Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خطة شي الاقتصادية محكومة بالفشل

تبخرت مئات المليارات من الدولارات في رسملة سوق الأسهم مما أدى إلى تدمير المشاريع

التسوق في شنغهاي خلال مارس 2023 (رويترز)

ملخص

تجمع مؤشرات اقتصادية عدة على فشل سياسة الرخاء المشترك التي وضع الرئيس شي جينبينغ الصين فكأنها تكرر الفشل الذي حاق بخطة صفر كوفيد التي دامت ثلاث أعوام ثم أخفقت وتلاشت

تتمثل إحدى أهم سمات الحكم في عهد الرئيس الصيني شي جينبينع في إعلان سياسات المهمة بجلبة كبيرة ثم التراجع عنها بشكل مفاجئ، وفي كثير من الأحيان من دون الاعتراف بوجودها السابق، ولا شيء أشد وضوحاً عن هذه التراجعات سوى انتقال الصين السريع من اعتماد سياسة "صفر كوفيد" لمدة ثلاثة أعوام إلى عدم انتهاج أي سياسة بخصوص "كوفيد"، في أعقاب موجة من الاحتجاجات أواخر عام 2022، وقد أسهمت تلك التراجعات في تقويض صدقية الحزب الشيوعي الصيني وزعيمه.

وجاءت النسخة الأحدث من تلك التراجعات في فشل سياسة "الرخاء المشترك" قصيرة الأجل التي انتهجها شي، وبعد إعلان انتصاره على الوباء بشكل باكر في مايو (أيار) 2020، تبنى "الرخاء المشترك" باعتباره الشعار الذي يدفع الاقتصاد قدماً ويجعل المجتمع أكثر عدلاً ومساواة، وأطلقت الحكومة تحقيقات رفيعة المستوى تهدف إلى مكافحة الإضرار بمبدأ المنافسة ومناهضة الاحتكار من أجل الحد من نفوذ شركات التكنولوجيا الكبرى وضمان سيطرة أكبر على المحتوى وتوزيع ثمار الابتكار. وتبخرت مئات المليارات من الدولارات في رسملة سوق الأسهم مما أدى إلى تدمير المشاريع التي أعطت أولوية واهتماماً لتلبية الحاجات الفردية لا لاتباع أيديولوجية الحزب، وخلال اجتماعات خريف 2021 التي عقدها الحزب الشيوعي الصيني اتخذ شي القرار التاريخي الذي منحه مكانة بين حكام الصين العظماء ووضعه إلى جانب ماو تسي تونغ، وقد أتى فيه على ذكر مصطلح "الرخاء المشترك" ثماني مرات.

ومع حلول منتصف عام 2022 اختفى أي ذكر رسمي للرخاء المشترك في ظل نهوض القطاع الحكومي المعروف بقلة فاعليته كي يصبح أقوى مما كانه منذ عقود، لكن مع فشل عملية الانتعاش الاقتصادي.

وفي تقرير مؤلف من 17 ألف كلمة عن الاقتصاد قدمه رئيس الوزراء لي كه تشيانغ خلال المؤتمر الوطني الشعبي في مارس (آذار) 2022، لم يذكر الرخاء المشترك إلا مرة وحيدة، وبعد شهرين غيّر شي وكبير مستشاريه الاقتصاديين ليو هي ذاك المسار تماماً، وأصدرا سلسلة من البيانات الواسعة الداعمة لمبادرات التكنولوجيا الخاصة مما أعاد إحياء سوق الأسهم.

وبحلول ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه دفنت سياستا "صفر كوفيد" و"الرخاء المشترك" في مقبرة الجمود العقائدي السياسي.

لكن القائد العظيم يحتاج إلى سياسة عظيمة، وفي الصين تحت حكم شي هناك دائماً سياسة جديدة، ففي ديسمبر 2022 أعلنت الحكومة سياسة "النمو القائم على الاستهلاك" التي جاءت أقل وضوحاً ولكن أكثر دفعاً إلى الطمأنينة، وشكلت المركزية لخطة اقتصادية جديدة طموحة مدتها 12 عاماً.

وللمرة الأولى في تاريخ الصين الحديث أعطى مخططو الدولة أولوية "لتوسيع الاستهلاك الأسري" على حساب "الاستثمار المؤثر" كاستراتيجية طويلة الأجل، ومن الناحية العملية أصبح النمو الصيني معتمداً بشكل أساس على قرارات الإنفاق الأسري وليس على تولي الدولة توجيه الشركات وتمويلها من أجل بناء وإنتاج ما تمليه عليها.

وبشكل شبه شامل دأب الاقتصاديون على الإشادة بالنمو المستند إلى الاستهلاك، وفي الواقع إذا نفذ هذا التحول في السياسة بشكل صحيح فمن شأنه أن يساعد الصين في تجنب الوقوع في الفخ المخيف للدخل المتوسط، وهي ظاهرة يؤدي فيها انخفاض الإنتاجية وتدني عوائد الاستثمار في الدول النامية إلى جمود في مستويات المعيشة.

وعلى رغم أن النمو المستند إلى الاستهلاك يبدو منطقياً إلا أن مصيره سيكون الفشل في الصين الخاضعة لقيادة شي. إذ إن شي مثلما فعل مرات كثيرة في الماضي سيتراجع عن السياسة بمجرد حدوث رد فعل عنيف من المحتم أن يصدر من المجموعات والتكتلات القوية، بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة والحكومات المحلية وبيروقراطية الأمن القومي، وسيتردد الشعب الصيني في تبنيها لأنه يعلم أن الزعيم سيدفن المبادرة في مقبرة النسيان عند ظهور أول بوادر قلق داخل الحزب، وعوضاً عن ذلك سيبدأ بالاستعداد لمواجهة الوضع ويدخر مزيداً من أرباحه الضئيلة للأوقات الصعبة المتوقعة في المستقبل، في بلد يتمتع بأعلى معدل ادخار على وجه الأرض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أولويات متضاربة

ويهدف النمو المستند إلى الاستهلاك إلى إصلاح مشكلة حقيقية للغاية، ففي الواقع يمثل الإنفاق الأسري في الصين 38 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي حوالى 30 نقطة مئوية أقل من المتوسط العالمي، وفي المقابل يمثل الاستثمار نسبة هائلة تبلغ 43 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للصين، وفي عهد شي أصبح الاقتصاد يعتمد بشكل متزايد على الإنفاق الحكومي في القطاعات التي يعتبرها استراتيجية.

ومن أجل تغذية هذا الاستثمار تقيد الحكومة حصة الناتج المحلي الإجمالي المخصصة للأسر وتعزز تلك المخصصة للشركات والقطاعات المفضلة، وتفعل ذلك من خلال عدد كبير من السياسات التي تبدو كأنها غير متعلقة بذلك الأمر، على غرار خفض سعر الصرف [للعملة الصينية] بغية تقليل صافي الواردات، وجعل معدلات الضرائب تنازلية، وإبقاء شبكات الأمان الاجتماعي ضعيفة، وقمع حقوق المهاجرين الحضريين [النازحين من الريف إلى المدن]، وحظر النقابات خارج "اتحاد نقابات العمال لعموم الصين" الذي يسيطر عليه الحزب، والتخلي عن توزيع الأرباح في المؤسسات التابعة للدولة، ووضع حد أقصى لمعدلات الودائع المصرفية.

ونظراً إلى أن المقرضين الصينيين يدفعون للمودعين أقل بكثير مما قد يدفعونه في سوق تنافسية، فإنهم قادرون على إقراض الشركات المملوكة للدولة والمفضلة لديها بأسعار أقل من سعر السوق، وبعد ذلك تجري حماية هذه الشركات من التخلف عن السداد عبر سلسلة من السياسات والتدخلات التي تمنع الإفلاس أو تتصدى له، ففي سوق الأسهم تمنع السلطات الحكومية القطاعات غير المفضلة من الوصول إلى رأسمال المستثمر (باستخدام العلامات الحمراء) أو تحذر المستثمرين من الابتعاد من هذه القطاعات (باستخدام العلامات الصفراء)، ويضاف إلى ذلك أنها تفرض أوامر تصحيح تعسفية على المنتجات والخدمات، بدءاً من التكنولوجيا المالية ووصولاً إلى الألعاب التي يعتبر استهلاكها متعارضاً مع "الحفاظ على النظام الاجتماعي".

 

 

وقد تعرضت شركة "علي بابا" التي تبيع بالتجزئة عبر الإنترنت لمثل هذه الأوامر التي حتمت عليها تغيير ممارساتها التجارية وتقديم تقارير منتظمة عنها عقب انتقاد علني وجهه رئيسها التنفيذي جاك ما إلى النظام الرقابي الصيني في أكتوبر (تشرين الأول) 2020.

واستطراداً، تمثلت النتيجة الأكثر وضوحاً للاستثمار الموجه من الدولة بالإفراط الهائل في البناء ضمن قطاع الإسكان والبنية التحتية، مصحوباً بانخفاض الإنتاجية بشكل مستمر وارتفاع مستويات الديون في كل مجالات الاقتصاد، وعلى المدى القصير الذي قد يستمر أعواماً عدة يستطيع أي بلد دائماً زيادة الناتج المحلي الإجمالي بمجرد حفر الخنادق وطمرها مرة أخرى [أي اتخاذ إجراءات أو استثمارات لا تسهم في النمو أو التنمية على المدى الطويل، لكنها تضخم الإحصاءات موقتاً من دون خلق قيمة دائمة]، ولكن في النهاية يعد التخلف عن السداد أو التضخم ضروريين لتسوية الدين، وينضب التمويل المخصص لحفر تلك الخنادق.

ومع وجود نظام سياسي جديد يهدف إلى تعزيز مستويات الاستهلاك الخاص يمكن للمرء أن يتوقع تطورات إيجابية كبيرة، إذ ستتراجع المضاربات في قطاع العقارات التي تسببت في اضطراب وفوضى في الاقتصاد دانها شي، وسترتفع الأجور ومستويات المعيشة بين الجمهور الصيني الواسع وسيتدفق الإنفاق والاستثمار إلى القطاعات الاقتصادية الأكثر إنتاجية، لا سيما الخدمات التي تهيمن عليها الشركات الخاصة لا الشركات التي تملكها الدولة وترعاها سياسياً.

واستطراداً، ستزداد عوائد الاستثمار وينخفض نمو الديون المعدومة، وسترتفع الواردات وسيتجه فائض الميزان التجاري نحو التوازن، وبعد أعوام من التفاقم المستمر للتوترات الاقتصادية والسياسية مع اقتصادات السوق العالمية ستبدأ هذه التوترات بالانحسار أخيراً.

 

تسجل الصين أعلى معدل ادخار على وجه الأرض

 

وعلى رغم ذلك سيتعارض النمو المستند إلى الاستهلاك مع الأولويات الاقتصادية الحكومية الأكثر إلحاحاً، ويحل في صدارة تلك الأولويات تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي على المدى القصير، وعلى رغم إدانات شي للمضاربة العقارية إلا أنه لم يسمح أبداً بأن تقوم قوى السوق بتحديد أرقام الناتج المحلي الإجمالي التي تتأثر برهانات العقارات المتفائلة، ولنضرب مثلاً على ذلك بالطريقة التي تعمل بها أسواق قروض الإسكان والشركات الصينية، ففي الولايات المتحدة ارتفعت وانخفضت أسعار المنازل واقتراض الشركات في الولايات المتحدة على مر التاريخ بالتزامن مع تقلبات الدورة الاقتصادية، وفي المقابل عمدت بكين بشكل منهجي إلى وقف الهبوط في أسعار المنازل عبر تشجيع زيادة اقتراض الشركات، وأوقفت الهبوط في اقتراض الشركات من خلال حوافز لتعزيز شراء المنازل، وكل ذلك من أجل ضمان تحقيق الناتج المحلي الإجمالي الذي ترغب فيه الحكومة.

ولا تختلف هذه المرة عن السابق على رغم حملة التشجيع على الاستهلاك، وبالنظر إلى أن الإشارات الأولية للتعافي بعد الوباء قد فقدت زخمها إلا أن صانعي السياسة الصينيين عادوا لقواعد اللعبة القديمة في ما يتعلق بتدابير دعم قطاع العقارات، علاوة على حزمة الإنقاذ الشاملة المكونة من 16 نقطة التي طرحت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ولذلك لا يوجد سبب للاعتقاد بأن شي مستعد الآن لترك النمو الاقتصادي ومصير القطاعات "الاستراتيجية" تحت رحمة أهواء المستهلك، وبدلاً من ذلك ستستمر مستويات الدين في النمو وسيجري إخماد طلب المستهلكين الذي لا يتوافق مع طلب الحزب، على غرار الطلب الذي يستهدف الشركات الأجنبية أو منافسي المؤسسات المملوكة للدولة.

وهناك أسباب أخرى تدعو إلى التشاؤم في شأن النمو المستند إلى الاستهلاك، إذ يتوقع أن يصدر رد فعل سلبي وسياسية شرسة بالترافق مع أي تحول كبير من الاستثمار إلى الاستهلاك، وفي ظل تخصيص مزيد من الإنتاج لتلبية طلب المستهلكين سيتضرر المصدرون، وسيتأتى ذلك من واقع أن الحكومات المحلية المثقلة بالديون والتي أصبحت جهات فاعلة اقتصادية قوية في الصين من خلال تحكمها في حقوق استخدام وبيع الأراضي، لكنها ستحوز موارد أقل مع توقف مشاريع البناء العملاقة في عهد شي.

وبالفعل فشلت بلديات عدة في تسديد الرواتب وبدأت تعرض المدارس في المزاد العلني وتخفض المعاشات التقاعدية، وبعد أعوام من زعمها بأن لها الفضل في النمو الحضري الراسخ على مستوى البلاد والمتضخم في أعمال البناء، لن تفلت الحكومة المركزية من غضب عمال البلدية الذين لا يتقاضون رواتبهم والشركات التي تلبي حاجاتهم ومستخدمي الإنترنت الذين يدعمونهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

في غضون ذلك وفي ظل حملة حقيقية ترمي إلى تعزيز الاستهلاك ستملك الحكومة المركزية سيطرة أقل بكثير على من يصنع ماذا وبأية كميات ولأية غاية، وسوف يتعارض هذا الواقع مباشرة مع مخططات تعزيز التكنولوجيا المحلية الجديدة والمبادرات الوطنية التي تتعلق بالأمن وتهدف إلى الحد من قدرة الشركات الأجنبية على جمع معلومات السوق ونشرها أو "إثارة ضجة" حول سياسة الحكومة في شأن مسائل تتراوح من التكنولوجيا إلى حقوق الإنسان.

وفي الحقيقة أن ثقة الشركات الأجنبية في الصين تراجعت بشكل كبير خلال العام الماضي على رغم مبادرة الاستهلاك، ووصلت ثقة الأعمال الأوروبية في البلاد إلى أدنى مستوى لها على الأطلاق.

تراجع الإنفاق

وتشير الدلائل الباكرة إلى أن حملة التشجيع على الاستهلاك التي يقودها شي بدأت تفشل في شكل ذريع، ففي مارس 2023 ارتفعت الصادرات الصينية 14.8 في المئة وتراجعت الواردات 1.4 في المئة مما أدى إلى فائض تجاري شهري هائل قدره 88.2 مليار دولار.

وتظهر هذه البيانات ضعفاً في الطلب المحلي تقابله حاجة إلى دفع [تصدير] السلع إلى الخارج، مما يتناقض تماماً مع النمو المستند إلى الاستهلاك، ولا تستطيع الحكومة الاعتماد على جيل جديد من المستهلكين لإنقاذ خططها.

وفي الواقع تصل بطالة الشباب إلى أكثر من 20 في المئة، وليس من المستغرب أن يكون مؤشر سوق الأسهم الصيني الرئيس قد انخفض 20 في المئة هذا العام، وقد ترافق هذا الانخفاض مع تراجع مستمر في أسعار النحاس وخام الحديد مما يشير إلى استمرار تراجع الطلب، في حين أظهرت الأرقام الاقتصادية خلال الربيع ارتفاعاً متوقعاً في الطلب على السلع الفاخرة والسفر المحلي بعد انتهاء فترة الإغلاق [بسبب كورونا].

 

 

وتشير القياسات الأشمل إلى تشاؤم المستهلكين على نطاق واسع، وبعد أن ارتفعت المدخرات عام 2022 ازدادت بشكل أكبر في أعقاب الإعلان عن حملة تشجيع الاستهلاك، وارتفعت الودائع البنكية باليوان بنسب ملحوظة بلغت 41 في المئة خلال الربع الأول من عام 2023 مقارنة بالعام الماضي، بعد أن وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 2.6 تريليون دولار في عام 2022.

كما انخفض الاقتراض بأكثر من 50 في المئة عام 2022، مما يشير إلى انخفاض مبيعات المنازل، وعملت الأسر التي لديها فائض في السيولة على سداد الرهن العقاري مسبقاً بدلاً من شراء السيارات أو السلع الاستهلاكية الاستنسابية الأخرى [الكماليات]، ووفقاً لاستطلاع فصلي أجراه "بنك الشعب الصيني" فقد حدث ارتفاع هائل في رغبة الادخار بدلاً من الإنفاق أو الاستثمار، ويبين الاستطلاع أن 58 في المئة من الصينيين المشاركين يفضلون الادخار الآن بعد أن سجلت نسبتهم 45.7 في المئة عام 2019، عام ما قبل الجائحة.

ويرتبط ضعف الطلب المحلي بصورة مباشرة مع انخفاض القدرة الشرائية للأسر وتدهور الموازنات العمومية، فبين عامي 2008 و2022 ارتفعت ديون الأسر كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 18 في المئة إلى 62 في المئة، وفي الوقت نفسه فإن سوق العقارات الراكدة التي تمثل 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الصين (ما يوازي ضعف النسبة المسجلة في الولايات المتحدة)، تعمل على كبح الطلب على المواد الصناعية مثل الفولاذ والأخشاب والمواد الكيماوية، وكذلك السلع الاستهلاكية المعمرة على غرار الأدوات المنزلية والأثاث وقطع التجهيزات الثابتة.

وفي الوقت نفسه شهدت الحكومات المحلية خلال الربع الأول من عام 2023 انخفاضاً حاداً بلغ 27 في المئة مقارنة بالعام الماضي، في الإيرادات المتأتية من حقوق استخدام الأراضي المملوكة للدولة، إذ تشكل الأخيرة مساحة رئيسة للإنفاق العام مما أدى إلى تقويض الطلب بشكل إضافي.

كذلك تؤدي شيخوخة السكان السريعة إلى خفض الطلب، وقد حذر تقرير نشرته "الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية" عام 2019 من أن "صندوق الضمان الاجتماعي الوطني الصيني سينضب بحلول عام 2035، وفي ظل تراجع ثقة الشعب في قدرة الدولة على دعم كبار السن عمد الشباب الصيني إلى وضع أموالهم في صندوق خاص جديد للمعاشات التقاعدية جرى إطلاقه حديثاً، مما أدى إلى استنزاف مزيد من الأموال وعدم استخدامها للاستهلاك الحالي.

الحزب أولاً والمستهلك ثانياً

وعلى رغم هذه الرياح المعاكسة المالية والديموغرافية، تواصل الحكومة الصينية إمطار الشركات المملوكة للدولة بتدخلات ضريبية وتمويلية وتنظيمية جديدة بغية زيادة الإنتاج في القطاعات الاستراتيجية الحكومية، وبالتالي تؤدي تلك المبادرات التي تبتعد من دعم الاستهلاك إلى مزيد من الإضرار بالشركات التي تتطلع إلى إرضاء رغبات المستهلكين لا رغبات الحزب.

وإذا كانت الصين جادة في بناء اقتصاد مستند إلى الاستهلاك بقدر جديتها في الحفاظ على دولة الحزب الواحد، فبالتأكيد لن يكون عليها أن تبحث بعيداً، فهناك هونغ كونغ المزدهرة التي يحتل فيها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المرتبة الـ 11 في العالم (الثالثة وفقاً لما يسمى بتعادل القدرة الشرائية)، وعلى رغم أنها لم تخضع يوماً لحكم ديمقراطي إلا أنها تمتعت بسلطة قضائية مستقلة وسيادة القانون وتدخل أقل في العمليات التجارية وسيادة المستهلك بالمقارنة مع أي نظام حكم آخر في آسيا، في الأقل قبل أن تتخلى بكين عن التزامها بـ "دولة واحدة ونظامين".

ويشار إلى أن استهلاك الأسر [في هونغ كونغ] الذي بلغ 65 في المئة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، لا يقل كثيراً عن مثيله في الولايات المتحدة، لكنه أعلى بمقدار 27 نقطة مئوية عن ذلك المسجل في بر الصين الرئيس.

وفي المقابل لن يسمح شي مطلقاً لاقتصاد يقوده المستهلك بالسيطرة على البر الرئيس للصين، ويتضح ذلك من الصراع الذي أشعله في هونغ كونغ حينما فرض قانون الأمن القومي عام 2020 الذي مكن بكين من ملاحقة المتظاهرين قضائياً متى شاءت، ونتيجة لذلك انخفض عدد الشركات الأميركية التي لها مقار مركزية إقليمية في هونغ كونغ  جزئياً إلى أدنى مستوى له خلال 18 عاماً مع حلول عام 2021، وتضاعف صافي تدفق السكان من هونغ كونغ في عام 2022 إلى 60 ألفاً، وقد وجدت دراسة استقصائية أجرتها "غرفة التجارة الأوروبية" أن نصف الشركات الأوروبية في المدينة تفكر في الانسحاب الكامل أو الجزئي خلال هذه العام.

وفي الواقع فإن الشركات المحلية والأجنبية التي شكلت أكبر المستفيدين من طلب المستهلكين، لا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي، كانت الأكثر استهدافاً من قبل القانون، ويتطلب الاقتصاد المستند إلى الاستهلاك درجة عالية من الاستقلالية الفردية والحرية التجارية ليتمكن من الاستجابة لرغبات المواطنين المتغيرة باستمرار، وتلك متطلبات أصبح الحزب الشيوعي الصيني غير مستعد بشكل متزايد لتلبيتها في عهد شي.

وربما بدأت سياسة النمو المستند إلى الاستهلاك بدرجة من الصدق تصاحب عادة عدم إدراك العواقب الجانبية، وبالتالي فمع زيادة وضوح هذه العواقب في بكين فإن هذه السياسة ستصل إلى مصير قوامه الموت بهدوء ومن دون أن يلاحظها أحد، بصورة تتطابق مع مبادرات شي السابقة.

 

* زونغيوان زو ليو، زميلة في الاقتصاد السياسي الدولي في "مجلس العلاقات الخارجية" ومؤلفة كتاب "الصناديق السيادية، كيف يمول الحزب الشيوعي الصيني طموحاته العالمية" Sovereign Funds: How the Communist Party of China Finances Its Global Ambitions

* بن ستيل، مدير دائرة الاقتصاد الدولي في "مجلس العلاقات الخارجية" ومؤلف كتاب "خطة مارشال، فجر الحرب الباردة"  The Marshall Plan: Dawn of the Cold War

فورين أفيرز

يونيو - يوليو  2023

المزيد من آراء