Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تلفزيون الواقع على مشرحة سينما قاسية دفاعا عن نفسها

"استعراض ترومان" فيلم كبير وأسئلة فلسفية وسيكولوجية ودينية للحرب بين الشاشتين

 جيم كاري في أحد مشاهد "ترومان شو" (موقع الفيلم)

ملخص

"استعراض ترومان" فيلم كبير وأسئلة فلسفية وسيكولوجية ودينية للحرب بين الشاشتين

كان من الطبيعي أن ينتظر ملايين المتفرجين حول العالم بتشوق فيلم بيتر واير "استعراض ترومان" الذي ظهر كالفطر الشيطاني في عام 1998 حين كانت السينما تبحث بشيء من اليأس عن سلاح حاسم تجابه به "عدوانية" الشاشة الصغيرة وقدرتها على غزو العقول والقلوب في زمن كان أهل السينما يشعرون بالرعب تجاه ابتكارات تلفزيونية تهدد عالمهم الإبداعي والمهني، بل تسعى فعلاً إلى خنقه. في ذلك الحين، ومنذ فيلم "نتوورك" (1972) لسيدني لاميت، لم تكن السينما قد اهتدت إلى موضوع تستعمله كسلاح مدمر لـ"العدو" في معركتها، فما العمل والتلفزيون يتقدم والسينما تتراجع؟ ما العمل والدفاع لم يعد أمضى سلاحاً يمكن استخدامه في المعركة؟ ما العمل والتلفزيون يمعن في ابتكاراته وعدوانيته لا سيما عبر غوصه أكثر وأكثر في بدعته الجديدة، "تلفزيون الواقع" الذي بات يجتذب مئات الملايين من المتفرجين ليلة بعد ليلة؟ لقد كان من الطبيعي إذاً أن ينتظر المتفرجون ذلك الفيلم ويمنحوه نجاحاً كبيراً، حتى وإن كان من المنطقي القول إن نجاحه في مسعاه كان عابراً، فالفيلم نجح، ولكن كفيلم جيد الصنع، وليس كسلاح في معركة، بل لربما كان المفعول معاكساً في ذلك الإطار، ومن هنا على رغم ترشيحه لعشرات الجوائز وتحقيقه مداخيل هائلة، كان ثمة سؤال يلح على الأذهان المعنية، ماذا لو أن الفيلم حقق بصيغته الأولى التي كتب بها في البداية وأخرجه بريان دي بالما بدلاً من بيتر واير ومثله فنان آخر غير جيم كاري؟ هل كان سيبدو أكثر فعالية؟

أعمق من اللازم

الحقيقة أن هذا السؤال المتشعب فرضته جودة الفيلم والعبقرية الهزلية التي تمتع بها بطله وليس ضعف الفيلم أو تهافت الممثل. فهذان كانا في "استعراض ترومان" أفضل مما ينبغي ما غيب البعد النضالي السجالي في الفيلم، فإذا أضفنا إلى هذا أن الفيلم الذي سيعد دائماً واحداً من أعظم أفلام الخيال العلمي في تاريخ النوع، كان من المفترض بحسب صيغته الأولى أن يصور في مدينة نيويورك نفسها لا في حيز محدود أقيم عند ساحل فلوريدا، لنا أن نتخيل أمام أي فيلم كنا لنكون! ولكن، بعد كل شيء عن ماذا يحكي هذا الفيلم الذي يمكن اعتباره فيلماً كبيراً دون أن يكون تحفة سينمائية؟ وفيلم معركة دون أن يكون قد وفق في معركته؟ عن التلفزيون بالطبع. فهو واحد من تلك الأفلام العديدة التي (كما يلوح مما قلناه أول هذا الكلام)، حققتها السينما، لا سيما عند منعطف ما بين القرنين العشرين والحادي والعشرين، محاولة أن تهزم التلفزيون الذي لم يعد يتوانى عن مهاجمتها ليس في عقر دارها فقط، بل حتى وبخاصة في عقر دار الواقع الحياتي الذي لا يمكن للسينما أن تشكل أكثر من رديف له، فيما يتمكن التلفزيون، لا سيما بصيغه الأكثر "واقعية" من أن يكون هو الحياة نفسها... الواقع نفسه.

الموضوع تلفزيون الواقع

وما موضوع "استعراض نيومان" سوى تلفزيون الواقع في تجلياته القصوى، فهو يقدم لنا المدعو ترومان (وترجمتها "الإنسان الحقيقي"!) وهو الآن في الثلاثين من عمره نلتقي به وقد أمضى كل سنواته تلك منذ ولادته تحت عدسات ألوف الكاميرات تعايشه وتلاحقه وتحصي عليه حركاته وسكناته 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع في برنامج متواصل يبث على مدار الساعة في كل لحظة... إنما دون أن يعرف صاحب العلاقة شيئاً عن ذلك كله. فمنذ البداية وتحت رعاية المنتج والمخرج كريستوف الذي يقود العملية كلها كإله متحكم، بُني عالم ترومان كله كعالم حقيقي وجيء بأعداد هائلة من التقنيين والكومبارس ليلعبوا جميعاً أدوارهم في استعراض ترومان الذي هو الوحيد الذي يعتقدهم يلعبون أدواراً في حياته "الحقيقية"، هم الذين بين الحين والآخر في هذه اللحظة أو تلك من حياة ترومان يقدمون دعايات للبضائع والمنتجات الاستهلاكية من خلال ربطها بحياته ويومياته، هي في النهاية لعبة حقيقية تتغلغل في حياة فرد واحد طوال ثلاثين سنة دون أن يتنبه هو إلى ذلك، وكان يمكن للعبة أن تتواصل ثلاثين سنة أخرى دون أن يفوتها دخول تفاصيل مرسومة كلها بدقة دون أن تلفت انتباه صاحب العلاقة الذي يزوَّج حتى امرأة في البرنامج ويعشق أخرى. والحقيقة أن هذه العشيقة التي يغرم بها حقاً ستكون أحد المفاتيح التي تكشف له اللعبة في نهاية الأمر، إذ تستقيل وتنضم إلى جماعة نضالية جعلت همها إيقاظ ترومان على واقعه وتحريره من ذلك الحصار.

أسئلة العلم الجادة

مهما يكن، في نهاية الأمر سوف تتضافر مجموعة من الصدف والظروف كاشفة لترومان حقيقة الأمر متوجهة به إلى الإفلات من تلك اللعبة، وربما على الطريقة الهوليوودية هذه المرة، لا على الطريقة التلفزيونية، ولكن هل يهم هذا كثيراً؟ الحقيقة أن هذا السؤال لا ينطرح هنا عبثاً، بل كمحاولة للعودة بموضوعنا هنا، إلى سياق السؤال الذي طرحناه أول هذا الكلام، ولكن في انتظار تحليلات هنا لا يزال باحثون كبار في علم الاجتماع وفلسفة الاستعراض يطرحونها، قد يكون من المفيد أن نتوقف عند بعض الممهدات التي تساعد على ولوج هذه التحليلات البالغة الجدية على أية حال، لا سيما أول الأمر في مجال التحليل النفسي الذي جرت محاولات عديدة لتطبيقه على الفيلم، ومنها مثلاً ما جاء في دراسة جدية نشرت في "المجلة الدولية للتحليل النفسي" حللت ترومان كــ"مراهق نموذجي في بداية الفيلم، يشعر أنه محاصر في عالم عائلي واجتماعي يحاول أن يتوافق معه بينما هو غير قادر على التماهي معه تماماً، معتقداً أنه ليس لديه خيار آخر" (إلا من خلال خيال الهروب إلى جزيرة بعيدة). وفي النهاية، "اكتسب ترومان وعياً كافياً لحالته" يسفر عن "مغادرته المنزل"، و"تطوير هوية أكثر نضجاً وأصالة كشخص بالغ"، تاركاً عالم الطفل وراءه ليصبح "رجلاً حقيقياً".

كهف أفلاطون

وفي مجال فلسفي لا يبتعد كثيراً من السؤال السيكولوجي، كان لافتاً تصوير استخدام مهرجان كان لصورة ترومان في ملصق واحدة من دوراته الأخيرة بكونه انعكاساً لكهف أفلاطون، إذ يفيدنا الملصق كيف أن المشهد الأخير في الفيلم يحث المشاهدين على تخمين ذلك، وفي السياق نفسه قد يكون من المفيد أيضاً أن نصل هنا إلى ذلك التفسير الذي اعتبره أصحابه "دينياً" لحكاية ترومان. تفسير قارن فيه الباحث بينسون واي باركنسون المنتمي إلى جماعة رسائل المورمون المنتج التلفزيوني المصاب بجنون العظمة كريستوف بالشيطان لوسيفر، ودائماً هنا وفقاً لباركنسون، يمكن مقارنة المحادثة بين ترومان ومارلون في واحد من مشاهد الفيلم الأخيرة بما يحكيه كتاب موسى عن كليم الرب وحديثه مع العناية الإلهية على الجسر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وصولا إلى يوتوبيا توماس مور

وإلى هذا كله ثمة من بين المحللين من تحدث عن إمكان استخلاص أوجه تشابه بين الفيلم، أو بعض سماته على الأقل، وبين كتاب "اليوتوبيا" (1516) للفيلسوف الإنجليزي توماس مور المتحدث عن واحد من أهم مواضيع المدن الفاضلة في تاريخ الفلسفة، حين يصف مور جزيرة بمدخل واحد فقط ومخرج واحد فق،. حيث "وحدهم أولئك الذين ينتمون إلى هذه الجزيرة يعرفون كيف يتنقلون في طريقهم عبر الفتحات بأمان ودون أن يصابوا بأذى ومن هنا لا ينتمي ترومان إلى هذه المدينة الفاضلة التي غُرس فيها". هو الذي جعلته صدمة الطفولة خائفاً من احتمال مغادرة هذا المجتمع الصغير. والحقيقة أننا إذا ربطنا هذا كله بإشارات يمتلئ بها الفيلم تتعلق بالحلم الأميركي، في جناحه هنا القائم على محاولة فرض السعادة على الفرد بالقوة ومن خارج إرادته. وبالتحديد عبر جعله سعيداً بجهله لا بمعرفته، قد يمكننا أن نفهم السبب الذي وفر لـ"استعراض ترومان" ذلك النجاح الكبير، نقدياً وتجارياً، لكنه في الوقت نفسه جعله عاجزاً حقاً عن تأدية المهمة التي أنتج أصلاً من أجل تحقيقها: مهمة توجيه ضربة قاضية إلى التلفزيون. فهل كان الفيلم قادراً على فعل ذلك لو أن أحداثه جعلت في نيويورك وحققه بريان دي بالما؟ سؤال جدير بأن يطرح دائماً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة