ملخص
قضية بريغوجين غيرت الوضع في روسيا من غير رجعة والتاريخ الروسي يعيد نفسه
بعد تمرد بريغوجين القصير، قارن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خيانة قائد "فاغنر" الميليشياوي بعاصفة 1917 الثورية "بحال الجيش" في تلك السنة، "وبانهيار الدولة وخسارة بلاد شاسعة، وأخيراً، بمأساة الحرب الأهلية"، على ما قال بوتين في خطبة متلفزة، وطعن في "الخيانة الداخلية" المسؤولة عن هزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية. "ما نواجهه هو، بالضبط، خيانة".
وبعض المحللين الغربيين، كأنهم يقتفون مثال بوتين، قارنوا بريغوجين بلافر كورنيلوف، الجنرال القيصري الروسي الذي نقل، في أغسطس (آب) 1917، قوات من خطوط الجبهة الأمامية إلى بتروغراد، عاصمة روسيا يومها، وأوكل إليها طرد الثوريين منها، واتهم كورنيلوف بمحاولة انقلاب واعتقل.
وغداة 100 عام على الواقعة، على قول بعض أعداء بوتين الكثر، انفجرت روسيا من جديد. وبعد أن استولى على مقر أركان عسكري مهم في مدينة روستوف - على - الدون الجنوبية، سار مرتزقة بريغوجين إلى الشمال، نحو موسكو، في موكب منظم، وانتقلوا من محافظة إلى أخرى من غير أن يصطدموا بأضعف مقاومة.
وفي الأثناء لم تسمع كلمة واحدة من الكرملين، وانتشرت إشاعات عن أن بوتين استقل الطائرة إلى موسكو. وصرح الرئيس الأوكراني فولودويمير زيلينسكي أن الرئيس الروسي فقد السيطرة على روسيا. وأوصى المعارض الروسي في المنفى ميخائيل خودوركوفسكي، الروس العاديين بأن يتسلحوا لأن حرباً أهلية بدأت فعلاً.
إلا أن بريغوجين ألغى مسيره، في غضون ساعات، إلى موسكو، وقبل اتفاقاً فاوض عليه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو وقضى بإعفاء بريغوجين من الملاحقة بتهمة الخيانة والذهاب إلى بيلاروس، وفي وسع مقاتلي "فاغنر" إما مرافقته، وإما التوقيع على عقد مع وزارة الدفاع الروسية. وما بدا دراما قد تؤدي إلى القضاء على بوتين صار أشبه فجأة بمهزلة مخيفة.
وعلى رغم ذلك، فلا شك في أن قضية بريغوجين غيرت الوضع في روسيا على نحو لا عودة عنه. وثمة جوانب كثيرة من التمرد ونتائجه لا تزال غامضة. والجلي هو أن رجوع بوتين، ومعه نقاده وخصومه، إلى 1917 وقع على مقارنة سيئة. وما يحصل اليوم في روسيا يشبه حوادث حقبة سابقة على 1917، مسماة بزمن الفتن، أو الـ"سموتا"، ودامت من عام 1604 إلى عام 1613.
في أثناء هذه الحقبة، شهدت سلالة روريكيد الروسية نهاية عنيفة، واقتضى تثبيت سلالة رومانوف السلطة الملكية عقداً من الحروب والاضطرابات الأهلية. وبين أول الحوادث وخاتمتها لم يبق لروسيا كيان قائم وسيادة- وقد تلقى روسيا اليوم مصيراً مثل هذا، فنظام بوتين الأوتوقراطي والفردي عسر تصور خلافة منتظمة.
محدثون قبيحون، ومدونون قدماء
وكان إيفان الرهيب وعهده العنيف والمضطرب انتهى في عام 1584، هو من بنى الإطار الذي حصلت حوادث الـ"سموتا" فيه. فإيفان أرهق شعبه، واستنزف موارده المالية، وخاض حروباً لا نهاية لها في سبيل توسيع مملكته، في بلاد البلطيق على الخصوص. وشتت النخبة الروسية في دوامة إعدامات عظامية (بارانويا) أراد منها تثبيت سلطانه المطلق. وفي دورة غيظه، قتل ابنه الذي كان ليخلفه لو بقي على قيد الحياة، وأباح العرش لمنافسة شرسة بين أحزاب النخبة وكتلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأعقبت هذا الفصل فصول من الأفول الاقتصادي والمجاعة والنزاع. وأقساها الحرب بين بوريس غودونوف، رجل البلاط الطموح الذي نصب ملكاً بين 1598 و1605، وشاب مغامر، زعم أنه ابن إيفان. والمدعي هذا، "ديمتري الكذاب"، أيده قادة بولنديون- ليتوانيون طامعون في ثروات روسيا، وأيدته نخب موسكو، والسكان الروس بعض الوقت. وأدت وفاة غودونوف في 1605 إلى انتصار ديمتري الكذاب، فدخل موسكو وأعلن نفسه قيصراً عليها، قبل أن يقتل في السنة التالية هو وحاشيته البولندية على يد جمع خائب.
وابتلعت الحرب الأهلية والأزمة الاقتصادية روسيا، بينما الـ"سموتا" تتأجج. وحل أعداء الخارج في الداخل: قدم السويديون من الشمال، وهاجم خان القرم، ذراع السلطنة العثمانية، من الجنوب، واحتلت القوات البولندية الكرملين. ولا يعلم أحد كيف نجت روسيا من الموت. والمؤرخون القوميون يزعمون أن السبب هو موجة هائلة من الوطنية والإيمان أنقذت الروسي.
والثابت هو أن دورتي تجنيد عريض أسعفتا الروس على استعادة الكرملين من البولنديين وفرض النظام تدريجاً. وأجمع الروس، من جميع طبقات المجتمع، في 1613، على انتخاب القيصر "الشرعي" ميخائيل رومانوف. وعاد السلام مع البلدان الغربية بعد خمس سنوات.
قضية بريغوجين غيرت الوضع في روسيا من غير رجعة
ذهب المؤرخ القيصري، فاسيلي كييوشيفسكي، في محاضراته في التاريخ الروسي المطبوعة في 1904، إلى أن الـ"سموتا" هي "ركن أسلوب الحياة الحديث" في روسيا، و"دراسة هذه الحقبة"، على قوله، "تشبه كتابة سيرة ذاتية".
وفي أعقاب 120 سنة لا تزال هذه الكلمات صادقة وتنطبق على الحاضر. فروسيا، على رغم قوتها النووية، وسكانها المدينيين المتحضرين، واقتصادها الرقمي المتين ونظامها المالي الصامد، تبدو أبنيتها وهيئاتها الاجتماعية والسياسية متقادمة وبائتة، وأقل حداثة، من بعض الوجوه، من الاتحاد السوفياتي نفسه. فـ"أساس القوة الروسية لم يتغير أبداً في أثناء القرون الخمسة الماضية، على ما كتب الكاتب والمسرحي الروسي فلاديمير سوروكين، في فبراير (شباط) 2022.
وهذه مبالغة تكشف عن أفكار عميقة. وفي كل مرة تشبه فيها روسيا أوروبا الحديثة تعيد هزة حادة البلد إلى أصوله القروسطية. وانتهى نصف قرن من التصنيع والتحديث إلى فظائع الثورة الروسية والاستبداد البلشفي. وبدا أن كفاح ثلاثة عقود في سبيل تخطي إرث الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الفظ بدأ يؤتي ثماره قبل أن ينهار في 1991. وأفضت محاولات "أوربة" روسيا الواعدة، في أعوام 1990، إلى ردة فلاديمير بوتين.
ولا تشبه روسيا بوتين الديكتاتورية الشيوعية ولكنها متقادمة، وعليها سمات الهرم على نحو غريب. وهي تبدو مناسبة للقرن السابع عشر فوق مناسبتها القرن الحالي أو القرن السابق. تلاشت وطويت العاصمة الثقافية في العهدين القيصري والسوفياتي. وطوي عهد الاشتراكيين المثاليين والبيروقراطيين المستنيرين. وطويت معايير الفروسية والشرف التي ألهمت كورنيلوف محاولة إنقاذ روسيا من الفوضى. ولا يعثر الواحد على الإمساك أو التحفظ الذي حال دون إيقاع الـ"كي جي بي" مجزرة في المعارضة الروسية في أغسطس 1991، حين أخفق فريق من السوفياتيين المتحمسين والمغالين في الاستيلاء على سلطة غورباتشيف. وهمدت النزعات الإنسانوية والمستنيرة التي نفحت الحياة في تحديث روسيا الفكري والاجتماعي طوال عقود. ولم يبق إلا لفيف من الشخصيات الجديرة بأداء أدوار في أوبرا: القيصر المنكفئ، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المنبطح، الحاشية الخبيثة، أسياد الحرب المتنمرون، وأخيراً المتصدي المغامر إلى الخلافة، وكلهم يؤدي دوره بحسب ما تقتضي قواعد الصنعة.
وثمة مثالات كثيرة لبريغوجين في وقائع الـ"سموتا" فهو يشبه مثيلاً له اسمه فاسيكي شوبكسي كان رجل بلاط كاذباً ومتآمراً وحاول اغتيال المتصدي لوراثة العرش. وثمة مثيل آخر كان قائداً عسكرياً متمرداً وسجيناً سابقاً هو بولونيكوف، قاد في أغسطس 1606، جيشاً مختلطاً سار إلى موسكو وهو ينوي قتل النخب وتنصيب "قيصر الشعب". وهزمته القوات الحكومية بعد أن خانه شركاؤه، وسملت عيناه وقضى غريقاً. وفي يوم واحد، تصدى بريغوجين للخلافة على عرش روسيا، وجسد آمال ملايين الناس وانتظاراتهم ومطاعنهم، لكنه خيب كثيرين، من ميول متفرقة، حين تنصل سريعاً من هذا الدور.
مثلث الاستقرار
تعرب أخبار الـ"سموتا" عن أحوال روسيا اليوم فوق إعراب أخبار 1917 الخادعة لعلل كثيرة. ففي الكرملين يتربع قيصر وليس حكومة انتقالية عاجزة، على ما كانت عليه الحكومة في 1917، أولاً، وليس ثمة متطرفون روس على شاكلة فلاديمير لينين وليون تروتسكي، حتى لو بحثنا عنهم في زوايا المكتبات الغربية الخفية. ولا تجوز المقارنة بين بريغوجين وكورنيلوف.
فكورنيلوف كان على أتم الاستعداد لبذل حياته في سبيل بلده والمبادئ الديمقراطية، على ما صنع فعلاً بعد أقل من عام على مسيره الفاشل إلى بتروغراد- مسير آخر في سبيل تحرير روسيا من البلاشفة. أما بريغوجين فهو قائد مرتزق لا يؤمن بشيء، وثمرة هجينة مولودة من قران رجل حاشية وزعيم عصابة مافيا. وأثار غيظه تغلب رجال حاشية بوتين الآخرين، أعدائه، عليه، وعزموا على انتزاع ممتلكاته، ماله وجيشه الخاص، منه. وهو لم ينو يوماً أن ينصب نفسه القيصر المقبل، ولم يكن تمرده مؤامرة حذرة للاستيلاء على السلطة، بل عملاً يائساً للحيلولة دون حل "فاغنر".
وتصلح الـ"سموتا" إطاراً لفهم هشاشة الدولة الروسية وقدرتها على الصمود. فالاستقرار في أوائل القرن السابع عشر كان ثمرة تفاعل أربعة مراكز سلطة، ثلاثة مراكز داخلية وطنية، ومركز خارجي: القيصر، والنخب، والشعب والأعداء. وفي أثناء الـ"سموتا" جرت روسيا إلى حروب متواترة مع جيرانها الغربيين، وعلى الأخص مع الاتحاد البولندي- الليتواني.
وكان دور المثلث الوطني الداخلي حاسماً في صنع المخرج من هذه الحقبة. وفهم الناس جميعاً أن مصير روسيا، من غير القيصر، هو الانهيار، لكن النخب الروسية كانت تخاف شعبها فوق خوفها من الأعداء الخارجيين، وكانت مستعدة لقبول سيطرة أجنبية، أو، على أضعف تقدير، لقبول المساومة مع الأعيان الغربيين على الحيلولة دون انتفاضة عامة من تحت تؤول إلى توزيع الثروة والملكيات.
وفي كل مرة أيدت فيه النخبة متصدياً للحكم يسانده الغربيون، مثل ديمتري الكذاب تحلق الشعب حول القيصر والدين، وحول الدولة الروسية. وانتهت الحرب الأهلية في روسيا ببروز ليوانان جديد، حلف جديد بين النخب والشعب والقيصر.
ومثلث القوى المحلية هذا لا يزال يسيطر على روسيا إلى اليوم. ولا ريب في أن تمرد بريغوجين أضعف القيصر، وزعزع سلطة بوتين وصورته. ويذكر ظهوره المتخشب والحاقد على شاشات التلفزة، بينما معظم الناس نيام، بالأيام المضطربة في حقبة 1991- 1993. فهو لا يعلم ما عليه أن يقول، وبدا تحذيره من "1917 آخر" نابياً وفي غير موقعه.
والحق أن صد انقلاب بالقول إن انتصار المتآمرين يعود على الناس بسوء الحال، رد ركيك ومتهافت. ولم يتحمل بوتين المسؤولية عن الفوضى. وبدا تهديده تلويحاً في الهواء. وعلى رغم هزاله، نجح الانقلاب في إضعاف الزعيم الروسي فوق ضعفه.
لا يعني ضعف بوتين أن نهاية عهده قريبة
ولكن تفاقم ضعف بوتين لا يعني أن نهاية عهده قريبة. فالنخب الروسية، والجيش والشعب لم ينحازوا إلى صف سيد الحرب المغامر على بوتين. فهم حدسوا، مصيبين، في أن النزاعات والفوضى لن تعود عليهم بغير الضرر، ولن تقود إلا إلى "سموتا" أخرى، وتكبدهم خسائر مالية ضخمة، وتطلق العنان للعنف.
وانتهى التمرد قبل أن يضطر الروس إلى الانتصار لفريق على آخر. ولم يحظ بريغوجين، في أي وقت من الأوقات، بفرصة الفوز بتأييد نخب موسكو والجمهور معاً.
وعلى قدر ما تدوم الحرب في أوكرانيا تتعاظم فرص اندلاع "سموتا" جديدة في روسيا. فالنخب الروسية تفصلها، مرة أخرى، عن عامة الناس هوة عريضة كتلك التي مهدت لزمن الفتن. ومثال القيصر هو العامل الوحيد الذي يجمعهم ويمكن الدول من الحكم.
فإذا توارى بوتين فجأة، اضطرت حاشيته إلى مجابهة خيار عسير. إما انتهاج طريق غودونوف ورمي روسيا في لجة الفوضى، وإما تجنب الحرب الأهلية وإتاحة الفرصة أمام كل الكتل لانتخاب رئيس جديد على وجه السرعة.
وبعد يومين على نهاية تمرد بريغوجين، خاطب بوتين الشعب الروسي، مرة ثانية، ومدح كل الناس، ولم يستثن المقاتلين الفاغنريين فأشاد بمسلكهم الوطني والعاقل، ولكنه أشار إلى الـ"سموتا" على وجه التحذير. وهذا ما لا يزال الروس يفهمونه. واحتمال انزلاق قوة نووية إلى زمن فتن جديد لا ريب يرعب البلدان الغربية كما يرعب الشعب الروسي. ولا شك في أن فرص انتقال سريع من الأوتوقراطية في زمن حرب إلى نظام ليبرالي مرن في موسكو، ضعيفة. والأمثلة المستقاة من التاريخ الروسي تطيل أمد الانتقال.
*أستاذ التاريخ الدولي في كلية لندن للاقتصاد، وصاحب: الانهيار: تداعي الاتحاد السوفياتي
مترجم من فورين أفيرز 28 يونيو (حزيران) 2023