ثلاثة آلاف رقاقة من نوع H100 بقيمة إجمالية تبلغ نحو 120 مليون دولار. وتملك الجامعة حالياً ما لا يقل عن 200 رقاقة من نوع A100 التي تستخدمها في بناء حاسوب عملاق باسم "شاهين 3" من المقرر تشغيله هذا العام. وسيقوم هذا الحاسوب بتشغيل شرائحGrace Hoppers الفائقة والمصممة من "انفيديا" لتشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتطورة، وفقاً لصحيفة "فايننشال تايمز".
وتحتضن الجامعة السعودية مختبراً للذكاء الاصطناعي مزوداً بباحثين صينيين يعكفون على بناء نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه إنشاء النصوص والصور، على غرار برنامج "تشات جي بي تي" الذي طورته شركة "أوبين أي آي". وتعد الرقائق التي تستوردها الجامعة السعودية أساساً لهذا المشروع. وتشير التقديرات إلى أن شركة أوبين أي آي" دربت نموذج GPT-3 المتقدم على 1024 شريحة من نوع A100.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القيود الأميركية
صعدت الصين في العقود الماضية كقوة مساهمة في تنمية العلوم والتكنولوجيا حول العالم وأصبحت ثاني أكبر الدول إنتاجاً للأوراق العلمية بعد الولايات المتحدة. وترجع ورقة نشرتها مجلة "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" (PNAS) في الولايات المتحدة هذا الصعود الصيني في مجال الأبحاث إلى عوامل منها حجم الكثافة السكانية ووجود سلطة مركزية ترغب في الاستثمار في العلوم، إضافة إلى تصدير الصين علماءها للعمل بالخارج.
وبفضل العولمة التي أسهمت في تعزيز التكامل البحثي بين الدول، بدأت الولايات المتحدة تستقبل في جامعاتها ومختبراتها الآلاف من الطلاب والعلماء الصينيين، الذين أصبحوا من المساهمين في النهضة الأميركية، إذ وجد تحليل أجراه مركز الأبحاث "MacroPolo" في شيكاغو في عام 2020 أن العلماء المولودين في الصين يمثلون ما يقرب من 30 في المئة من باحثي الذكاء الاصطناعي في المؤسسات الأميركية.
وأظهر استطلاع أجراه "منتدى الباحثين الآسيويين الأميركيين" الشتاء الماضي أن 89 في المئة من العلماء الصينيين قالوا إنهم يريدون المساهمة في الريادة العلمية والتكنولوجية للولايات المتحدة. ويقول إريك شميت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "غوغل" ورئيس لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي التابعة للحكومة الأميركية، إن العلماء الصينيين وغيرهم من المولودين في الخارج "مصدر للقوة الوطنية"، محذراً بلاده من أن تعزل نفسها عن بلد يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة، ويتمتع بـ"موهبة هائلة".
لكن الميزة التي يقدمها العلماء الصينيون للولايات المتحدة باتت مهددة وسط التوترات السياسية بين واشنطن وبكين، التي دفعت كثيراً منهم إلى مغادرة البلاد، إذ أفاد الاستطلاع نفسه أن 72 في المئة من العلماء أفادوا بأنهم لا يشعرون بالأمان كباحثين في الولايات المتحدة، بينما فكر 61 في المئة سابقاً في البحث عن فرص خارج البلاد. وأظهر استطلاع في صيف عام 2021 أجراه باحثون في جامعة أريزونا بالتعاون مع منظمة غير حزبية للأميركيين من أصول صينية أن أربعة من كل 10 علماء من أصل صيني فكروا، أخيراً، في مغادرة الولايات المتحدة، بسبب مخاوف حيال خضوعهم لمراقبة الحكومة الأميركية.
وزادت في السنوات الأخيرة أعداد العلماء الصينيين المغادرين للولايات المتحدة، إذ ارتفع عدد المغادرين من 900 إلى 2621 شخصاً خلال العقد الأخير، وفقاً لبحث بمجلة (PNAS). وقالت الدراسة، إن ما يقرب من نصف هذه المجموعة انتقلوا إلى الصين وهونغ كونغ في عام 2010. وفي الوقت الذي تتزايد فيه نسب مغادرة العلماء الصينيين الأراضي الأميركية، يواجه الطلاب الجدد عوائق أكبر لدخول الولايات المتحدة حيث وصلت نسبة رفض تأشيرات الطلاب إلى مستويات قياسية عالية. ووفقاً لمدونة نشرها معهد كاتو في واشنطن، بلغ رفض تأشيرة الطلاب ذروته عند نحو 35 في المئة في عام 2022، وهو أعلى معدل يسجل منذ عقدين.
وحذر دان مرفي، رئيس مركز موساوار رحماني في كلية كينيدي بجامعة هارفرد وأحد الأميركيين الذي نشطوا في تعزيز الروابط الأكاديمية مع الصين لأكثر من عقدين من عواقب التضييق على العلماء الصينيين في بلاده، مشيراً إلى أن أميركا بحاجة إليهم شاءت أم أبت.
وقال مرفي، إن "مبادرة الصين" التي أطلقتها وزارة العدل لمواجهة التجسس الاقتصادي وتهديدات الأمن القومي من الصين أدت إلى وضع الباحثين والأكاديميين من أصل صيني قيد الإقامة الجبرية وفي حالات تم اقتيادهم مكبلي الأيدي بتهمة إخفاء صلاتهم مع الصين في قضايا انتهت بالبراءة أو أسقطت لاحقاً، وما زالت تلقي مبادرة وزارة العدل التي ألغيت لاحقاً بظلالها على حياة العلماء الصينيين الذين يعيشون جواً من الخوف وعدم الأمان.
ولفت مرفي إلى أن الهجرة الصينية وعدم جاذبية المناخ الحالي للطلاب الدوليين يجب أن تدق ناقوس الخطر في واشنطن، إذ تعتمد الميزة الاقتصادية والعسكرية على العلوم والتكنولوجيا والابتكار، والمنافسة العالمية على استقطاب المواهب، محذراً من أن فشل أميركا في جذب أفضل المواهب البحثية الدولية، يضر بآفاق التقدم العلمي فيها، وقوتها الاقتصادية والوطنية.
"كاوست" والصين
وترافق مع هجرة الصينيين إلى جامعة "كاوست" غرب السعودية توقيع الجامعة في مارس (آذار) الماضي اتفاقات تعاون استراتيجية مع المعاهد الأكاديمية والتجارية الرائدة في مدينة شينزين الصينية، التي تعتبر ثالث أكبر مدينة في الصين، وتعرف بمسمى "وادي السيليكون الصيني" بهدف تعزيز دور الجامعة كمؤسسة رائدة في التميز البحثي والتطوير والابتكار في السعودية.
واعتبرت "كاوست" اتفاقاتها في شينزين مثالاً آخر على تطور العلاقات بين المؤسسات العلمية السعودية الصينية واستكمالاً للجهود والشراكات السابقة بين كاوست والجهات الصينية التي انعكست في زيادة عدد الطلبة الصينيين في كاوست الذين يشكلون ما يقرب من 20 في المئة من مجموع طلبة الجامعة، في حين يشكل الصينيون 34 في المئة من باحثي ما بعد الدكتوراه وتسعة في المئة من أعضاء هيئة التدريس، كما يعتبر فرع خريجي "كاوست" في الصين الأكبر والأكثر تفاعلاً بين الفروع جميعها، وفق بيانات الجامعة السعودية.
وفي ديسمبر الماضي، وقعت الشركة الاستثمارية الصينية "سينوفيشن فينتشرز" شراكة مع "كاوست" هي الأولى من نوعها مع مؤسسة أكاديمية في تاريخ الشركة الصينية بهدف التعاون لإطلاق مشاريع تقنية وشراكات لتطوير عمليات الذكاء الاصطناعي التي تشمل اللغة العربية. وتدير شركة "سينوفيشن فينتشرز" التي تأسست في عام 2009 أكثر من ثلاثة مليارات دولار من الأصول موزعة بين 10 صناديق استثمارية بالدولار الأميركي واليوان الصيني، وأكثر من 400 شركة تقنية مختلفة في الصين.
ووقعت "كاوست" هذا الأسبوع مذكرة تفاهم مع شركة "LONGi" الصينية الرائدة في صناعة الطاقة الشمسية للاستفادة من خبرات وموارد كلتا المؤسستين لتسريع تطوير ونشر تقنيات الطاقة الشمسية، مع التركيز على تعزيز كفاءة وموثوقية تقنيات الخلايا الكهروضوئية المبتكرة للظروف البيئية الصعبة في السعودية. وسيشمل التعاون اختبار مفاهيم الوحدات الكهروضوئية الجديدة في العالم الحقيقي، والظروف الخارجية، وتطوير مواد جديدة وتصميمات جديدة للخلايا الشمسية والوحدات النمطية، وعمليات التصنيع المتقدمة، وتحسين الأداء.
منافسة على العقول
تسعى الجامعات حول العالم إلى جذب أفضل العقول لتعزيز حركة البحث العلمي، إذ تثبت الدراسات تفوق الأبحاث العلمية التي تجرى من قبل باحثين من خبرات وخلفيات متنوعة.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت قبلة محببة للعلماء الصينيين في السنوات الماضية، فإن العقبات الأميركية المتزايدة، أخيراً، أمامهم تمثل فرصة للسعودية ودول الخليج الأخرى للحلول مكان الولايات المتحدة كوجهة جاذبة للباحثين الصينيين، لا سيما المتخصصين بالذكاء الاصطناعي.
وتحتل الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ونمت نسبة الأبحاث المنشورة في الصين، وارتفعت جودتها بشكل مطرد، إذ يتم الاستشهاد بالأوراق الصينية من قبل الأكاديميين أكثر من أي بلد آخر. وأفادت مؤسسة العلوم الوطنية الأميركية بأن الباحثين في الجامعات الأميركية يفضلون التأليف مع نظرائهم الصينيين.