ملخص
حليم جرداق رسام وحفار ومفكر وكاتب من صنف الأدباء والشعراء والفلاسفة، ونحات أشكال تتجلى كتحف ذات نقوش غائرة وناتئة. كان من منظري الفن القلائل، فلسف الخط، فسماه الزيح، ترك مؤلفات عدة
في سياق فعاليات الدورة الرابعة لمهرجان "عنبر وغودو" للثقافة والفنون نظم لقاء في بيت وحديقة الفنان والشاعر أدهم دمشقي (بيروت - الجعيتاوي) كتحية للفنان حليم جرداق (1927-2020) في الذكرى الرابعة لرحيله جمع نخبة من أهل الفن والثقافة والفكر بحضور عائلة الفنان مرفقاً بمعرض ضم مجموعة من أعماله المختارة من مختلف المراحل الفنية (من مجموعة ناجي جرداق) يعود أقدمها إلى الخمسينيات مع عرض لمقاطع مصورة من شريط وثائقي من أرشيف المخرج بهيج حجيج.
ما كتبه أصدقاء الفنان والمقربون، نقاداً وأدباء وأصحاب غاليريات (منهم مهى وفيصل سلطان وربيعة أبي فاضل وإبراهيم زود) في ذكرى رحيله من نصوص وما تُلي من عذب الكلام والاستذكارات والشهادات، جاءت مثل لمعانات ترج بلطائف الشوق أبواب الزمن على الماضي الجميل، زمن حليم جرداق، الحاضر في غيابه، وفي أعين متذوقي فنه.
حليم جرداق رسام وحفار ومفكر وكاتب من صنف الأدباء والشعراء والفلاسفة، ونحات أشكال تتجلى كتحف ذات نقوش غائرة وناتئة. كان من منظري الفن القلائل، فلسف الخط، فسماه الزيح، ترك مؤلفات عدة أبرزها "تحولات الخط واللون" و"عين الرضا". ويعد من طليعة فناني جيل الحداثة المؤسسين، عرف كمجدد لفن الغرافور Gravure، كما سبق عصره في اختبار مختلف التقنيات والخامات، فكان من أكثر المحدثين جرأة ومغامرة في السطو على الخيال الآتي من عبقرية الطفولة وسحرها ومن قوة الانفعالات الخطوطية واندفاعاتها. ثار على اللوحة التقليدية، روض وحوش الألوان، ولم يكتف بمساحة القماش وصفائح المعادن والورق، بل راح يرسم أشكاله وزيوحه في الفضاء بأسلاك معدنية تبدو مكهربة في قفزها كجنيات أو كائنات أسطورية خرجت من كهوفها واستسلمت لبداهة يديه وقريحته في الطي ونزواته في الارتجال.
لغة اللهب
"لا العناصر بذاتها ولا الغور نفسه، بل النار لغة اللهب، لهب الفكر لغة عيني الرضية"، كما كتب حليم جرداق هذا المثقف الكبير: ابن الشوير من مواليد عين السنديانة عام 1927. درس الفن في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة في بيروت، وفي عام 1957 سافر إلى باريس فتابع دراسته في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، وفي أكاديمية الغراند شوميير، إذ نهل علومه من محترفات أساتذتها، لا سيما أندريه لوت وهنري غوتز، فاكتسب من الأول طاقة التلوين، ومن الثاني طاقة التعبير، لكنه تفوق في فن الحفر الطباعي على النحاس (Gravure) مما أهله لنيل الجائزة الأولى للحفر في المدرسة الوطنية العليا في باريس (1961).
يتذكر حليم جرداق أنه عندما ذهب إلى باريس كان منفتحاً بصورة تلقائية على فنون الحداثة، كما لو أن هناك رابطاً خفياً يجذبه إليها، وجعله بالتالي يتفهم أسرارها. فقد اختبر الوحشية والتكعيبية والسوريالية، ثم التعبيرية والتجريد، وصولاً إلى فن جماعة كوبراCOBRA (1948-1951) التي اختصرت مفاهيمها كل فنون القرن العشرين، في عودتها إلى عبقرية التلقائية من خلال المزج ما بين الفن واللعب، فضلاً عن اكتشاف الخامات والمواد والتقنيات وصور التعبير الحر في فن الطفولة والفنون الشعبية والبدائية. عاصر جرداق هذه الجماعة أثناء وجوده في باريس، وعقد صداقات مع بعض فنانيها الذين أعجبوا بفنه، مما زاده يقيناً بقدرته على إطلاق العنان للفضاء الحلمي الذي يمتلكه واكتشاف الينابيع الفوارة لحدسه وبواطن قريحته، والطبيعة الأصيلة لثقافة الزيح واللطخة اللونية المنبثقة من منطلقاتها العفوية واللاواعية في الشوير (مسقط رأسه).
الزيح كصوت والزيح كحلم
منذ عودته إلى بيروت عام 1966 استطاع حليم جرداق أن يتبوأ سريعاً مكانته المرموقة في مشهدية الحداثة التي ظهرت كحركة ثورية رائدة انطلقت بوادرها مع مجموعة من الأدباء والفنانين والشعراء المجددين. في تلك المرحلة حملت رسومه مناخات شعرية في مقارباتها لمسائل التعبير الحر بين الخيال والارتجال، وصفها جرداق بأنها "أثلام الذاكرة" المليئة بالسحر والغموض، وقام بنشرها في مجلة "مواقف" التي أنشأها أدونيس، كما شكلت رسومه الغرائبية ذات الطابع الشرقي، مناخات معرضه الذي أقامه عام 1967 في "غاليري وان" التي أنشأتها هيلين الخال (منذ عام 1963).
كان جرداق صديقاً حميماً لكوكبة من الشعراء أبرزهم: خليل حاوي وأدونيس وأنسي الحاج وجورج شحادة، وقد أسهم الأخير مع زوجته بريجيت شحادة في تنظيم معرض له في غاليري سنتر دار (عام 1973)، إذ عرض للمرة الأولى الصفائح النحاسية التي لم يسبق أن شاهدتها بيروت من قبل في المعارض الفنية، فقدمها كأعمال فنية بحد ذاتها وليست كوسائط طباعية، معتبراً حينها بأن جاربه الفنية: "تعكس فلسفة لغة الأشكال، التي تخاطب أعماق النفس البشرية، القادمة من قصيدة الازياح، أي الزيح كصوت والزيح كحلم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أدرك حليم جرداق أهمية علاقته بالمعادن كحفار في أكثر من إطلالة فنية تعود إلى العام 1973، كما أن فضول المـــعرفة لديه جـــعله على صلة وثيقة بإنجازات النحت المعاصر (لا سيما سيزار وآرمان). ولفرط إعجابه بالأشكال المطعجة والمضغوطة، أقام معرضاً لنحاسيات دهسها وحفرها على طريقته، جاهر فيها بجماليات الصفائح النحاسية المطعجة والعلب المسحوقة والمطروقة، كما صنع من شرائط الأسلاك المعدنية قامات نصبية منمنمة ومنحوتات تجريدية مبتكرة مزينة بحلي مزيفة من خرز أزرق أو أزرار أو نوى بعض الثمار، تستنبط من خزائن الخردة ما للفن من وظائف جمالية تزيينية مستلهمة من مواد بسيطة وجاهزة.
كان يبحث دوماً عن طوطمية لها إطلالة شعائرية وبدائية، هذا التفتيش لديه لم يقتصر على الشكل والقامة فحسب، بل عن موقع اللون من الزخرف المعدني. قد يبدو هذا الاتجاه الزخرفي والميل لاستخدام الألوان الذهبية على وجه الخصوص، بمثابة استعادة ما، لأشكال الشمعدانات ونقوشها، التي كانت تفتن مخيلة حليم جرداق، حينما كان طفلاً يتردد على كنيسة القرية يستمع إلى الألحان البيزنطية ويتأمل فخامة ملابس الكهنة، من دون أن يدرك أنها ستشكل يوماً عالماً سحرياً طقوسياً من الإشارات والرموز، التي ظل يرنو إليها من بعيد ذاكرته.
حليم جرداق كان الوحيد بين فناني جيله، الذي عرف كيف يظل طفلاً لعوباً ومثقفاً وكاتباً حكيماً وبدائياً حقيقياً وغرائبياً في ممارسة طقوس الفن كحالة شعرية، رادماً الهوة بين انواع الفن واصفاً نفسه بأنه المجنون الذي يحكي والعاقل الذي يسمع.