ملخص
الكرملين لم يحسم بعد موعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المرتقبة لتركيا ولا موقعها
تظل العلاقات الروسية - التركية شديدة التعقيد والحساسية، فلتركيا مصالحها التي كثيراً ما تتصادم مع أولويات الآخرين ممن ترتبط بهم عبر علاقات لطالما اتسمت بالتميز والفرادة، وقد كشفت مواقف كثيرة مدى تناقض المصالح الروسية - التركية خلال الفترة القليلة الماضية، والتي كان آخرها الموقف من صفقة الحبوب التي وقعتها روسيا وتركيا وأوكرانيا تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة، فضلاً عما شهدته زيارة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي إلى تركيا من إفراج عن قادة "كتيبة آزوف" من الأسرى الذين كانوا وقعوا في قبضة القوات الروسية.
وقد ظلت هاتان القضيتان تعكران صفو العلاقات بين روسيا وتركيا للحد الذي أعرب معه بعض البرلمانيين في روسيا عن رأيهم تجاه تركيا من منظور اعتبارها "دولة غير صديقة"، وذلك في الوقت الذي يقول فيه بعض المعلقين الأتراك ومنهم إيدان سنان أولغن، وهو دبلوماسي تركي سابق ومدير المركز التحليلي الذي يتخذ من إسطنبول مقراً له، "نحن الآن في مرحلة أخرى من العلاقات التركية - الروسية عندما يحتاج أردوغان إلى بوتين أقل، ويحتاجه بوتين أكثر"، على حد تعبيره.
"صفقة الحبوب"
وكانت روسيا وأوكرانيا أبرمتا "صفقة الحبوب" قبل عام بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً بوساطة تركيا والأمم المتحدة، وتكونت هذه "الصفقة" من جزئين هما "مبادرة حبوب البحر الأسود" و"مذكرة التفاهم بين روسيا والأمم المتحدة"، ويتعلق الجزء الأول بتصدير المنتجات الزراعية الأوكرانية من موانئ أوديسا وتشيرنومورسك ويوجني، أما الجزء الثاني فيتعلق برفع القيود المفروضة على الصادرات الزراعية الروسية.
وها هما الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان يتفقان خلال مكالمتهما الهاتفية الأخيرة الأربعاء الماضي على زيارة الرئيس الروسي لتركيا خلال أغسطس (آب) الجاري، وكان الزعيمان سبق وتوصلا إلى مثل ذلك الاتفاق توطئة لحسم القضيتين الرئيستين موضع الخلاف، وهما صفقة الحبوب التي ترفض روسيا استئنافها شرط "أن يفي الغرب فعلياً بجميع الالتزامات التي سجلها تجاه روسيا"، والقضية الثانية تتناول مسألة إفراج تركيا عن قيادات "تنظيم آزوف" الذي تدرجه روسيا كتنظيم إرهابي محظور نشاطه داخل الأراضي الروسية، وهو ما قالت موسكو إنه يتعارض مع الاتفاقات المبرمة مع الجانب التركي وتنص على عدم الإفراج عنهم حتى نهاية العمليات القتالية بين الجانبين، وإن قالت المصادر الروسية إن بوتين لم يتطرق إلى هذه القضية خلال مكالمته الهاتفية الأخيرة التي تعد الأولى بين الرئيسين منذ ذلك الحين.
وكان الحوار منذ انعقاد "قمة فيلنيوس" لرؤساء بلدان الـ "ناتو" في الـ 12 من يوليو (تموز) الماضي تناول مختلف جوانب العلاقات الروسية - التركية، فيما توقفا بخاصة "عند موقف روسيا المبدئي تجاه إنهاء اتفاقات تصدير الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود والإفراج عن إمدادات الغذاء والأسمدة الروسية"، وفي هذا الصدد أعاد الجانب الروسي طرح شروطه التالية:
ـ الانسحاب من العقوبات المفروضة على توريد الحبوب والأسمدة الروسية.
ـ إزالة جميع العقبات أمام البنوك والمؤسسات المالية الروسية التي تخدم توريد المواد الغذائية والأسمدة، بما في ذلك ارتباطها الفوري بنظام SWIFT الدولي لتبادل المعلومات المالية.
ـ استئناف توريد قطع غيار ومكونات الآلات الزراعية وصناعة الأسمدة إلى روسيا.
ـ حل جميع المشكلات المتعلقة باستئجار السفن والتأمين على الإمدادات الغذائية للتصدير الروسي، مع ضمان لوجستيات الإمدادات الغذائية.
ـ توفير ظروف غير معوقة لتوسيع توريد الأسمدة والمواد الخام الروسية لإنتاجها، بما في ذلك استئناف عمل خط أنابيب تولياتي - أوديسا للأمونيا.
ـ تحرير الأصول الروسية المتعلقة بالزراعة.
كما ناقش بوتين وأردوغان جدول أعمال الشراكة الروسية - التركية مع التركيز على آفاق تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية وتنفيذ المشاريع الاستراتيجية المشتركة في مجال الطاقة، فضلاً عن التعاون في مجالات السياحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد وقفت الصين قرب هذه القضايا تأييداً لمثل هذه الجهود، إذ سبق وأوفدت وزير خارجيتها وانغ يي الذي قام بأول زيارة له إلى أنقرة بعد عودته لمنصبه السابق في محاولة "لإنقاذ صفقة الحبوب" التي تقول مصادر تركية إن "بكين واحدة من أكبر المستفيدين من الحبوب الأوكرانية"، وهو ما معناه أن توقف الصفقة لا بد من أن يترافق مع بعض الضغوط الاقتصادية بالنسبة إليها.
وبدا حرص الجانب الصيني واضحاً على عدم اتهام الجانب الروسي بتعطيل صفقة الحبوب، وهو ما حظى بمواقف إيجابية من الجانب التركي، غير أن الجانبين لم يتوصلا إلى اتفاق في شأن سبل الخروج من المأزق ليخلصا إلى الاتفاق حول "ضرورة حل هذه القضايا بشكل صحيح من خلال الحوار والمفاوضات"، في إشارة إلى ما سبق وطرحته بكين من خطتها للسلام ذات النقاط الـ 12 التي لم تلق قبول كييف.
"آزوف"
وكانت العلاقات الروسية - التركية اتسمت بكثير من التوتر بسبب ما اتخذه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من قرارات لم يكن ثمة من يتوقعها في روسيا، بحسب المصادر الرسمية في الكرملين.
وفي هذا الشأن قال المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن "روسيا وتركيا تحافظان على الحوار في ما بينهما على أعلى المستويات، وستستخدم موسكو مثل هذه القنوات لتوضح لأنقرة موقفها من نقل قادة كتيبة ’آزوف‘ المحظور نشاطها على الأراضي الروسية إلى كييف بالمخالفة للاتفاقات الموقعة".
وأكد بيسكوف أنه "في ما يتعلق بمسألة عودة قادة ’آزوف‘ فإن هذا بمثابة انتهاك للاتفاق الحالي"، مشيراً إلى أن الجانب الروسي سيناقش مع نظيره التركي كل هذه القضايا.
ومضى ليقول إنه "من المهم جداً، على عكس عدد من دول ما يسمى بالغرب الجماعي، أن تحافظ تركيا على حوارها معنا، وعلاوة على ذلك أن تحافظ عليه على مستوى عال وأعلى، وسنستخدم قنوات الحوار هذه بالترتيب، أولاً لتوضيح موقفنا، وبالطبع سنأخذ هذا الوضع بالاعتبار في الاتفاقات التالية في مختلف المجالات".
من جانبه قال رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين إن الجانب التركي لم يكن أحاط علماً موسكو بذلك ولم تحدث بينهما اتصالات بهذا الصدد، وسيتم تقييم تصرفات الجانب التركي بهذا الشأن على اعتبار أن ذلك التزامات لم يتم الوفاء بها من ناحيته.
غير أن ثمة ما يشير إلى أن الجانب الروسي عاد لسابق اهتمامه بقضية استئناف مناقشة قضية تصدير الغلال من منظور مراعاة البلدان الأكثر حاجة إلى الغذاء، وهو ما وعد به الرئيس بوتين ضيوفه من الزعماء الأفارقة خلال قمة روسيا - أفريقيا التي عقدت في سان بطرسبورغ خلال يوليو الماضي، وقد حظيت هذه القضية باهتمام كبير من جانب القمة الروسية - الأفريقية إلى جانب الأزمة الأوكرانية التي بحثها بوتين مع الضيوف الأفارقة خلال جلسة خاصة في اليوم الأخير لانعقاد القمة، استمرت إلى ما بعد منتصف الليل بكثير.
الداخل الروسي
على أن الضجيج الذي لا تزال أصداؤه تتعالى حتى اليوم يظل يصم الآذان في الداخل الروسي، منذ كشف أردوغان عن توجهاته الجديدة تجاه أوكرانيا وزعيمها الذي استقبله قبيل انعقاد "قمة فيلنيوس" لرؤساء بلدان الـ "ناتو"، فما أغدقه عليه من مكرمة الإفراج عن قيادات "آزوف" مدعومة بعرض آخر للتعاون في بناء اثنين من مصانع الطائرات من دون طيار التركية في أوكرانيا، دفع بعض رجالات البرلمان في روسيا إلى التحذير من أن "تركيا تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة في السياسة الدولية"، على حد قول نائب رئيس لجنة مجلس الدوما للشؤون الدولية ألكسي تشيبا الذي أضاف أن "تركيا لم تكن أبداً شريكاً أميناً لروسيا، ولكن من نواح كثيرة تردد صدى مصالح أنقرة وموسكو، ولذلك لا ينبغي لروسيا تغيير سياستها تجاه تركيا والاعتراف بها كدولة غير ودية". وتوقف في حديثه عند العوامل الرئيسة التي قد تؤثر في العلاقات الروسية - التركية ومنها دور أنقرة في "عدم وفاء روسيا بمصالحها بالكامل في صفقة الحبوب"، وننقل عنه ما قاله تعليقاً على إفراج تركيا عن قادة "آزوف"، "بالنسبة إلى ’أزوف‘ المنظمة إرهابية محظورة في الاتحاد الروسي ونقل أفرادها إلى أوكرانيا، فهناك أسئلة وسوء فهم حول ذلك، ولماذا كان هناك مثل هذا التبادل الرديء الجودة؟ لا نعرف ما كان عليه إلى جانب ما يمكن أن يبقى وراء الكواليس".
ولم يقتصر الأمر على نواب مجلس الدوما، إذ انضم إليهم عدد من أعضاء مجلس الاتحاد (المجلس الأعلى للجمعية الفيدرالية الروسية) ومنهم رئيس لجنة الأمن والدفاع فيكتور بونداريف الذي وصف تركيا بأنها تحولت من بلد محايد إلى دولة غير صديقة لروسيا "بسبب خضوعها لضغوط حلف الـ ’ناتو‘ وإفراجها عن قادة ’آزوف‘ وموقفها من صفقة الحبوب".
وتعليقاً على الوضع قال رئيس لجنة مجلس الاتحاد المعنية بالدفاع والأمن فيكتور بوندارييف إن تركيا تتحول من بلد محايد إلى غير ودود لروسيا في رأيه، وقد أفرجت أنقرة عن قادة "آزوف" بسبب ضغوط حلف شمال الأطلسي وكذلك بسبب الوضع مع صفقة الحبوب.
وذلك ما لا بد من أن يدفع بهاتين القضيتين إلى صدارة جدول أعمال الزيارة المرتقبة للرئيس بوتين إلى تركيا التي لم يحسم الكرملين بعد موعدها ولا موقعها، مكتفياً بما صدر عن الجهاز الصحافي للكرملين من إعلان بهذا الشأن.