Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

داريو يكتب سيرته من خلال شوبان وجورج صاند عبر وصية "سياحية"

حياة متقلبة لصاحب "ذهب مايوركا" بين عالم الدبلوماسية وجنون الإبداع تؤسس لفورة ازدهار أدب القارة الجنوبية

روبن داريو (1867 - 1916) (موقع شعراء أميركا اللاتينية)

ملخص

حياة متقلبة لصاحب "ذهب مايوركا" بين عالم الدبلوماسية وجنون الإبداع تؤسس لفورة ازدهار أدب القارة الجنوبية

لم يخلف الشاعر الأميركي اللاتيني روبن داريو عند رحليه عن عالمنا عام 1916، سوى نص "روائي" واحد في مقابل عدد كبير من المجموعات الشعرية. وعنوان النص "ذهب مايوركا" ويتحدث عن سيرة الشاعر من خلال إقامته في تلك الجزيرة الإسبانية الساحرة. ومنذ صدور هذا النص خلال الحرب العالمية الأولى تتعامل معه سلطات الجزيرة وسكانها باعتباره مفخرة قومية، بل يرى بعضهم أنه افتتح الرواية الأميركية اللاتينية في القرن الـ20. فهل هو حقاً رواية أم شيء آخر تماماً؟ سؤال سنجيب عليه آخر هذا الكلام ولكن بعد أن نعرف بداريو نفسه، مما يوصلنا إلى لحظة وضعه هذا الكتاب. والحقيقة أن العالم كان من الانهماك بالحرب العالمية الأولى ومآسيها بحيث كان من الطبيعي ألا يتنبه أحد لموت شاعر من طينة داريو. ولكن حتى لو كان العالم هادئاً لا حرب فيه ولا مآسي في تلك الآونة، هل تراه كان سيشغل باله حقاً، بموت شاعر من نيكاراغوا، التي كانت بالكاد سمع بها أحد في ذلك الحين.

مغامرة أن تكون شاعراً

ففي بدايات القرن الـ20، لم يكن أدب أميركا اللاتينية على جدول الأعمال، كانت تلك القارة لا تعتبر أكثر من مزرعة موز يمتلكها الأميركيون الشماليون، في ذلك الحين لم تكن أسماء بورخس وكورتاثار وماركيز واستورياس عرفت بعد، فإن اشتهر اسم أميركي لاتيني في العالم كان لا بد لذلك الاسم أن يكون إما ثائراً أو ديكتاتوراً. ومع هذا غامر روبن داريو بأن يكون شاعراً، وغامرت الأوساط الأدبية العالمية بعد ذلك بأن تنظر إليه بعين الاهتمام، مما يجعله يعتبر في يومنا هذا الوالد الشرعي لتلك الطفرة التي عرفها أدب أميركا اللاتينية في العالم خلال النصف الثاني من القرن الـ20. وهو يبجل اليوم على هذا الأساس، ويعاد اكتشافه وتترجم أعماله بين الحين والآخر، ولا يفوت كبار أدباء وشعراء أميركا اللاتينية أن ينسبوا أنفسهم إليه باعتباره الأب الذي فتح لهم الطريق، والحقيقة أن الطريق الذي شقه روبن داريو كان متعرجاً.

الصحافة كبداية

ولد روبن داريو عام 1867 في ميتابا بنيكاراغوا، ودرس لدى اليسوعيين، غير أنه سرعان ما ترك الدراسة ليلتحق بالعمل الصحافي وهو بالكاد بلغ الـ15 من عمره. وأتاح له ذلك العمل أن يتجول في بلدان أميركا الوسطى ثم أميركا الجنوبية، إذ ارتبط بصحيفة "لاناثيون" الأرجنتينية بوصفه مراسلاً خارجياً لها. وهو كان في الـ20 من عمره حين نشر مجموعته الشعرية الأولى، وألحقها بمجموعتين تاليتين وفرت له ثانيتهما "أزرق" (1888) شهرة غمرته بين ليلة وضحاها. لكن شهرته لم تقتصر على أميركا اللاتينية والوسطى، بل إنه بات معروفاً لدى صحافيي إسبانيا، وهو أمر اكتشفه إذ قيض له أن يزورها عام 1892 ليمثل صحيفته في احتفالات ذكرى اكتشاف أميركا. وفي إسبانيا تعرف على عديد من الوجوه الشعرية وبدأ يتذوق طعم الشهرة الحقيقية، ثم حين عاد عين قنصلاً لكولومبيا لدى بوينس آيرس، وهكذا صارت هذه المدينة مركزه، وبدأ الشعراء الشبان يتجمعون من حوله باعتباره رائد الحداثة الشعرية المرتبط بالحداثة الأوروبية. وهو أصدر في ذلك الحين دراسات نقدية عدة ومجموعة شعرية جديدة، قبل أن يعود من جديد لأوروبا فيستقر حيناً في إسبانيا، ثم يتوجه إلى فرنسا، إذ أقام فترة في باريس تعرف خلالها على فيرلين وعديد من الشعراء الرمزيين الذين رأى أسلوبه قريباً من أسلوبهم. ومنذ ذلك الحين لم يكف عن التنقل، داخل أوروبا وبين القارة العتيقة وعالمه الأميركي الجديد، وتوالت كتبه، ولم تعد هذه المرة مقصورة على الشعر، بل راح يكتب نثراً، في القصة وفي أدب الرحلات، وكان من أشهر كتبه في هذه المجالات "باريزيانا" و"إسبانيا المعاصرة" و"أراض شمسية"، وهي كلها كتب أصدرها خلال السنوات الأولى من القرن الـ20 ليحيي فيها بروز هذا القرن الجديد الذي اعتبره قرن الإنسان وانتصار الإنسانية على الظلام.

في خضم الدبلوماسية

وفي 1908 وبعد عودة مظفرة إلى أميركا الوسطى، عاد مرة أخرى إلى إسبانيا، ولكن بوصفه هذه المرة وزيراً مفوضاً لبلده لدى الحكومة الإسبانية، غير أنه سرعان ما أقيل من هذا المنصب فتوجه ليعيش في باريس، ثم ليعود منها من جديد إلى أميركا. وكانت تلك فترة عرفت فيها حياته تنقلاً وتشرداً كبيرين، لم يمنعاه على أية حال من أن يواصل كتابة الشعر وأن يجدد فيه، إذ أصدر تباعاً مجموعات عدة كانت الشبيبة الأميركية واللاتينية تتلقفها بلهفة وتكتب على منوالها، بحيث صار الرجل معلماً عبر مجموعات مثل "أغاني الحياة والأمل" (1907) و"قصيدة الخريف" (1910). وفي 1914 نراه يصدر روايته الوحيدة "ذهب مايوركا" التي كتبها بعد زيارة قام بها لتلك الجزيرة الإسبانية الخلابة، ولكن هل تراها كانت حقاً رواية حتى وإن كانت لا تزال تقرأ حتى اليوم كرواية؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على سبيل السيرة الذاتية

الحقيقة أن لكتابة "ذهب مايوركا" حكاية خاصة هي التي تجيب عن سؤالنا عما إذا كانت أم لم تكن رواية، وبالتالي لا بد من العودة إليها. ففي بداية العشرية الثانية من القرن الـ20 وكانت أحوال داريو ساءت، نراه يتوجه إلى هافانا عاصمة كوبا، إذ سيحاول الانتحار على الغالب بسبب تدهور أوضاعه والإهانات المذلة التي كانت بدأت تلحق به وبخاصة من خلال الفشل المريع الذي طاول مشروعاً كان تعاقد عليه مع ثريين من الأورغواي يتضمن إصدار مجلتين ثقافيتين لكن المشروع فشل وإن كان مكنه من القيام بجولة بين مدن في القارة الجنوبية استغل فترات الراحة فيها كي يكتب سيرته الذاتية تحت عنوان "حكاية كتبي". صحيح أن تلك السيرة صدرت بالفعل ولكن داريو لم يستسغها كثيراً ومن هنا قرر انتظار فرصة ملائمة تمكنه من كتابتها من جديد "وربما بشكل مختلف كلياً" كما راح يقول لمقربين منه. والحقيقة أن تلك الفرصة لن تلبث أن تتاح له في عام 1913، حين ـ وبدعوة من صديق له هو الإسباني جوان سوريدا ـ سافر إلى جزيرة مايوركا الإسبانية حيث وجد مقراً يقيم فيه يقع في دير كاثيوسا ببلدة فالديموستا. وهناك سرعان ما تنبه إلى أن الموسيقي البولندي شوبان وعشيقته الكاتبة الفرنسية جورج صاند كان سبق لهما أن أقاما في المبنى نفسه وربما في الغرفة نفسها قبله بزمن. وهكذا راح يبني حبكة جديدة تدور أحداثها بين فصول منتزعة من حياته الخاصة وأخرى منتزعة من حياة سابقيه في الإقامة في المكان. ومن هنا ولد هذا النص الذي قد يقرأه بعضهم كرواية تاريخية وبعضهم الآخر كتنويع على سيرة مؤلفه الذاتية.

أغنية البجعة الأخيرة

لكنه كان قبل هذا وذلك نوعاً من شهادة كاتب يفيق بين الحين والآخر من وهن جسماني وآخر عقلي استبدا به، شهادة يريد من خلالها أن يوصل رسالة إلى العالم، هي بالتحديد تلك التي كان يشعر أنه لم يتمكن من إيصالها في "حكاية كتبي" مكتفياً بالتعبير عنها شعراً في القسم الأكبر من مجموعاته الشعرية، أما هنا فها هي ترسل في مزيج من الهلوسة والرؤيا والتماهي مع شخصيات الماضي، ناهيك بإمكان اعتبارها نوعاً من أدب رحلات تفخر به مايوركا نفسها وتطبعه وتعيد طباعته ترويجاً لما سمته لمناسبتها "السياحة الثقافية".

ومهما يكن من أمر فإن تلك الفترة التي أنجز داريو فيها كتابة هذا النص، كانت الفترة التي بدأت فيها صحته تتدهور بفعل ضروب الإفراط التي كان يعيشها، فهو الآن تحول إلى حياة بوهيمية لا تستقر وصار يكثر السفر والشرب وحكايات الغرام، على رغم زواجه مرتين. وكان يبدو عليه خلال أعوامه الأخيرة كأنه يعيش نوعاً من الانتحار البطيء. وفي عام 1914 خلال زيارة قام بها إلى نيويورك أصيب بالرئة ذاتها، وهو الداء الذي لم يداوه فقضى عليه بعد عامين، حين عاد إلى نيكاراغوا، مسقط رأسه، وقرر هذه المرة أن يستقر وأن يخفف من إفراطه في كل شيء، وبخاصة في العام الأخير من حياته، إذ أنجز هذه المرة كتابه الذي سينال شهرة كبيرة منذ رحيله، "سيرة حياة روبن داريو بقلمه". وهو قضى بعد أسابيع قليلة من صدور كتابه، في أحضان رفيقة أيامه الأخيرة فرانشيسكا سانشيز، وكانت فلاحة شابة تعرف عليها في الريف الإسباني فأغرم بها، وقضى معها سنواته الأخيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة