Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 موسى برهومة في لعبة السرد المتقاطع مع السيرة

رواية "ضِحْكِتْ تاني" تنتصر للحياة بالحب والعزم الوجودي

لوحة للرسام إدوارد مونخ (متحف مونخ)

ملخص

رواية "ضِحْكِتْ تاني" تنتصر للحياة بالحب والعزم الوجودي 

"ضِحْكِتْ تاني" هي الرواية الثانية للكاتب والأكاديمي الأردني موسى برهومة، الصادرة عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، بعد روايته الأولى "حتى مطلع الشغف" الصادرة عن المؤسّسة نفسها. وفيها يطرح سؤالي الحياة والموت، اللذين يشكّلان وجهين لعملة واحدة، وينخرطان في علاقة جدلية بينهما. ويرصُد تداعيات هذه العلاقة على الإنسان وما تُحدِثُه فيه من تحوّلات تتمّ ترجمتها في خيارات معيّنة، وتتكشّف عن هشاشة الإنسان وصلابته، في الوقت نفسه، في مواجهة المرض والموت. وهو ما يتمظهر في الأحداث التي تتمحور حول بطل الرواية. بهذا المعنى، نكون إزاء رواية شخصية،  تزاوج بين  البعد السِّيَري، باعتبارها تتناول سيرة الشخصية المتقاطعة مع سيرة الروائي، في نقاط  كثيرة، والبعد الروائي، باعتبارها تدرج الوقائع السِّيَرية  في خطاب يخرج على كرونولوجية الزمن،  ويقدّمها وفق مقتضيات الفن الروائي.

 في روايته الثانية، يطرح برهومة  قضايا مثل حتمية الموت، قيمة الحياة، هشاشة الكائن البشري وصلابته، التمتّع باللحظة الراهنة، عدم هدر العمر في معارك جانبية، إعلاء قيمة الحب، التخفّف من المشاعر السلبية، مواجهة تحدي الفناء بالكتابة والفن والجمال... مما يجعل من الرواية درساً متقدّماً في حب الحياة والتلذّذ بكلّ لحظة منها. وهو يفعل ذلك، من خلال بناء شخصية وائل عبد الكريم المحورية، وتصوير المحنة الوجودية التي تعيشها الشخصية، وآليات الدفاع التي تجترحها، والدروس التي تخرج بها من تلك المحنة. وغنيٌّ عن البيان أن موسى برهومة ووائل عبد الكريم يتقاطعان في  كتابة الرواية، العمل الصحافي، التدريس الجامعي، الخلفية الفلسفية، وغيرها، فنستنتج أننا إزاء رواية سيرية، يتصادى فيها الروائي والبطل إلى حدّ التماهي.

يتّخذ برهومة من عبارة "ضِحكت تاني" المستلّة من أغنية "فاتت جنبنا" لعبد الحليم حافظ عنواناً لروايته، ويبدأ بها الوحدة السردية الأولى من الرواية "ضِحكت تاني نفس الضحكة وراحت ماشية"، وينهي بها الوحدة السردية الأخيرة منها. وبين البداية والنهاية تتردّد العبارة نفسها غير مرّة. ذلك أن وائل عبد الكريم، العائد من الموت، النزيل في غرفة في مستشفى، يردّد العبارة في ذهنه عندما يصحو، ويشعر بالحاجة إليها كحاجته إلى الأوكسجين، ويفضّل سماعها على تناول الفطور الذي جاء به الممرّض، في بداية الرواية. ويضغط على "يوتيوب" لسماع الأغنية، مستثمراً ما أغدقته عليه الطبيعة من سخاء، ذات صباح مليء بالإشارات، في نهاية الرواية. وهكذا، يُشكّل سماع الأغنية حاجة وجودية للشخصية في حالتي المرض والصحة، وآلية دفاع يشهرها مع آليات أخرى في وجه المرض والموت، ويعبّر بواسطتها عن حب الحياة. وهو ما ينطبق على الكتابة والموسيقى والشعر والجنون وطيش المراهقة وغيرها.

 معانٍ ودلالات

 بالانتقال من العنوان إلى المتن، تثير العبارة أسئلة تطرحها الشخصية المحورية العائدة من الموت على نفسها، فيتساءل برهومة، على لسان وائل عبد الكريم، عن الفاعل الذي يقوم بفعل الضحك ثانية، وعن الهدف المتوخّى من هذا الفعل، على النحو الآتي: "أهي الحياة من فعل ذلك؟ أهي إشارة العودة من جديد إلى العالم الواقعي، ومزاولة الأشغال العادية، ومكابدة المشاق، ومطاردة المستحيل؟ أهي تذكرة الانطلاق من جديد، بعد توقّف عن السفر كاد أن يلقي به من الطائرة، وهي على ارتفاع شاهق أعلى من الغيم؟". ويتساءل، في الصفحة نفسها، عن المعنى الذي تكتنزه تلك العبارة، بالقول: "هل يعني أن الدنيا تضحك على الكائن أحياناً؟  هل تمازحه، أم تعابثه، أم تمتحنه وهي تلقي به في فم التهلكة والفناء، ثم قبل أن يبتلعه العدم تعيده إلى الحياة؟". 

هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها الأحداث المتمحورة حول وائل عبد الكريم في المتن الروائي والمحنة التي يعيشها ويخرج منها منتصراً على الموت، ولو إلى حين. فوائل الأردني المقيم في دبي، في منزل يطل على شارع فرعي في منطقة الغاردنز، يغرق نفسه في العمل كي لا يرتطم بأوجاع الحنين إلى الوطن، وكي يتمكّن من سداد الديون المتراكمة، من جهة، ويشحن عقله بالأفكار الإيجابية ويملأ قلبه بالأغاني والأشعار كي يصمد في وجه العواصف العاتية، من جهة ثانية. ويعيش حياة مستقرة مع أسرته الصغيرة، يكمل كتاباً، أويدقّق مقالة، أو يحرّر تقريراً صحافياًّ،  أويقرأ في ما تبقّى له من الوقت، حتى إذا ما داهمه، ذات سبت يوافق فيه التاسع والعشرين من ديسمبر(كانون الأول) 2018،، ألمٌ في الجهة اليسرى من الصدر، يشكّل نقطة تحوّل صغيرة في مجرى حياته، ويلقي بظلال من القلق عليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حين يقوم الأطباء بفحصه يقرّرون إجراء عملية قسطرة له، تشكّل نقطة تحوّل أخرى، أكبر من الأولى، يترتّب عليه البدء من جديد بقلب نظيف. غير أن التحوّل الأكبر يتمظهر في تسلّل جرثومة لعينة إلى دمه، خلال العملية، مما يحدث انقلاباً صحّياًّ ونفسياًّ في حياة الشخصية، يترتب عليه إعادة النظر في خياراتها ونمط عيشها، وهندسة علاقاتها الاجتماعية من جديد. ذلك أن عبد الكريم الذي يشارف الموت، يعود منه بفضل تعلّقه بالحياة، وزجر أمّه الميتة له والطلب إليه العودة من حيث أتى، وحاجة أسرته إليه، ووجود مشاريع تقتضي الإنجاز. والمضحك المبكي أنه عندما تطلب إليه زوجته رفع سبّابته للتشهّد، بعدما فقد الأطباء الأمل في إنقاذه، يقوم برفع إصبعه الوسطى، فتشكّل هذه الحركة  تحوّلاً في الاتجاه المعاكس، وتبدأ ويستخلص المريض العائد من الموت مجموعة من الدروس الثمينة.

 لعل أبرز الدروس التي تتمخّض عنها الرواية  التي يستخدم فيها برهومة لغة سردية سلسة، هو أن الحياة قصيرة لا ينبغي هدرها في معارك جانبية، وينبغي أن نعيش كل لحظة بلحظتها، وأنّ نكد الدنيا يحجب مباهج الحياة، وأن "المسرّة ننشئها نحن ولا أحد سوانا"، وأن الأمل يحيي القلب والعقل، وأن حياة العادي من الناس أحلى من حياة النجم لأن "النجومية مقايضة أليمة مع الحرية"، وأن 90% من الحياة تحدّده ردود أفعالنا بينما 10% فقط منها يتشكّل ممّا يحدث لنا، مما يجعل حياتنا من صنع أيدينا وليس ممّا يفعله الآخرون بنا. هذه الدروس وغيرها تدفع بنا إلى القول إن الرواية تصدر عن منظور إيجابي، وتُعتبَر درساً متقدّماً في حب الحياة والحرص عليها في مواجهة الموت وعواصفه العاتية. ولعل هذه الوقائع والدروس تشكّل إجابة وافيه عن الأسئلة المطروحة أعلاه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة