Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود الرحبي يحرر الرواية من مشقات التطويل

"المموه" تسعى إلى تقنية الشذرات من دون التخلي عن الأحداث والشخصيات

لوحة للرسام شفيق رضوان (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

"المموه" تسعى إلى تقنية الشذرات من دون التخلي عن الأحداث والشخصيات

يملك الكاتب العماني محمود الرحبي سجلاً يزيد على سبع مجموعات قصصية توجته بجوائز مرموقة منها جائزة السلطان قابوس وجائزة دبي الثقافية. واستطاع بمجموعات مثل "ساعة زوال"، و"أرجوحة فوق زمنين"، و"لم يكن ضحكاً فحسب" أن يرسخ اسمه بين أهم كتاب القصة العربية القصيرة. مع ذلك يغامر الرحبي من حين لآخر في مضمار الرواية، وقد أصدر: "خريطة الحالم"، "درب المسحورة"، "فراشات الروحاني"، و"أوراق الغريب"، قبل أن ينشر أحدث رواياته "المموه" (دار المتوسط).

لا شك أن المكانة التي حققها قاصاً تلقي بظلالها دائماً على منجزه الروائي، وتقيم المقارنات، وإلى أي مدى يكتب سرده الروائي بروح وتقنيات القصة القصيرة.

الدوامة والملحمة

تخلى الرحبي عن كل أدبيات الرواية الكلاسيكية المتعارف عليها، رغم حرصه على تجنيس نصه على الغلاف بأنه "رواية"، والمفاجأة أن النص يقع في أقل من 60 صفحة. ويظل الحجم معياراً معترفاً به في التصنيف، إذ كيف نضع نص الرحبي القصير في القائمة ذاتها مع روايات عربية أو عالمية تتخطى صفحاتها 400 وأكثر؟

 

بهذه الصفحات القليلة لا نصل إلى الحجم المعتاد للقصة الطويلة أو ما يسمى "النوفيلا"، وإنما نحن إزاء قصة متوسطة، نعثر على مثيلاتها ضمن مجموعات لكتاب مثل يوسف إدريس أو بهاء طاهر. فهل نرفض نقدياً التجنيس الذي اختاره للرحبي، وفقاً لمعيار الحجم، أما نتجاوز عن ذلك ونقبل ما ارتآه الكاتب لنصه؟ علماً أن ثمة تجارب عربية سابقة لروايات بالغة القصر مثل "المهدي" لعبدالحكيم قاسم، وهو أيضاً قاص من طراز رفيع.

غريبان في عمان

من الخصائص العميقة للقصة القصيرة، قلة الشخصيات، والعزلة. فهي تكتب عن شخص أو شخصين في حال أقرب إلى التوحد والانعزال. ثمة قصص كثيرة لتشيخوف وهمنغواي، ترتكز على هذين الملمحين. ويستعيرهما الرحبي بكفاءة، فلدينا البطل (الراوي أيضاً) الذي لا يكشف عن اسمه، وصديقه "عثمان". هما يتحركان معاً في فضاءات متنوعة داخل سلطنة عمان، لكن الفضاء المركزي المتكرر هو "الحانة" أينما وجدت.

لا تتوفر عن الرجلين معظم المعلومات، كما لا يتورطان إلا نادراً في أنشطة اجتماعية. مع تسيد "الحانة" كملتقى للغرباء والمتوحدين مع أنفسهم، ينطبق ذلك أيضاً على البطلين كغريبين عابرين. ثمة معلومات أساسية عن البطل/الراوي، فهو في منتصف الثلاثينيات من عمره، فشل في زيجة قصيرة لأن زوجته كانت متطلبة، كما فشل في عمله بسبب حبه للنوم. ويعيش مع أمه العجوز المتدينة.

 

وفي أحد الأيام قرر أن يطلق لحيته ويلتزم الصلاة، وهو ما طمأن والدته نسبياً، فابنها بات يعمل لآخرته، ولا ينقصه سوى أن يعمل لحياته الدنيا فيتزوج ويجد لنفسه وظيفة مناسبة. أما عثمان، فالمعلومات عنه أكثر ندرة، من الواضح أنه يتاجر في الممنوعات، ويلتقي زبائنه في حانات مختلفة، ويحتاج البطل بلحيته وهيئته المتدينة لجذب الأنظار بعيداً منه. إن هيئته المتدينة لن تكون مستغربة في مسجد، وإنما في حانة تصبح مثار اهتمام وسوف تجذب تركيز الآخرين نحوه، بما يسمح لعثمان بإجراء صفقاته في هدوء، وإبعاد الشبهات عن نفسه.

ضد التطويل

هل أراد الرحبي أن يسخر من الروايات السميكة المحشوة بالوصف والاسترسال، ونسخ مطولات من كتب السيرة والتاريخ؟ ربما لا يروق له ذلك التحشيد للمطولات وتفويزها بجوائز مرموقة لا لشيء سوى أنها تتجاوز 400 صفحة، هل بعد عشرات السنين من كتابة فن الرواية بكل اللغات، ما زال هناك ما يستحق أن يقال في 600 صفحة؟

اختار لنفسه الانتماء إلى ما تسميه سوزان سونتاغ "الحساسية الجديدة" المفهوم الذي روج له عربياً إدوار الخراط. إن الحساسية لا تلغي الفن، بل تحول وظيفته وكيفية إدراكه، وتفتح آفاقاً لأنماط كتابة مغايرة. ويسهل كشف ارتباط تجربة الرحبي عموماً بكتاب عالميين يعبرون عن تلك الحساسية الجديدة بطرق مختلفة مثل كافكا وبورخيس الذي أعد عنه دراسة أكاديمية.

أراد نصاً في غاية التكثيف والشفافية، يقارب الشعر في دقة اللفظ والتعبير، ويستمد بلاغته من شفافية لغته التي لا تستعرض ذاتها بصور بلاغية، ولا بـ"كليشهات" دارجة، ولا التنظير والاستطراد. إنها لغة تمامها في نقصانها، في المساحات الفارغة المتروكة لمخيال المتلقي. لا تعتمد الوصف بشكله المسهب المصور والمحاكي للطبيعة والبيئة بطريقة استقصاء العلماء، وإنما كحالة وسط تعين الإنسان وتكمله، بتعبير إميل زولا.

من ثم يقلص الرحبي تقنيات الرواية إلى حدها الأدنى، بديلاً عن استعراضها والتباهي بها، مع ذلك يظل قادراً على نحت عالم مدهش، يولد من التخييل وليس من السطور: "أمي بعد أن أطلقت لحيتي فجأة صارت تنظر إليّ بريبة. ليست الوحيدة من فعل ذلك في عائلتي. إخوتي كذلك. توجسوا من أمر خطير. الإرهاب. داعش. لا شيء غير ذلك بالنسبة إلى عاطل لم يكمل دراسته، ومطرود من عمله بإحدى الشركات، بسبب تأخره المتكرر وتأخر 30 عاملاً هندياً معه. لا أحد منهم يمكنه أن يتصور أني لم أطلق لحيتي إلا من أجل العمل في حانة".

هذا هو المقطع الرابع كاملاً من ضمن 27 مقطعاً تضمها الرواية، ويتراوح طولها ما بين بضعة أسطر إلى أربع صفحات. يوحي المقطع بقدرة الرحبي على التلاعب والقفز بين الأحداث والانطباعات، والنقلات الزمنية بين الماضي والحاضر والمستقبل.

تقنية الشذرة

ارتبطت جماليات الرواية بتراتبية الفصول المطولة المحكمة، لكن الرواية ما بعد الحداثية عموماً، كسرت تلك البنية المبالغ في إحكامها وتماسكها، لمصلحة بنية مفككة أساسها المقاطع القصيرة والشذرية، لذلك لا يشغل الرحبي نفسه بأن تكون مقاطعه متساوية الطويل، ولا حتى متشابهة في حمولتها السردية. فالمقطع الثامن مثلاً لا يزيد على ثمانية أسطر، يصف بلغة حيوية تلك العلاقة الثلاثية بين "عثمان" و"المموه" و"الزبون"، وفي الوقت نفسه يعمق معرفة المتلقي بتاريخ وشخصية "عثمان".

إن الشذرة كتقنية، تضاد البنية العقلانية المتماسكة للرواية على طريقة كتابها العظام مثل تولستوي وماركيز ومحفوظ. فإذا كانت بضعة سطور كافية للتعبير عن موقف ما، فما الداعي لكتابة كتاب كامل، بحسب وجهة نظر نيتشه. يستجيب الرحبي لروح وقلق العصر، شديد التسارع والتداول، ويكثف مقاطعه كأنها تدوينة يطرحها في وسائل التواصل الاجتماعي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبالعودة إلى الجذر اللغوي لمفهوم "الشذرة" في الثقافة العربية، فهو يشابه الفقرة، ويزيد عليها في ارتباطه بقطع الذهب الصغيرة. بذلك المعنى يرغب الرحبي في السخرية من الروايات السميكة، ويدعو إلى التحرر منها وأن يكتب كل مقطع بميزان الذهب، لا أقل من ذلك.

قاع المدينة

لا تكتسب "المموه" تميزها من شعرية بنيتها وكثافتها وشفافية لغتها، فقط، وإنما أيضاً من إطلالتها بنظرة عين الطائر على قاع المجتمع العماني، والخليجي عموماً. الذهاب نحو المسكوت عنه، وتجاوز الصور النمطية المستهلكة في المسلسلات الاجتماعية، وعدم الهرب نحو روايات تراثية تستحضر الماضي كفردوس مفقود أو تتقنع بحكايات تاريخية. إنه نص من لحم الواقع الحي، عن تجارة المخدرات والحانات. وفي مجمل مقاطعه يكسر الرحبي عامداً الصورة النمطية البراقة عن المجتمع الخليجي، لملامسة الواقع بلا أي تجميل. يتبدى ذلك منذ المشهد الأول، حين يلتزم البطل/الراوي، بالصلاة في المسجد، وبدلاً من الوصف الرومانسي لروحانية صلاة الفجر والسكينة والهدوء، يدير الكاميرا في اتجاه آخر يتعلق بسرقة أحذية المصلين. ولا يصدر أي حكم قيمة على شخصياته، بل يراقب الواقع ويعيد تصويره في ضربات فرشاة سريعة، مثل إشارته إلى الأم التي "جربت خادمات مسلمات كثيرات، ولكن، لم تر في نظافة هذه المسيحية واستقامة أخلاقها".

وعلى رغم تمركز مقاطع الرواية حول الشخصيتين الرئيستين، لكن الشخصيات العابرة في حياتهما مكتوبة برهافة وحيوية مدهشة مثل شخصية الأم كنموذج للسيدة الخليجية العجوز المتدينة، التي ترى في تدين ابنها وإطلاق لحيته علامة صلاح وتقوى، وآخر ما يخطر في باله أنه متورط في تجارة مخدرات.

هل أراد الرحبي فقط أن يشرح تفصيلة اجتماعية صغيرة تحت مجهره السردي أم أن "المموه" تعبر عن فلسفة وجود، يتراءى شبحه في مهن ووظائف وأدوار كثيرة، مشروعة وغير مشروعة. إن "المموه" نموذج لشخصيات كثيرة شبحية تدور حولنا، تظهر غير ما تخفي، ومهما برزت على مسرح الأحداث، فإنها ليست أكثر من غطاء لعوالم موازية وخفية، قلما يذهب السرد الخليجي إليها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة