Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التخصص الدراسي... الطالب آخر من يختار

بين أهل يرون أنهم الأقدر والأجدر بتحديد مستقبل أبنائهم وأبناء يؤمنون بأنهم الأحق باختيار مستقبلهم يتشكل في الأسرة صدام بين الطرفين قد يفضي إلى خسارة الحلم

اختيار التخصص الجامعي من المراحل الحساسة التي تحتاج إلى توجيه وإرشاد من الخبراء (غيتي)

ملخص

التخصصات الدراسية للطلاب منظومة اقتصادية واجتماعية ونفسية وثقافية، والاختيار فيها خليط من رغبات، وفي أقوال أخرى تدخلات أو توجيهات الأهل، إضافة إلى اختيارات الطلاب أنفسهم المتأرجحة بين تلابيب أحلام وتفاصيل الواقع

من يختار ماذا في تخصصات الأبناء العلمية الدراسية؟ هل هم الأبناء بكامل حريتهم؟ هل هم الأهل بحسب ارتباطهم بقواعد العادات وإملاءات التقاليد أو في ضوء ما يملكون من حسابات مصرفية أو يتركون الأمر لأصحاب الأمر؟ وهل الدرجات التي يحرزها الطلاب والطالبات هي ما تحدد مصائرهم وتتحكم في اختياراتهم؟ وهل الاعتماد على الدرجات عدل؟ وأين سوق العمل من سوء الاختيار أو حسنه؟

أسئلة كثيرة وإجابات من أرض الواقع، بعضها يناقض المنطق لكنه حقيقي، والبعض الآخر يعري العوامل التي تتحكم في اختيارات الطلاب لتخصصاتهم العلمية، ومعظمها مكانه المتحف أو قسم الأرشيف. لكن "اندبندنت عربية" تعرض ما وصلت إليه من حال وعوامل وواقع تحدد اختيار الطلاب والطالبات لتخصصاتهم والظروف التي تتحكم في هذا الاختيار في كل بلد بحسب واقعها وحلمها، سواء كان محل تفعيل أو قيد إجهاض، إذ إن قيوداً يفرضها المجتمع أصبحت أقرب ما تكون إلى الأسطورية وضرورات واقع هي في حقيقة الحال بعيدة من الواقع العربي، وأزمات اقتصادية طاحنة توحّد الأهل والأبناء في العصف باختيارات كليهما، وحروب وصراعات في دول أخرى تجعل الأمن والهروب يتحكمان في التخصص.

مصر... أسطورة "خمسة عين"

معظم هؤلاء لا يعرفون حلم الـ"خمسة عين"، وإن كانوا على علم به، فهو لا يمثل لهم إلا عصر التحلل الفكري والتدهور الذهني والتحلل المنطقي. الـ"خمسة عين"، تلك المنظومة التي أضنت أجيالاً وأنهكت كثيرين ونصبت واحتالت وسرقت حلم الملايين تقف اليوم أمام أجيال أصغر سناً تعلم علم اليقين أن ما يبدو لـ"ماما" باعتباره غاية المنى قد يكون وهماً، وما يتصوره "بابا" على أنه كل الأمل ربما كان كذلك، لكن قبل نصف قرن.

القرن الـ 21 هب على مصر محملاً بزعابيب الواقعية وأعاصير واقع الحال الذي يقول إن الـ"خمسة عين" وهم يرقى إلى مرتبة النصب والاحتيال. عربية (سيارة) وعيادة وعروس وعمارة وعزبة (مزرعة) أحلام تبددت في فضاء متطلبات سوق العمل الجديدة والمواقف المتغيرة من منظومة الزواج وأحلام الثراء المبتعدة عن اقتناء السيارات والعمارات والعزب أو المزارع.

زرع الأجداد مفهوم كليات القمة، إذ الطب والهندسة والعلوم السياسية والإعلام تضمن عملاً باهراً ومستقبلاً رائعاً، فحصد الأحفاد هجرة جماعية للأطباء بحثاً عمن يوظفهم برواتب تمكنهم من البقاء على قيد الحياة بعيداً من "بدل عدوى" قيمته 19 جنيهاً مصرياً (62 سنتاً أميركياً)، ومهندسون منهم من تحوّل إلى تدريس الرياضيات في المدارس الخاصة أملاً في رواتب أفضل، وخريجو علوم سياسية يعملون في أرشيف كلية الزراعة أو سكرتارية للمدير في شركة مقاولات. أما خريجو الإعلام، فحدث ولا حرج، هائمون على وجوههم بين شركات علاقات عامة ومندوبي إعلانات وقائمة البؤس تطول.

"طيلة طفولتي وأنا أحلم بأن أكون ضابط شرطة وأهلي يدعمونني. حصلت على مجموع يؤهلني للالتحاق بها في الثانوية العامة، لكني رسبت في اختبار القدرات الرياضية. لذلك اختار لي مكتب التنسيق كلية الحقوق. أعرف كما يعرف الملايين غيري أنها كلية وخلاص. لكن في السنة الثالثة قررت أن ألتحق بمعهد كمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات حتى أجد عملاً حقيقياً. كلية الحقوق لن تضمن عملاً إلا لمن كان أبوه أو عمه أو خاله محامياً كبيراً، أو لمن يقبل أو يقوى على أن ينحت في صخر المحاماة، ثم يصبح أقرب ما يكون إلى ’صبي محامي‘ بعد أعوام". هذه كانت "اختيارات" محمد أحمد (23 سنة)، ويميزها الجمع بين الواقع والمأمول، واقع المتاح في عالم الاختيارات والمأمول في تحويل دفة المتاح إلى فرصة عمل حقيقية بناء على التخصص الدراسي.

التخصصات منظومة

التخصصات الدراسية للطلاب منظومة اقتصادية واجتماعية ونفسية وثقافية، والاختيار فيها خليط من رغبات، وفي أقوال أخرى تدخلات أو توجيهات الأهل، إضافة إلى اختيارات الطلاب أنفسهم والمتأرجحة في الأجيال الحالية بين تلابيب أحلام وتفاصيل الواقع.

الواقع يشير إلى حالات يرضخ فيها الابن أو الابنة لرغبة الأهل المحمومة للالتحاق بكلية بعينها، لا سيما إن حصل الطالب على درجات تؤهله للكلية التي عادة تكون ضمن منظومة كليات القمة الكلاسيكية، وأبرزها الطب بفروعه والهندسة.

الأب طبيب مشهور، وغير مقبول اجتماعياً ونفسياً وثقافياً واقتصادياً ومنطقياً بالنسبة إليه، أن تلتحق ابنته بتخصص آخر وتترك العيادة الفاخرة وأسهم المستشفى المربحة واسم الأب البازغ لتتبدد في هواء إدارة الأعمال أو أدخنة السياحة والفنادق أو وهم الفلسفة وعلم النفس.

الأم يقتلها حزن إصرار الابن على دراسة شيء تصفه بـ"العجيب والغريب" اسمه "العلوم الأكتوارية" ويترك كلية العلوم السياسية التي التحق بها ابن أختها وأصبح "سفيراً"، وفي قول أكثر دقة "سكرتير ثالث". كيف لابن الأخت أن يكون سفيراً وابنها "متكوراً" على حد لفظها. حتى النسبة المئوية التي أمدها بها الابن في ما يتعلق بمستقبل العمل لحاملي شهادات العلوم "الأكتوارية"، بحيث يتوقع لهذا المجال النمو 21 في المئة في 10 أعوام، وهي نسبة تفوق في سرعتها معظم مجالات العمل الأخرى، اعتبرتها الأم هي والعدم سواء.

 

ولو رضخ الابن والتحق بكلية العلوم السياسية لإسعاد الأم، أو توجهت الابنة إلى كلية الطب لإرضاء الأب، فإن المتوقع أحد سيناريوين، إما إنهاء الدراسة، ثم هجرها والتوجه إلى مجال عمل آخر، أو استكمال الطريق والعمل بالطب أو الدبلوماسية، وكلاهما لم يكن اختيارياً.

اختيار التخصص الدراسي له أصول وقواعد تختلف بحسب الأفراد، وكذلك تبعاً للثقافات والأعراف والعادات. الاختيارات الفردية في مصر لا تختلف كثيراً عنها في بقية دول العالم. يعرب الصغير عن حلمه بأن يكون ضابطاً يتعقب "الحرامية"، أو طبيباً يعالج المرضى، أو ميكانيكي يصلح السيارات المتعطلة. يكبر الصغير وتتطور اختياراته بتطوره المعرفي والنفسي والاجتماعي، وربما تتلون بألوان المجتمع والثقافة ورغبات ماما وبابا، وقد يجد نفسه كذلك واقعاً تحت تأثير مخدر الحلم فيبقى أسيره، إلى أن يجد نفسه حاملاً بكالوريوس آداب قسم تاريخ أو فرد أمن في مدخل عمارة أو سائق "أوبر" بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية في وزارة الصناعة.

صناعة الاختيار الدراسي والعلمي في مصر تعاني كثيراً. نسبة كبيرة من الأهل تهيمن عليهم أحلام الـ"خمسة عين" وتسيطر عليهم هواجس المكانة في المجتمع والقيمة في المجتمع وعقد المقارنات في محيط الأهل والجيران. ونسبة كبيرة من الأبناء والبنات، أي الطلاب والطالبات وهم أصحاب الشأن تتجاذبهم رغبات وأحلام فردية ورؤى مستقبلية تعي أن الرغبة لا تعني الوفرة وأن ما يبتغيه الأهل ليس هو بالضرورة ما تبتغيه سوق العمل، وواقع متغير ومتحول يسير بالعالم المتقدم نحو ذكاء اصطناعي له يد شبه عليا في تحديد مصير سوق العمل، ويدفع العالم غير المتقدم في اتجاه سوق عمل لا علاقة له بالتخصص الدراسي سواء كان اختيار الأهل أو رغبة صاحبه أو قرار مكتب التنسيق أو قدرة جيب بابا وما تملكه ماما.

العاملان الأخيران لهما يد عليا في مسألة الاختيار. قرار مكتب التنسيق الذي يحدد مَنْ من الطلاب يلتحق بأي من الكليات الدراسية بحسب درجات التحصيل وربما اختبارات قدرات، وكذلك القدرات المادية للأهل وهي الوحيدة القادرة على دحض جموع وجنوح مكتب التنسيق، إذ توفر للطالب فرصة دراسة الطب في جامعة خاصة بعد ما طرح المجموع المتدني أحلامه أرضاً في الكليات الرسمية. أما اليد العليا الأخرى، فيشترك فيها الطالب والأهل كل بحسب قوته في الإقناع وقدرته على التأثير، وربما الابتزاز العاطفي على سبيل الضغط. إنه مفترق طرق الاختيار.

الأردن... معضلة الصف العاشر

مفترق طرق شبيه يقع فيه سنوياً طلاب الصف العاشر في الأردن عندما يصبحون أمام خيار تحديد مسارهم الأكاديمي في الثانوية العامة ومستقبلهم التعليمي الجامعي، وتنازعهم ثلاثية المكانة الاجتماعية ورغبة الأهل والقدرات التعليمية والمالية.

ومع إعلان نتائج القبول الجامعي يتضح حجم التخبط وعدم الانسجام أو الرضا، ومدى غياب التوافق بين ما هو مرغوب ومتاح، لتبدأ رحلة جامعية لأربعة أو خمسة أعوام من المعاناة الأكاديمية التي تنتج في نهاية المطاف موظفين لا متخصصين.

ثمة أدوار مختلفة تتحكم في اختيار الأبناء لتخصصاتهم المستقبلية، إذ يعتبر الأهل من أهم الجهات المؤثرة في التخصص العلمي للأبناء، ومعظم الآباء والأمهات في الأردن يتطلعون لتعليم أبنائهم تخصصات علمية كالطب والهندسة والصيدلة، استناداً إلى نظرة اجتماعية تتعلق بالمكانة المستقبلية، أو فرص العمل المتاحة وأكثرها جنياً للمال والدخل المرتفع.

يقول متخصصون إن الأصل هو أن يلعب الأبناء الدور الأكبر في الاختيار تحقيقاً لرغباتهم وميولهم أو طموحهم المستقبلي والمهني، وتشجيع الأهل للأبناء وتوجيههم إلى استكشاف مختلف المجالات وتقديم المشورة المناسبة.

 

لكن في المقابل تؤدي نتائج الثانوية العامة في الغالب الدور الأبرز في تحديد التخصصات المتاحة بسبب النظام التعليمي المعتمد، وسياسة القبول الجامعي التي تفرز الطلاب وفق نتائجهم وليس وفق ميولهم، في حين تحتل القدرات المالية لأهالي الطلاب دوراً وعاملاً مهماً يؤثر في اختيار التخصص العلمي، إذ إن رسوم بعض التخصصات تصل إلى مبالغ فلكية، نظراً إلى أن التعليم الجامعي غير مجاني في الأردن خلافاً لدول عربية أخرى.

واعتباراً من العام الدراسي 2025 - 2024 فإن امتحان الثانوية العامة في الأردن سيعقد على مدى سنتين، وفق منظومة جديدة قد تتيح خيارات أفضل للطلاب لاختيار تخصصاتهم الجامعية المستقبلية.

يقول وزير التربية والتعليم الأردني عزمي محافظة إن مخرجات المنظومة تتضمن تشعيب الطلاب إلى مسارين أكاديمي ومهني بعد الانتهاء من دراسة الصف التاسع الأساسي ومباحث يختارها الطالب بحسب ميوله الأقرب إلى التخصص الذي سيدرسه في الجامعة. وتحدث محافظة عن امتحان محوسب بدلاً من الثانوية العامة، مشيراً إلى أن هناك إقبالاً كبيراً على التعليم المهني في البلاد.

ويسيطر القلق على أهالي الطلاب في الأردن حيال مصير امتحان الثانوية العامة بعد إعلان وزارتي التربية والتعليم العالي نظاماً جديداً للقبول الجامعي. فوفق التعليمات الجديدة، لم يعد امتحان "التوجيهي" المعيار الوحيد لقبول الطلاب في الجامعات، إذ تراجعت حصته كأساس للقبول إلى 60 في المئة، بينما جرى اعتماد امتحان قبول جامعي بـ40 في المئة.

قلق وتوتر الثانوية

ولطالما شكلت امتحانات الثانوية العامة في الأردن مصدر قلق وتوتر سنوي للأهالي والطلاب لأنها مرحلة مفصلية في حياة الشباب، لكن على رغم ذلك لا تزال تحظى بثقة معظم الأردنيين كمعيار وحيد وأكثر عدالة لنتائج القبول في الجامعات.

يقوم هذا النظام على فكرة أن يكون القبول على أساس الكلية أو حقل التخصص بحيث تكون السنة الأولى مشتركة، والهدف أن تكون سياسات وفرص القبول عادلة ومنصفة للجميع.

بينما يشرح مدير وحدة القبول في وزارة التعليم العالي مهند الخطيب إيجابيات النظام الجديد بقوله إنه يأخذ في الاعتبار القدرات الموجودة لدى الطالب، وتدارك سلبيات امتحان الثانوية العامة، مشيراً إلى أن تطبيق النظام الجديد سيكون مرحلياً.

وترى المتخصصة التربوية في الأردن شهد عدنان أن مشكلة اختيار التخصص الجامعي في المملكة تواجه كثيراً من الطلاب الناجحين في الثانوية العامة، وتتأثر بعوامل عدة مثل آراء الأهل والأصدقاء ومتطلبات سوق العمل والميول والاهتمامات الشخصية.

وتضيف، "لذلك، يجب على الطالب أن يتخذ قراره بحكمة ووعي وأن يستفيد من المصادر المتاحة لمساعدته في هذه العملية كالتعرف بدقة إلى جميع التخصصات الموجودة والمواد التي تدرس في كل تخصص منها ومجالات عمل الخريجين، ووضع الأولويات والأهداف والقدرات والطموح في الاعتبار من دون التأثر بالضغوط الخارجية أو التقليد الأعمى".

تخمة التخصصات

يظل أحد أبرز التحديات التي يواجهها الطلاب الأردنيون قبل الدخول إلى المرحلة الجامعية الإقبال على التخصصات العلمية وارتفاع البطالة في صفوف خريجيها. على سبيل المثال تعد نسبة المهندسين في الأردن "الأعلى عالمياً" مقارنة بعدد السكان. وأدى الازدياد المتتالي في أعداد الخريجين الدارسين للتخصصات الهندسية إلى تراكم الأعداد بشكل لافت يصل لدرجة التخمة، وبلغت النسبة مهندساً واحداً لكل 50 مواطناً، ويسجل عدد المهندسين في الأردن حالياً نحو 170 ألف مهندس ومهندسة.

ومع وجود 200 ألف طالب وطالبة ثانوية عامة، تعود المشكلة التقليدية للواجهة مجدداً على رغم إجراءات مجلس التعليم العالي لخفض أعداد الخريجين في التخصصات المشبعة والراكدة واستحداث تخصصات جديدة مطلوبة لسوق العمل، في وقت تضم الجامعات الرسمية 554 تخصصاً.

ووفق دائرة الإحصاءات العامة الحكومية، بلغت موازنة التعليم في الأردن للعام الحالي 1.363 مليار دينار (1.9 مليار دولار)، وعدد المدارس في مختلف أنحاء البلاد 7315 من بينها 4005 مدارس حكومية و3093 خاصة، وكل من خريجيها يحمل حلماً بتخصص علمي ما بين يديه.

السعودية... فرص "رؤية 2030"

وفي السعودية الأمر لا يختلف كثيراً عن بقية البلدان العربية، إذ نجد بعض الطلاب يصبحون ضحية اختيار غير مناسب لميولهم. يقول فيصل، أحد خريجي تخصص علم النفس، "بحكم تخصص والدي في مجال الطب، أرغمنا أنا وبقية أخوتي على نفس مجاله، لكن بعد مرور سنة لم أجد نفسي فيه فقدمت طلب تحويل إلى تخصص آخر كنت أطمح به منذ صغري. لافتاً إلى أن "مفهوم الأهل المتعلق بالتخصص العلمي وتهميش التخصص الأدبي أحد أسباب فشل الشباب في عدم إكمال دراستهم".

الحال مع فيصل يتشابه إلى حد كبير مع ما جرى لبسمة خالد، التي وقعت ضحية حيرتها، إذ اختارت تخصصاً تجهل مستقبله بحد تعبيرها، وبعد بحثها وتعمّقها قررت التحويل. مؤكدة أن تجاهل توعية طلاب الثانوية أحد الأسباب لذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جانبه يرى المتخصص في تطوير الأداء وصناعة الأهداف، محمد بانقيطه، أن هناك عوامل وضغوطاً عدة تؤثر في قرار الطالب، منها ما هو داخلي وخارجي. موضحاً "خارجياً الأهل والمجتمع والأقارب ونسبة الثانوية العامة، أما داخلياً فهو أن يجهل الطالب ماذا يريد؟ ومقارنة نفسه بالآخرين، والأهل (الأب والأم) عادة ما يحاولون توجيه الابن إلى تخصصات معينة تكون في نظرهم هي أفضل التخصصات، مثل الطب أو الهندسة، ويقاس عليها كذلك المجتمع والأقارب".

أما عن نسبة الثانوية العامة فيؤكد بانقطه أن لها قوة تأثير في القبول الجامعي بالسعودية "من دون شك يكون لها دور في القبول أو عدم القبول في تخصصات وكليات معينة، لكننا نتحدث هنا في الجانب الآخر لو فرضنا طالب حقق نسبة 98 في المئة ودرجاته في التحصيل والقدرات مرتفعة، وأراد التخصص أدبي أو تربوي سيواجه ضغوطاً كبيرة من المجتمع بسبب نسبته العالية، ويفاجأ بأنه أصبح مضطراً أن يختار تخصصات علمية".

وفي السنوات الأخيرة وبعد إعلان رؤية السعودية 2030 توجهت أنظار طلاب الثانوية إلى المجالات التي تتوافق مع فرص عمل الرؤية، وأبرزها الأمن السيبراني والسياحة والآثار وغيرها. يقول بانقيطة "هذه الرؤية أثرت في اختيارات الطلاب تأثيراً إيجابياً، إذ فتحت آفاقاً وتخصصات جديدة وحديثة، ويحتاج الطالب هنا أن لا يحول هذا التأثير إلى تأثير عكسي، بالتالي يختار تخصصاً بسبب الضغوط التي ذكرناها مسبقاً".

الجزائر... تطابق أحلام الطلاب والأهل

أحلام طلاب الجزائر وذويهم متطابقة. يُعلق الأهل آمالاً كبيرة على مستقبل أبنائهم الدراسي، وكلما كبر الابن كبرت معه أحلام الوالدين باختيار تخصص علمي رفيع المستوى. لكن هذه الأحلام لا تتقاطع بالضرورة مع رغبة الابن الذي يفضل تخصصات تتناسب مع ميوله وقدراته ولا تراعي رغبة الأهل.

بين أهل يرون أنهم الأقدر والأجدر بتحديد مستقبل أبنائهم وأبناء يؤمنون بأنهم الأحق باختيار مستقبلهم، يتشكل في الأسرة صدام بين الطرفين يفضي ربما إلى خسارة الحلم.

خسارة الحلم تبدأ بفاتورة التنشئة الاجتماعية، وعادة يدفع الأبناء في الجزائر ضريبة التنشئة الاجتماعية التي تلقوها في الصغر، فحال الاتكالية على الأولياء في تدبير شؤون حياتهم تمنح هامش حرية للأولياء للتدخل في اختيار التخصص الجامعي.

بحسرة كبيرة يتحدث رضا (36 سنة) عن تأثير والده في مساره الدراسي الذي كان ناجحاً، ويقول، "عندما حصلت على شهادة البكالوريا عام 2007 في شعبة الآداب والعلوم الإنسانية، أجبرني الوالد على اختيار تخصص لغة عربية، لكن في النهاية توقفت عن الدراسة واخترت وجهة أخرى".

توقف رضا عن الدراسة لكنه لم يتوقف عن الحلم بأن يصبح إماماً، إذ واصل دراسته في زاوية قرآنية حيث حفظ القرآن وتخرج فيها، ليوظّف إمام مسجد.

قد لا تبدو حال رضا فريدة في مجتمع يمنح الأسرة سلطة كاملة لتحديد مستقبل الأبناء الدراسي. تدفع الأسر ميسورة الحال أبناءها إلى تخصصات جامعية معينة، مثل عائلة عبدالقادر (31 سنة) الذي درس في مدرسة خاصة في العاصمة، تمهيداً للحصول على شهادة جامعية في تخصص إدارة الأعمال لتسيير شركة والده الخاصة.

أفسح تدخل الأولياء المفرط في اختيارات الأبناء الدراسية المجال أمام ظاهرة الرسوب في الجامعة. كما أنا يؤثر بشكل مباشر في سوق العمل في الجزائر، حيث يجد كثير من الشباب أنفسهم يعملون في وظائف لا يحبونها، مما يقلل من إنتاجيتهم ويؤدي بهم إلى العزوف عن العمل.

وتكشف دراسة أكاديمية عن مدى أهمية الشراكة بين الأولياء ومستشاري التوجيه المدرسي والمهني لتوجيه الاختيار الدراسي للتلاميذ والتعرف إلى مدى اختلاف تأثير الأولياء في اختيارات أبنائهم الدراسية باختلاف مستواهم التعليمي والاقتصادي.

وأجريت الدراسة الميدانية في ثانويتين في مدينة وهران (غرب الجزائر) على عينة من طلاب الصف الأول الثانوي وعينة ثانية من مستشاري التوجيه المدرسي والمهني. وخلصت إلى أن نجاح العملية التوجيهية لاختيارات الطلاب الدراسية تشترط الشراكة الفاعلة بين الأهل ومستشاري التوجيه والطلاب.

 

يخضع التوجيه المدرسي للطلاب في الجزائر لمقاييس أكاديمية عدة، ويحاول المشرع الجزائري "فرملة" أو ترشيد التدخل المفرط للأهل في اختيارات الأبناء. ويؤكد مستشار التوجيه والإرشاد المدرسي والمهني ياسين خليلي أن توجيه الطلاب في الجزائر يخضع لأربعة مقاييس الأول هو رغبة الطالب في التخصص الذي يريده سواء كان أدبياً أو علمياً؟، والثاني نتائج التلميذ في المواد الأدبية والعلمية، فإذا أحرز درجات جيدة في المواد العلمية يوجه إلى شعبة العلوم، والعكس صحيح في شعبة الآداب.

والمقياس الثالث هو آراء واقتراحات المعلم الذي يكون على دراية تامة بإمكانات الطالب، وعلى هذا الأساس يقترح الأستاذ توجه الطالب، والمقياس الرابع هو مقترح مستشار التوجيه الذي يخضع اختياره للمعايير الثلاثة السابقة".

ويضيف أن رغبة الطالب عادة يحكمها عاملان هما الإمكانات والمشروع الشخصي المستقبلي له.

وعلى رغم وجود ضوابط منهجية لتوجيه الطلاب نحو اختيارات صائبة، فإن كثيراً من العوامل يقف حائلاً دون تطبيقها، منها تدخل الأهل وعدم الأخذ بنصائح مستشار التوجيه، وكذلك عدم وعي الطلاب بنتائج اختيار شعبة لا تتوافق مع إمكاناتهم التعليمية.

يقول خليلي إن "هناك من الأهل من يتحكمون في اختيار الأبناء، ولا يعيرون اهتماماً للنصائح التي يقدمها مستشار التوجيه. وهناك طلاب لا يعرفون أي توجه يختارون فيضطرون إلى تقليد زملائهم أو إخوتهم بسبب غياب الوعي الكافي بنتائج اختيار الشعبة التي تتوافق مع إمكاناتهم التعليمية".

في المقابل، وبحسب خليلي، هناك توجه حكومي عام نحو تشجيع الطلاب على اختيار شعبة العلوم لأنها تفتح آفاقاً للتوظيف أكثر من الشعب الأخرى"، مشيراً إلى وجود تخصصات جامعية عدة متاحة لمن يدرسون في شعبة العلوم، على عكس شعبة الآداب التي تبقى فرصها محدودة. ويبقى تدخل الأهل المفرط المعضلة الرئيسة.

قرار مصيري

وفي الكويت ومع نهاية كل سنة دراسية، يقف طلاب وطالبات المرحلة الثانوية على مفترق طرق في اختيار التخصص التعليمي المناسب سواء التعليم الجامعي أو التقني والمرتبط بمستوى تحصليهم الدراسي. وعلى رغم أهمية الاختيار، فإن بعضهم يظل متردداً للأيام الأخيرة، أو ينتظر القرار من والديه أو أصدقائه من دون إدراك واضح بميوله ورغباته الشخصية.

وحول دور الأهل في اختيار التخصص الجامعي للأبناء وتعزيز رغباتهم العلمية أو تغيير ميولهم، تقول عميدة القبول والتسجيل في جامعة الكويت رواء الجار الله لـ "اندبندنت عربية"، "هناك عوامل عدة تؤثر في اختيار الطالب منها رغباته، إضافة إلى عوامل أخرى موجودة في المحيط المجتمعي منها الأهل والأصدقاء، فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن يتوظف الخريج في وظيفة لا يقبل أهله بها، أو لا تناسب أراء أصدقائه، فهذه العوامل مهمة. وأحياناً قد نرى الأهل يعترضون على اختيار الأبناء لدراسات معينة يريدونها مثل الموسيقى، فيكون صعباً عليهم الالتحاق بهذا التخصص مراعاة للبيئة الاجتماعية المحيطة بهم".

وأضافت "وفي حال تحقيق الطالب معدلاً عالياً، وكانت رغبته هي دراسة الفلسفة أو التاريخ، ففي الغالب سيغير رأيه ويتجه  لدراسة الطب والصيدلة  أو القانون لأن المجتمع يفرض ’البريستيج‘ والراتب والأمور المرتبطة بالاختيارات المصيرية للتخصص الجامعي للخريج، فتبقى قناعته مرتبطة بالمجتمع ومتطلبات المستقبل".

 

وتستكمل جار الله قائلة "عملت على موضوع اختبارات القبول لأربعة أعوام مضت، إلا أن نتائج اختبار القدرات كانت غير  مرضية، سواء لطلبة التعليم العام أو الخاص"، وأضافت، كانت نتائج المواد الصعبة مثل الرياضيات واللغة الإنجليزية لطلبة المدارس العامة أو الخاصة غير مرضية ولم ترقَ إلى الطموح، أما نتائج مواد مثل اللغة العربية فهي مرضية وتتوافق مع التوقعات. وبخصوص الكلفة المالية، أوضحت أن المبالغ المالية التي يدفعها الطلبة لاختبارات القدرات تعتبر رمزية ولا تقارن باختبارات اللغة الإنجليزية العالمية مثل "التوفل والأيلتس".

وأشارت الجار الله إلى أن جامعة الكويت فتحت باب القبول للوافدين بحسب الشواغر في كلياتها، وإن كان بعضها بمقاعد محدودة، بخاصة التخصصات المطلوبة في سوق العمل، وعلى الطلبة ترتيب اختياراتهم بحسب المتوافر.

وختمت رواء الجار الله حديثها "رسالتي إلى أولياء الأمور، اختيار التخصص قرار مصيري للطالب وتلك مسؤوليته ودورنا كأولياء أمور يكون إرشادياً توعوياً، أي تقديم المعلومات له لتساعده على أخذ قراراته بشكل سليم، أو دعوته إلى مقابلة أشخاص في التخصص نفسه لتتضح له الأمور، لكن لا أفرض عليه التخصص الجامعي".

من جانبه قال الطالب مناور الجنفاوي الذي يدرس في جامعة الكويت -كلية الآداب "تخصص تاريخ " لـ"اندبندنت عربية"  "اخترت التخصص بسبب تفوقي وجهدي خلال دراستي للمادة في صفوف الثانوية العامة"، مردفاً "لم يتدخل الأهل في اختيار التخصص بل شجعوني على الدراسة والجد والاجتهاد، وتحقيق ما أريده من التخصص، وجاء الاختيار بسبب حبي للتاريخ وقراءتي الكتب التاريخية".

وختم الجنفاوي "أصبحت قادراً على التعامل في المجتمع بشكل عام بدخولي إلى الجامعة وعلى رسم حياتي وأهدافي المستقبلية فليس هناك أي شيء مستحيل، فأنت أيها الطالب الذي تصنع المستحيل".

السودان... سلاح ذو حدين

تتكرر المعضلة ذاتها في السودان، حيث إن تدخل الأهل في تخصصات الأبناء الدراسية العلمية سلاح ذو حدين قد يؤدي إلى النجاح وربما إلى الفشل.

الأهل يعتقدون بأنهم الأكثر خبرة، وبالتالي الأجدر برسم طريق الأبناء، لا سيما في ما يتعلق بالتخصص الدراسي. لكن التجربة تشير إلى عكس ذلك، تحديداً حين يجد الأبناء أنفسهم أمام مستقبل مناقض لما يحبون بسبب تدخل الأهل.

هذا التدخل في تحديد الرغبات العلمية للأبناء قد يكون مقبولاً إن سبقه تحاور وتشاور بين الأهل والأبناء.

مؤيد علي، طالب في جامعة الرباط كلية الصيدلة، يقول إن دراسة الطب لم تكن رغبته، إنما رغبة والدته التي ترى حتمية وجود طبيب بين الأبناء، مما دفعه إلى الرضوخ لرغبتها.

ويضيف، "خضعت لرغبة الأهل يقيناً بأنهم أدرى بمستقبلي العلمي على رغم أن رغبتي الأولى كانت الالتحاق بكلية الإعلام والتخصص في مجال الإخراج وهو ما لم يتحقق".

 

ويشير علي إلى أن القدرة المالية لأسرته لعبت دوراً كبيراً في تحديد مصيره العلمي وليس النسبة التي حصلت عليها في اختبارات نهاية الدراسة الثانوية، فقد حصل على 73 في المئة فقط، وساعدت قدرة الأسرة المالية على التحاقه بكلية الطب، مؤكداً أنه أحب الدراسة على رغم تخوفه من الفشل في البداية. ويقول "على رغم حبي للدراسة، لكن لو أتيحت لي فرصة الالتحاق بالإعلام فسأفعل".

أما رؤى محمد علي، فالتحقت بكلية الحقوق في جامعة القاهرة لتحذو حذو والدها من دون تدخل من الأهل.

ويقول أستاذ الهندسة في جامعة السودان مدثر فقيري إن تخصصات علمية بعينها، لا سيما الطب والهندسة حلم يراود الأسر لشعور عام بأنهما تخصصان راقيان. وعادة لا ينظر الأهل إلى رغبة الأبناء من عدمها في دراسة، مثل هذه التخصصات، مما يؤثر سلباً في نجاحهم في المستقبل. ويرى أن الأهل بذلك يرضون أكثر ما يرضون الابن أو الابنة، معتبراً أن هناك صلة بين الأخطاء الطبية التي تكررت في الآونة الأخيرة والتي أدت إلى وفيات عدة، وكذلك الأخطاء الهندسية في بناء الطرق والجسور وبين الإجبار على دراسة تخصصات لا يهواها الأبناء.

وينصح فقيري الأهل بالاكتفاء بتقديم النصح وليس التدخل في اختيار التخصصات العلمية للأبناء، مضيفاً أنه على رغم الأوضاع التي يمر بها السودان إلا أن المقدرة المالية للأسر ما زالت تحدد التخصصات الدراسية.

 يشار إلى أن عدداً من الجامعات الخاصة كانت فتحت أبوابها لدراسة الطب والهندسة قبل الحرب في العاصمة الخرطوم ومع استمرار الحرب نقلت نشاطها إلى دول أخرى.

رغبتي هي الأساس

دول أخرى تنتهج قواعد مختلفة تساعد الطالب على اختيار مجال دراسته، فعلى مدى عقود طويلة، اتبع العراق تطبيق نظام فرعي "العلمي والأدبي" للمرحلة الإعدادية، فالتخصص العلمي يساعد الطلاب على اختيار الكليات والمعاهد بتخصصاتها العلمية وبعض الأقسام في الكليات ذات التخصص الاجتماعي، في حين يضمن الطلبة المتخرجون في الفرع الأدبي الكليات بتخصصاتها الاجتماعية كالآداب واللغات والقانون.

ومع سعي وزارة التربية إلى تحقيق التنوع في الفرع العلمي جاء قرار الوزارة بتقسيم الفرع العلمي إلى قسم تطبيقي وإحيائي، إلا أن التجربة لم تستمر بعد ما شابتها سلبيات كثيرة، وتسببت في خلق أزمة كبيرة في الدرجات التي حصل عليها الطلاب الذين أنهوا الدراسة الإعدادية.

كما أن وزارة التعليم العالي لم تكن مهيأة لهذا التنوع في الاختصاصات، مما دفع وزارة التربية إلى إلغائه والعودة للنظام القديم بقسميه العلمي والأدبي.

أرض الواقع تقول إن التخصص العلمي يتيح مساحة اختيار أكبر للطالب، إذ يمكنه من الالتحاق بالتخصصات العلمية والأدبية في الدراسة الجامعية، عكس الأدبي الذي لا يتيح إلا الكليات الأدبية.

توضح التربوية آلاء حسن نعيم الشمري أن تنوع الاختصاصات العلمية، لا سيما مع اتساع الكليات الأهلية جعل الطلاب يتجهون إلى القسم العلمي الذي يضمن لهم مساحة أوسع للخيارات.

وتقول الطالبة شهد حامد إن السبب الذي دفعها إلى اختيار القسم العلمي هو تنوع الاختيارات مقارنة بالأدبي.

أما الطالبة مريم أحمد التي تستعد لإكمال دراستها الإعدادية، فتذكر أنها ترغب في الالتحاق بإحدى الكليات العلمية وأن هذا ما دفعها إلى اختيار التخصص العلمي، مؤكدة أن "رغبتي هي الأساس في الاختيار".

 

معظم الطلاب على قناعة بأن رغباتهم وقدراتهم العلمية هي الفيصل لتحديد الاختيار بين القسمين العلمي والأدبي، وترى غالبية طلاب القسم العلمي أن القسم الأدبي يتطلب قدرات على الحفظ. وتقول الطالبة شهد حامد إنه على رغم أن مواد علمية مثل الفيزياء والأحياء تتطلب أيضاً قدراً من الحفظ، إلا أن مواد التاريخ والجغرافيا تستوجب حفظاً أكثر لا يناسب من يفضلون التوجهات العلمية.

في بعض الأحيان، يختار الأبناء التخصص الذي وجدوا عليه ذويهم، وأحياناً يجدون تناقضاً بين ميولهم وتخصص الأهل. تقول الأستاذة في كلية التربية الرياضية وفاء صباح محمد،  "لم أجبر أولادي على اختيار تخصصي، هم لا يرغبون في التخصصات الاجتماعية. وأنا أشجعهم على اختيار القسم العلمي".

لا توجد ضوابط ولوائح معينة لتحديد شروط قبول الطلاب للقسم العلمي أو الأدبي، فلا تأخذ المدارس في الاعتبار الدرجات التي حصل عليها الطالب خلال المرحلة المتوسطة، بل يترك الموضوع لتوجهات الطالب واختياره.

وهناك من يرى أن السبب الذي يدفع الأهل إلى توجيه أبنائهم للتخصص العلمي هو المكانة الاجتماعية، فتقول دينا هاتف، "مجتمعنا يعنيه الشكل الاجتماعي إلى حد كبير. والأفضل بحسب وجهة نظر الأهل هو التخصص العلمي الذي يضمن فرصة الحصول على كليات مثل كليات الطب والصيدلية".

ويلعب الجانب المادي دوراً أساسياً في اتجاه الطلاب إلى القسم العلمي، فهو التخصص الذي يتطلب قدراً كبيراً من الدروس الخصوصية، وتوضح التربوية آلاء حسن نعيم الشمري أن معظم العائلات الميسورة مادياً تدفع الأبناء إلى التخصص العلمي حتى لو لم يحصلوا على معدل يتيح لهم دخول الكليات الطبية. وكثيرون يلتحقون بالدراسة خارج العراق لمدة عام واحد، ثم يتم تحويل أوراقهم إلى داخل البلاد، وهو أمر سهل لكن يتطلب قدرات مادية كبيرة.

دواعي اختيار التخصص

القدرات المادية للأهل تؤثر في تخصصات الأبناء في المغرب أيضاً، فنظراً إلى محدودية الدخل المادي للأسر، إضافة إلى الرغبة في ضمان مستقبل أفضل للأبناء، يسعى الأهل جاهدين إلى دفع أولادهم لاختيار تخصصات يعتبرونها ذات مستقبل جيد توفر لهم مكانة علمية ومادية جيدة. كما ينظر الأهل أحياناً إلى الدراسة العلمية المتميزة للأبناء على أنها عوامل تغيير وتحسين الوضع المادي للأسرة. وهنا كثيراً ما تقف رغبة الأهل في أن تكون دراسة الأبناء الطريق إلى رفعة الأسرة مادياً أمام طموح الأبناء في اختيار تخصصات ربما لا تحقق ذلك.

يلخص عبدالرزاق السوداني، مدير مدرسة متقاعد، العوامل التي تتحكم في التوجه الدراسي للطلاب وهي عقلية المجتمع التي تفضل التوجه العلمي على حساب الأدبي، والدرجات التي يحرزها الطالب وقدرة الأهل المادية ومدى فاعلية عملية التوجيه.

يقول، "اختيار التخصص تتحكم فيه بالأساس نظرة الأهل والمجتمع إلى التخصصات العلمية والأدبية. الغالبية ترجح التخصص العلمي على الأدبي على اعتبار أن الأخير ليس له مستقبل يذكر. ومعظم أهالي الطلاب يحرصون على أن يكون للأبناء توجه دراسي علمي يضمن مستقبلاً مهنياً جيداً كما يعتقدون ويأملون، بالتالي فإن الأبناء قد يفرض عليهم تخصص معين، إضافة إلى دور النتائج الدراسية التي تتحكم في توجهاتهم الأكاديمية التي قد لا تكون في مصلحة التلميذ باعتبار أن النتائج تتحكم بشكل مباشر في التخصصات المتاحة للطالب".

ويردف أن القدرة المالية للأسرة تتحكم في مصائر الطلاب، ولذلك يدخر كثير من الأهل ليتمكنوا من تحمل كلف التخصصات المرغوب فيها والمكلفة مثل الطب والصيدلة والهندسة.

ويشير السوداني إلى أن هناك نقصاً في الموارد البشرية المتخصصة في مساعدة الطلاب لاختيار التخصص العلمي، إضافة إلى أن شرح الموجهين للاختيارات الدراسية المستقبلية للطلاب كثيراً ما ينقصه الوضوح ويصعب على التلامذة استيعابه.

الرأسمال الثقافي

من ناحيته يوضح الباحث في علم الاجتماع محمد قنفودي، "اختيار التوجهات التخصصية للطلاب تتداخل فيه عوامل عدة وجميعها على القدر نفسه من الأهمية. فهناك الاختيار المبكر لنوعية التعليم المبكر الذي يختاره الأهل وعادة تتحكم قدرة الأهل المادية في هذا الاختيار"، ويضيف أن اختيار المدرسة أمر بالغ الأهمية وأن المدرسة العمومية تفقد شيئاً فشيئاً الثقة بقدرتها على جودة التكوين والتعليم وتمكين الطلاب من المهارات المعرفية واللغوية اللازمة، لكنها الخيار الأفضل للأسر التي تفتقد الموارد المالية الكافية. ثم يأتي الاختيار الثاني وهو التوجه نحو المدارس الخاصة أو مدارس البعثات الأجنبية التي تحظى حالياً بثقة كبيرة لجهة نوعية التعليم الذي تقدمه.

ويخلص الباحث إلى أن التنشئة التعليمية للأبناء وتدخل الأهل وطبيعة التكوين، وكذلك الرأسمال المعرفي والمهاراتي عوامل تتحكم في اختيار التخصص، سواء في المرحلة الثانوية أو ما بعدها.

وترفض الأستاذة السابقة في إحدى البعثات الفرنسية بالدار البيضاء سناء الطنجي، وهي كذلك أم لثلاثة طلاب جامعيين، تدخل الأهل في اختيارات أبنائهم لتخصصاتهم الدراسية، قائلة "لا أتفق مع الأسر التي تحاول جاهدة فرض مسار علمي معين على أبنائها لأن من شأن ذلك أن يحبط المتعلم الذي يُرغم على تحقيق رغبات الغير من دون إعطائه الفرصة لتحقيق ذاته. وهذا يؤدي غالباً إلى العزوف عن التعلم والفشل الدراسي".

نظام ظاهره منصف

ومن المغرب وتدخل الأهل في اختيارات الأبناء الدراسية إلى تونس ونظام اختيار ظاهره عادل وباطنه غير منصف، إذ يستعد الناجحون في شهادة الباكالوريا هذا الصيف لمرحلة جديدة من مسيرتهم التعليمية بحسب الكليات الجامعية التي اختاروها أو التي فرضت عليهم عقب دورات التوجيه الجامعي التي وضعتها وزارة التعليم العالي بحسب استراتيجيتها.

يتم التوجيه الجامعي على أربع دورات أساسية، دورة مصغرة وسريعة عقب إصدار نتائج الدورة الرئيسة للبكالوريا تسمى "دورة المتفوقين" وهي تخص الناجحين المتحصلين على أعلى المعدلات في شعبهم وممن لديهم حظوظ عالية في الحصول على واحدة من 47 منحة توفرها الدولة للدراسة في الخارج في فرنسا وألمانيا. وتستأثر شعبة الرياضيات على 30 من بين 120 مقعداً في المعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنية، وهو اختصاص يعتبر "مرموقاً" نظراً إلى أن فرص عمله المستقبلية مرتفعة جداً مقارنة باختصاصات علمية أخرى. أما الدورة الثانية، فمفتوحة لبقية الناجحين في الدورة الرئيسة من الباكالوريا الذين يتنافسون على كل الشعب العلمية بلا استثناء بحسب الأولوية التي يمنحها المجموع العام الذي تحصلوا عليه. أما الدورة الثالثة، فهي للناجحين في الباكالوريا في دورة المراقبة الذين لا تتبقى أمامهم اختيارات كثيرة ملائمة لتوجهاتهم ورغباتهم، وعادة تعترض هؤلاء عقبات خلال مسيرتهم الجامعية، أو تكون الاختصاصات المتبقية ذات طاقة تشغيلية ضعيفة جداً. والدورة الرابعة تتيح إمكان إعادة التوجيه وتهمّ الطلاب الذين لديهم مشكلات صحية واجتماعية، أو من يريدون فرصة ثانية تسمح بها معدلاتهم.

هذا النظام يجعل الاختيار الجامعي مقيداً بنتائج الامتحانات في البكالوريا، فالمتفوقون لهم الأولوية في اختيار الاختصاصات المرموقة.

 

تقول سوار شابة تخرجت منذ أيام في الجامعة إن نتائجها المتواضعة في الباكالوريا جعلتها مجبرة على تخصص لا ترغب فيه ولا يعد بالكثير في سوق العمل، لذلك قررت التوقف عن الدراسة في السنة الأولى واحتسبت لها سنة بيضاء حتى تتمكن من إعادة التوجيه في اختصاص آخر تفضله وهو العلاج الطبيعي.

وعن دور والديها في اختيار التخصص، تقول "الدرجات هي التي تحدد مستقبلك، بخاصة إذا كان دخل العائلة محدوداً. أمي كانت ترغب في أن أتخصص في قطاع الصحة، أما والدي فترك لي حرية الاختيار".

وتحكي سناء تجربة ابنتها فرح التي حصلت على الباكالوريا العام الماضي، فتوضح "للأسف نتائج ابنتي لم تترك لها المجال لاختيار اختصاص علمي جيد يضمن لها عملاً مرموقاً، لذلك اضطررنا إلى تكبد مصاريف جامعة خاصة في اختصاص علمي ترغب فيه ابنتي ويضمن لها العمل في تونس أو خارجها".

وللاسترشاد، تصدر وزارة التعليم العالي دليلاً توجيهياً جامعياً سنوياً يحتوي كل الشعب المتاحة والمؤسسات الجامعية وعدد المقاعد وكذلك عدد النقاط الإجمالي الذي قُبل به آخر مترشح في كل شعبة.

طريقة غير عادلة

في هذا الصدد، يقول الأستاذ الجامعي وكاتب عام المنظمة التونسية للتربية والأسرة عامر الجريدي لـ"اندبندنت عربية"، "بالنسبة إلى طلبة التعليم العمومي، الاختصاص الدراسي في الجامعة تحدده الدولة بناء على معطيات تشمل نتائج الطالب في امتحان البكالوريا ورغباته. وبعض الطلاب من العائلات الميسورة تتاح لهم فرصة الدراسة في الخارج بمؤسسات جامعية لا تشترط درجات بعينها، أو في الجامعات الخاصة التي لا تشترط كذلك نتائج مبهرة".

ويصف الجريدي هذا النظام بـ"غير العادل"، وعلى رغم ذلك يضيف، "إن إرساء منظومة توجيه أكثر عدالة ووجاهة غير ممكن في الوضع حالياً بالنظر إلى الحال العامة للبلاد التي ما زالت تنتظر رؤية جديدة للتعليم. تبقى المنظومة الحالية، مثل الديمقراطية الأقل سوءاً".

ويسود شعور لدى بعضهم بأن نظام التوجيه الجامعي الحالي يبدو قائماً على الاستحقاق والمساواة في الفرص، لكن على أرض الواقع هو أبعد ما يكون من ذلك، لا سيما بالنظر إلى توزيع الجامعات في أنحاء البلاد. فمعظم الجامعات ذات الاختصاصات العلمية الجيدة تقع في المحافظات الساحلية الأكثر حظاً في التنمية، عكس المحافظات الداخلية التي لا تحظى غالبيتها إلا بجامعات ذات تخصصات غير مرغوب فيها، وهو ما يعصف بأحلام كثيرين.

سوريا... تجربة الحرب حاكمة

أحلام أخرى تعصف بها الظروف، ففي سوريا تمثل مرحلة الانتقال من الثانوية إلى الجامعة كثيراً في حياة الطلاب وذويهم، وفي هذه المرحلة ينظر الجميع إلى التخصص العلمي باعتباره المحدد الرئيس لمستقبل الطالب ومعه الأهل.

لكن ما كان مرجواً في سنوات الدراسة الأولى يتغير، ومع نمو خبرات الطالب وتعرضه لمعلومات وخبرات مختلفة، إضافة إلى تجربة الحرب التي وجهت اهتمام معظم الشباب السوري للسفر خارج البلاد علهم يؤمنون أنفسهم وعائلاتهم جعلت الاختيار يتلاءم مع متطلبات الخارج وليس الداخل.

وفي كل عام تتجاذب الاختيارات الجميع، الطالب والأهل وعوامل وظروف البلد وغيرها لتحديد المصير.

يرى متخصصون تربويون أن العملية التعليمية في سوريا تفتقر إلى المسؤولية المدنية والمجتمعية تجاه الطلاب، فرحلة التعليم تعتبر في كثير من الأحيان للطلاب شراً لا بد منه، وينتظر الطلاب انقضاء سنوات التعليم بفارغ الصبر، إذ إن النظام التعليمي لا يراعي تقنيات ومحفزات التعليم الابتكاري والإبداعي، فيقتصر فقط على مهارتي الحفظ والتذكر.

 

اختيار التخصص الجامعي من المراحل الحساسة التي تحتاج إلى توجيه وإرشاد من الخبراء، لا سيما في ما يتعلق بالشق المهني. لكن هذه الخطوة على أرض الواقع منفصلة عن الحاجات الفعلية في سوق العمل، وعلى رغم حاجة البلاد الملحة إلى جميع الاختصاصات بسبب هجرة عدد كبير من شبابها، فإن لحظة الاختيار تتحكم فيها عوامل مجتمعية ومالية عدة ورغبات شخصية.

يتقدم الطلاب إلى امتحانات الصف الثالث الثانوي وينتظرون ما يزيد على شهر لإعلان نتائجهم، بعدها تصدر وزارة التعليم العالي ما يعرف بورقة المفاضلة التي تحدد مجموع كل فرع واختصاص، وعليه يفاضل الطالب على بعض الأفرع ويسجل بناء على ذلك.

فراس اختار تخصصه بناء على علاماته التي كان يتوقع أن يحصل على أعلى منها، فكان يريد دراسة هندسة المعلوماتية، لكن درجاته حالت دون ذلك، وسجل بدلاً من ذلك لدراسة هندسة "الميكاترونكس" في جامعة البعث. يقول "كنت أريد دراسة هندسة المعلوماتية التي نصحني بها أحد أقربائي، إذ قال لي إن مجالات العمل فيها مفتوحة، وأحببت هذا الاختصاص من كلامه عنه، لكن علاماتي لم تسمح لي بتسجيله فاخترت فرع الميكاترونكس، ومع مضي الأيام أشعر بأني بدأت أحبه وأرغب في متابعته".

أما سامي، فسمحت له درجاته باختيار أي تخصص يريد، لكنه اتبع رغبته وشغفه بالإسهام في بناء الجسد بالرياضة والتغذية الصحيحة والتحق بكلية العلوم الصحية. يقول "حاول كثيرون إثنائي عن رغبتي بإقناعي باختصاص يرفع المجتمع من قيمته أكثر، لكني أعرف ما أريد. أريد أن أكون مدرباً متخصصاً في التغذية في مجال الرياضة، بخاصة كمال الأجسام".

صورة نمطية

لا تزال نظرة المجتمع في سوريا إلى عدد من التخصصات تشكل حافزاً للتسجيل فيها، إذ ما زال المجتمع يبجل اختصاصات الطب والهندسة ويرفع قيمة دارسها، مع عدم مراعاة وملاحظة أن متطلبات سوق العمل أفرزت اختصاصات جديدة ومنحتها حظوة من حيث الحاجة الملحة إلى وجودها وارتفاع دخل الفرد بممارستها.

اضطرت سالي إلى إقناع والديها بتسجيل اختصاص التسويق في الجامعة الافتراضية السورية، وذلك عكس رغبتهما في أن تدرس الصيدلة، فالصورة الذهنية في المجتمع السوري عن التسويق هي أنه مندوب مبيعات يجول بحقيبة على المحال والأشخاص في محاولات مضنية لبيع ما يحمل.

وحتى اليوم، لا تزال الصورة النمطية عن المحامي قائمة، إذ لم تستطع روان ثني والديها عن طلبهما بأن تسجل فرع المحاماة، "في عائلتي أربعة محامين، ووالداي يريدان مني أن أصبح مثلهم، فهم يعدوني بمكانة عالية بين الناس غير مكترثين لرغبتي في دراسة اختصاص الآثار، ويقولون لي إنه باختياري لهذا الفرع سأبقى تحت الشمس وبين التراب، بينما في المحاماة سأحظى بمكتب وتكييف وتقدير عال من الآخرين".

ومع انتشار الجامعات الخاصة في سوريا، أفسح المجال لوجود بعض الاختصاصات التي لم يكن لها وجود سابقاً مثل التسويق والتجميل وإدارة الأعمال وغيرها. لكن كلفة الجامعة أصبحت عالية جداً، لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الحالية. وإذا كان حظ الطالب جيداً وحصل على المجموع الذي يريده واختار فرعاً يناسبه، فإن الكلفة المالية أصبحت له بالمرصاد.

محمد من طرطوس يقول، "اكتفيت بتسجيل هندسة معمارية في محافظتي طرطوس على أن انتقل إلى دمشق للدراسة في كلية الفنون الجميلة وذلك لارتفاع كلفة السكن والمعيشة".

فلسطين... تغيير مسار

عوامل مشابهة تتحكم في التخصص العلمي لطلاب فلسطين، فنظام التعليم في فلسطين يتسبب في تغيير أكثر من 30 في المئة من الطلاب تخصصاتهم الدراسية في مرحلة مبكرة من التحاقهم بالجامعات في ظل عدم وجود آلية تساعدهم على اختيار وجهتهم بعد استكمال المرحلة المدرسية.

يخضع نحو 88 ألف طالب وطالبة لامتحان الثانوية العامة سنوياً، يتمكن أكثر من 58 ألفاً من اجتيازه والنجاح فيه، ويلتحق نحو 30 ألفاً منهم بالجامعات الفلسطينية، إضافة إلى عدد آخر يتمكنون من السفر إلى الخارج للدراسة.

وسنوياً، يتخرج في تلك الجامعات نحو 44 ألف طالب وطالبة، تستوعب سوق العمل المحلي 9 آلاف منهم، فيما تشكل البطالة في صفوفهم 25.6 في المئة من إجمالي العاطلين من العمل، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

وتعتبر نتائج امتحان الثانوية العامة، "العامل الأهم في تحديد طبيعة التخصص العلمي لطلبة الجامعات، إلى جانب رغبة الأهل وقدراتهم المالية، ثم رغبة الطالب نفسه"، وفق رئيس وحدة الإرشاد والتوجيه والشؤون الطلابية في وزارة التعليم العالي الفلسطينية أيمن الهودلي.

وينتقد الهودلي ارتفاع نسبة الطلبة غير القادرين على تحديد وجهتهم بعد نجاحهم في امتحان الثانوية العامة. فهؤلاء لا يدركون طبيعة ميولهم الشخصية وقدراتهم التعليمية، إضافة إلى عدم إلمامهم بحاجات سوق العمل".

 

ولذلك، فإن وزارة البحث العلمي تشن حملات إرشادية لطلبة المدارس، بخاصة في المرحلة الثانوية لإرشادهم إلى التخصصات المناسبة لهم والمتوافقة مع قدراتهم وحاجات سوق العمل المحلي والخارجي.

وعلى رغم انخفاض نسبة الطلاب الذين يبدلون تخصصاتهم الجامعية فإن الحاجة إلى حملات التوعية في المدارس بطبيعة التخصصات العلمية وكيفية الاختيار شديدة الأهمية.

وأشار الهودلي إلى أن الوزارة وبالتعاون مع وزارة التربية والتعليم تسعيان إلى استكشاف ميول وطاقات طلبة المدارس وتقديم النصح لهم لاختيار تخصصات تقيهم شرور البطالة وتناسب رغباتهم في الوقت نفسه.

وتستخدم وزارة البحث العلمي الفلسطينية تطبيقاً إلكترونياً على أجهزة المحمول "دروب" يقدم مجموعة اختبارات للطلبة لمعرفة مواهبهم وميولهم وقدراتهم لمساعدتهم في اختيار التخصص الجامعي المناسب لهم والذي تحتاج إليه سوق العمل محلياً وفي الخارج.

نظرة المجتمع

وقال المسؤول في مؤسسة "رؤيا" التي طورت التطبيق باسم بني شمسة إن نظرة المجتمع إلى بعض التخصصات وقيمتها المجتمعية تلعب دوراً كبيراً في اختيار التخصص الجامعي وذلك بمعزل عن حاجة السوق إليه وتواؤمه مع الطلبة.

ويردف، "الطلاب أنفسهم يكتفون بقشور التخصصات الجامعية، وليس الغوص فيها ومعرفة المهارات المطلوبة لها، وإذا ما كانت تتناسب مع قدراتهم أو لا".

وأضاف أن النظرة التقليدية التي ينظر بها الأهل إلى التخصصات تسهم بشكل كبير في اختيار التخصص، مشيراً إلى أن تلك النظرة تتعامل بشكل سلبي مع بعض التخصصات المهنية التي تعاني السوق نقصاً فيها.

وتستعين مؤسسة "رؤيا" بنحو 12 اختباراً عالمياً لتحديد التخصصات المناسبة للطلاب، ويخضع الطلاب لثلاثة اختبارات تؤدي نتيجتها إلى معرفة ميولهم وقدراتهم ومواهبهم ونوعية التخصصات التي تناسبهم مع نصحهم بالتخصصات التي تحتاج إليها الأسواق المحلية والعالمية.

وتهدف المنصة وفق بني شمسة إلى تقليل الفجوة بين حاجة السوق لبعض التخصصات، وتكدس خريجي تخصصات أخرى، مضيفاً أن التخصصات المهنية تعاني نقص الإقبال عليها.

وتعمل الحكومة الفلسطينية على إنشاء جامعة نابلس للتعليم التقني والمهني بهدف "كسر الفجوة بين مخرجات التعليم والحاجات الفعلية لسوق العمل الحالية والمتغيرات المستقبلية المتسارعة للمهن والحرف، بحسب رئيس الجامعة رزق أسليمية.

ويقول وزير البحث العلمي الفلسطيني محمود أبو مويس إن الوزارة تعمل على "تجسير الفجوة بين مخرجات التعليم وحاجة السوق"، مشيراً إلى أن الحكومة "تشجع الطلاب على الالتحاق بالتخصصات المهنية بهدف خفض البطالة والسير نحو تنمية مستدامة".

وتقيم وزارة التعليم العالي فعاليات سنوية في ‏الجامعات الفلسطينية بهدف تعريف الطلاب إلى الجامعات الوطنية والبرامج الأكاديمية التي ‏تطرحها، وإرشادهم لاختيار التخصصات المناسبة التي تحتاج إليها سوق العمل والتي ‏تتواءم وقدراتهم ورغباتهم.

لبنان... القدرات المادية تحكم

في لبنان كان الأمر يتعلق بالرغبات والقدرات الفردية للطلاب وكذلك قدرات الأهل المادية، ثم صارت الأخيرة صاحبة اليد العليا في تحديد الاختصاص العلمي. مع نجاح الطالب في المرحلة الثانوية، يواجه التحدي الأصعب في حياته، ألا وهو اختيار مجال التخصص الذي يرسم على أساسه مستقبله المهني، فالصعوبات لا تقتصر على الاختيار في ظل انعدام التوجيه، بل يتخبط الطالب أيضاً ما بين محاولة إرضاء أهله وتحقيق رغباتهم في التخصص الذي يختاره، وما بين طموحاته ورغباته الخاصة التي قد تكون بعيدة كل البعد من رؤية الأهل.

وأكثر بعد، يبدو أن المعايير التي يختار الطالب على أساسها التخصص الجامعي اختلفت في ظل الأزمة، إذ أصبحت للإمكانات المادية الكلمة الفصل أيضاً في اختيار التخصص الملائم. أما حاجات سوق العمل، فلا تزال غير مدروسة في لبنان ليكون التوجيه نحو تخصصات معينة على أساسها، كما يحصل في دول أخرى.

على رغم التحولات الحاصلة في العالم، يُبنى اختيار التخصص الجامعي للطلاب في لبنان على أسس تقليدية لا تمت إلى حاجات سوق العمل بصلة، وتكثر التجارب التي اختار فيها الطلاب التخصص العلمي الذي لا يشبه طموحاتهم تلبية لرغبات أهلهم، فبالنسبة إلى كثيرين من الآباء، تبقى الرؤية محدودة في هذا المجال وتنحصر في تخصصات جامعية معينة تعتبر هي الأهم والأفضل لأبنائهم. الهندسة والطب والمحاماة ثلاثة مجالات تحتل أعلى القائمة بين أولويات الأهل لتخصص أبنائهم حتى اليوم بما أنها تعتبر الأهم في الذهنية التقليدية التي لا تزال سائدة.

 

وفق ما يؤكده الخبير في المجال التربوي وسام عبدالصمد، بالنسبة إلى الأهل الذين عاشوا فترة الحرب الذين يعرفون بالـGeneration X  والـ Boomers، تسود تلك الذهنية التي تدعوهم إلى الاستثمار بشكل أساسي في تعليم أبنائهم وتخصيص كل ما لهم من مداخيل لذلك. هذا شرط أن يختار أبناؤهم أياً من مجالات الطب أو المحاماة أو الهندسة. وخلال الأعوام الأخيرة، حصل تغيير كبير طاول فئة الشباب التي تعرف بالـ Generation Z ولم يواكبه جيل من هم أكبر سناً. حصل تحول على صعيد سوق العمل ومجالات التخصص حول العالم، فواكبت فئة الشباب هذه التغييرات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمتابعة، مما زاد الشرخ بينها وبين الأهل وأدى إلى اختلاف كبير في الآراء حول مجالات التخصص. "تقع على المدارس والجامعات والدولة مسؤولية وضع السياسات التربوية في لبنان. إنما لا وجود لهذه السياسات التي توضع على أساس حاجات سوق العمل، بل يُظهر الواقع أنه من تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم، التوجه التربوي هو لإعداد الشباب إلى الهجرة والعمل خارج البلاد".

لم تكن هناك يوماً دراسة لسوق العمل وحاجاتها في البلاد، كما يحصل في مختلف دول العالم، حيث تجرى دراسة سنوية لسوق العمل، وعلى أساسها يوضع المعدل العام المطلوب للعلامات الذي على الطالب تخطيه حتى ينجح في تخصص معين. فلدى حاجة سوق العمل إلى تخصص معين، قد ينخفض المعدل العام المطلوب والعكس صحيح.

من جهة أخرى، يغيب التوجيه المهني والإرشاد الذي يبدأ من صف الشهادة المتوسطة، ففي إيرلندا مثلاً، بعد صف البريفيه يمر الطلاب بسنة دراسية انتقالية يجربون فيها مواد مختلفة ويختبرون مجالات عدة. كما ترسلهم مدارسهم إلى سوق العمل لمدة أسابيع لتجربة مجالات تخصص عدة. بعدها يختارون مجال التخصص على هذا الأساس، مع الإشارة إلى أن هذه السياسات لا تضعها الدول فحسب، بل المدارس أيضاً بوجود الدعم الرسمي لها.

والأسوأ أن اختيارات الطالب محدودة في المرحلة الثانوية في لبنان بأربعة أقسام، ويكون التوجه إليها بحسب النتائج المدرسية للطالب غالباً بغض النظر عن رغباته وطموحاته.

الأزمة ومحدودية الاختيارات

لا ينكر عبدالصمد أن الأزمة لعبت دوراً أيضاً في توجه الطلاب نحو تخصصات معينة وكان لها أثر واضح، خصوصاً بعدما آلت إليه الأمور في الجامعة اللبنانية التي تقفل أبوابها بشكل متكرر بسبب الإضرابات وأوضاع الأساتذة، مما حرم شريحة واسعة من الطلاب من التعليم الأكاديمي في صرح تتوافر فيه مختلف الاختصاصات والاختيارات.

في المقابل ظهرت جامعات صغرى عدة استفادت من الأزمة وأبقت على أقساط مقبولة لجذب طلاب من فئة معينة قد لا يملكون الإمكانات المادية لدخول جامعة خاصة كبرى تتوافر فيها اختصاصات أكثر. لا تقدم هذه الجامعات الصغيرة إلا مجالات تخصص محدودة، فيكون اختيار التخصص للطلاب محصوراً على هذا الأساس بسبب الوضع المادي الذي لا يسمح بغير ذلك ولا يسمح لهم بالتوجه إلى جامعة أخرى تضم مزيداً من التخصصات. وبالتالي، خلال الأزمة أرغم الطلاب على اختيار ما لا يلبي طموحاتهم ورغباتهم، وهي اختصاصات لا يحبونها أصلاً أحياناً ولا تلاقي حتى حاجات سوق العمل، بل هم محكومون باختيارات لتخصصات فرضتها الظروف.

ويشدد عبدالصمد على دور المدارس في توجيه الطلاب في المرحلة الثانوية نحو الاختصاصات المناسبة ويبرز في ذلك دور المستشار في الإرشاد الوظيفي. ففي دول أخرى، يلعب دوراً أساسياً في توجيه الطلاب على أساس المقابلات التي يجريها معهم بشكل متواصل خلال العام الدراسي، والأنشطة التي يقومون بها، ويوجههم على أساسها بحسب ميولهم ومهاراتهم. فللمتابعة النفسية والاجتماعية للطلاب مع فحوص التقويم أهمية كبرى للكشف عما لهم من مهارات وميول.

وفيما تعتمد المدارس في العالم على نظرية "غاردنر" التي تشير إلى وجود تسعة أنواع من الذكاء لدى الأطفال، يعتمد تقويم المدارس في لبنان على نوعين أو ثلاثة من الذكاء لدى الطلاب لا أكثر، ولا يمكن اتخاذ القرار الصحيح عندها في توجيه الطالب لتحديد ما إذا كان سيحقق النجاح في حياته أو لتوجيهه وتنمية ذكائه في مجالات يبرع فيها. كما أنه من المفترض أن تتعاون المدارس مع الجامعات ليتعرف الطلاب إلى الاختصاصات المتوافرة لديها وكلف كل منها وفرص تلقي المنح فيها.

طب وهندسة ومحاماة

هذا ما يؤكده أيضاً مسؤول لجان الأهل في المدارس الخاصة قحطان ماضي، مشيراً إلى غياب التوجيه في لبنان لمساعدة الطالب في اختياراته، فيما يعتبر ذلك من واجب وزارة التربية والمدارس والجامعات عبر خطة تربوية لتوجيه الطلاب نحو التخصصات المناسبة. ففيما نشهد ازدهاراً حالياً في قطاع برمجة الكمبيوتر والمجالات المرتبطة به مثلاً، لا تزال هناك ذهنية تقليدية راسخة تدفع الطلاب نحو تخصصات الهندسة والطب والمحاماة بتوجيه من الأهل وبضغط منهم. أما حاجات سوق العمل، فتدعو إلى الابتعاد عنها. وعلى رغم حاجة سوق العمل إلى حرفيين واختصاصيين في مجالات معينة، لكن هناك رفضاً في المجتمع لهذه المهن.

ولا تقع المسؤولية على المجتمع حصراً، بل على الدولة التي لا تقوم بدورها بوضع سياسات تربوية تعدّ الطلاب للتخصص بحسب متطلبات سوق العمل، ويقول ماضي "إذا كانت هناك سياسات تربوية، فهي تعدّ الطلاب للهجرة والعمل خارج لبنان أو حتى للعمل في مجالات أخرى غير تلك التي تخصصوا فيها. من واجب الدولة وضع خطة ثلاثية أو خماسية لدراسة حاجات سوق العمل وتوجيه الطلاب على هذا الأساس لتوفير الفرص الفضلى لهم. فطالما أن ثمة غياباً للبوصلة والتوجيه ستبقى الفوضى سائدة وتزيد البطالة والهجرة".

الوضع المادي يحدد الاختيار

التوجيه من واجب الجامعات أيضاً، إنما برزت مشكلة "الدكاكين التي تسمى جامعات" على حد وصف بعضهم، التي تعطي الطلاب شهادات غير معترف بها. قد يختارها الطلاب بسبب انخفاض كلف الدراسة فيها، فمما لا شك فيه أن الوضع المعيشي خلال الأزمة لعب دوراً أيضاً في تحديد اختيارات الطلاب في التخصص الأكاديمي. ويأخذ الأهل في الاعتبار عوامل عدة مثل كلف النقل والأقساط وعدد سنوات الدراسة، حتى يتمكنوا من تغطيتها كلها لدى قيام أبنائهم بالاختيار.

أما الأهل الذين اعتادوا على الادخار لتعليم أبنائهم في الجامعات، ففقدت مدخراتهم من قيمتها ووجدوا أنفسهم عاجزين عن تغطية كلف التعليم الجامعي بالدولار الأميركي، أياً كان مدخولهم. وأصبحت الاختيارات محدودة أكثر بعد بالنسبة إلى الطلاب، فإذا كان الطالب يطمح بالتعليم في جامعة خاصة، أصبح ذلك بمثابة حلم له، وبالتالي، بات التعليم خارج لبنان اختياراً لكثيرين لأن الكلف تكون أقل أياً كان مجال التخصص.

في ظل الأزمة، صارت القدرة المادية الحكم في تحديد اختيارات الطلاب للتخصص الجامعي بالنسبة إلى بشريحة واسعة في المجتمع، فاختيار الجامعة والفرع والتخصص يكون على هذا الأساس بالدرجة الأولى في كثير من الأحيان وينطبق هذا على شريحة من الناس تملك أموالاً في المصارف، لكن غير قادرة على سحبها أو التصرف بها. وربما هذا ما يفسّر توجه طلاب الجامعات إلى العمل في المقاهي لتغطية كلف أقساطهم الجامعية، ولو بجزء بسيط منها حتى يتابعوا في مجال التخصص الذي اختاروه.

موريتانيا... الشغف والحظ

وضع اقتصادي آخر يحتفظ لنفسه باليد العليا في اختيار التخصصات العلمية في موريتانيا وتنعدم ثقافة التوجيه الدراسي المؤسس على معايير فنية وعلمية هناك، فمعظم من صادفهم الحظ ودرسوا تخصصات علمية بحتة أو تطبيقية حققوا ذلك بفعل الشغف أو التأثير المباشر من أساتذة علميين تأثروا بهم في أثناء مسارهم الدراسي أو بتوجيه من الوالدين.

ويفسر الاجتماعي محفوظ التراد، أسباب غياب ثقافة التوجيه الدراسي في موريتانيا بقوله "حداثة التجربة الأكاديمية الموريتانية وغياب التراكمات المعرفية الجامعية أديا إلى انعدام ثقافة التوجيه الدراسي، سواء كان هذا التوجيه سيقود الطالب في الأخير إلى أن يصبح علمياً أو أدبياً".

ونبه محفوظ إلى عامل آخر أدى إلى غياب التوجيه هو أن التعليم الجامعي العلمي في موريتانيا بدأ في نهاية الثمانينيات. حداثة التجربة لم ترسخ قواعد لنموذج يؤخذ به، لا على المستوى الاجتماعي أو البيداغوجي في دوائر التعليم الموريتانية.

وأطلقت جمعيات موريتانية قبل أعوام مبادرات سماها القائمون عليها "صالونات التوجيه"، الغرض منها إتاحة فضاءات للنقاش مع الشباب الذين حصلوا لتوهم على شهادة البكالوريا لتوجيههم نحو التخصصات العلمية التي تناسب حاجة السوق الموريتانية، لكن هذه التجربة لم تدم طويلاً، بحسب أحد المشرفين عليها، ويرد ذلك إلى اعتقاده بأنها لم تكن جادة بالقدر الكافي. كما لم تحظ بالرعاية الرسمية اللازمة من طرف وزارة التعليم العالي المسؤولة عن مخرجات التعليم الجامعي في البلد.

 

ويحمل أستاذ الرياضيات في "مجمع بوليتكنيك" في نواكشوط المختار بن باب السياسات التعليمية الرسمية مغبة تجاهل مبدأ التوجيه الدراسي للطلاب بشكل تام، وهذا ما يلقي بآثاره على الطالب على رغم حداثة سنه وانعدام تجربته ونقص معلوماته حول التخصصات المتاحة أمامه، وعلى الأهل كذلك، وهؤلاء في الغالب ليست لديهم معايير صلبة لاختيار التخصصات.

ويسرد بن باب المسار الذي يسلكه الطالب الموريتاني في طريقه العلمي غير المفروش بالورود قائلاً "في نهاية المرحلة الإعدادية يتم توجيه الطلاب بناء على قرار من مجلس الأقسام إلى إحدى الشعب المتاحة في الثانوية. وعلى رغم التأثير الكبير لهذا القرار في مستقبل الطالب إلا أنه لا يستشار فيه، فالمتفوقون يوجهون عادة إلى شعبة الرياضيات وفي المرتبة الثانية تأتي شعبة العلوم والبقية إلى الآداب".

ويوضح أن أهم العوامل التي تؤثر في اختيارات الطلاب في ما بعد مرحلة الثانوية العامة رغبات الأهل الذين يرسمون لأبنائهم اختيارات تكون في معظم الأحيان بعيدة تماماً من اهتماماتهم وقدراتهم وأهدافهم ومن توجهات سوق العمل أيضاً. كما تؤثر اختيارات الطلاب السابقين في توجهات الطلاب بغض النظر عن مواءمتها لهم.

ويرى محمد محمود، والد طالب علمي يدرس الكيمياء في تونس أن "هناك عوامل مادية طرأت على حرية اختيار التخصصات العلمية المهمة فغالبية هذه التخصصات محدودة وتعطي الوزارة الأولوية فيها إلى المتفوقين في الثانوية العامة، مما يحتم على بعض الأسر إتاحة الفرصة لأبنائها لدراسة التخصصات التي تحتاج إليها سوق العمل على نفقتهم الخاصة".

القرار للوضع المادي

وأدى تأخر افتتاح كليات للطب والهندسة في موريتانيا إلى وأد أحلام كثير من أبناء البسطاء في البلاد، فمعظم هؤلاء دفعتهم ظروفهم المادية وطول المسار الدراسي في الخارج إلى أن يتجهوا لتخصصات قصيرة الأمد التعليمي ومضمونة التوظيف لمساعدة أنفسهم وأهلهم.

ويشير أستاذ علم الأحياء في كلية العلوم والتقنيات في جامعة نواكشوط الحافظ المهاب إلى "عدد من الحالات لطلاب نوابغ لم يكن بإمكانهم تتبع أحلامهم طويلة المدى (سبع سنوات طب أو خمس للهندسة) بسبب الوضع المادي لعائلاتهم، مما دفع بعضهم إلى البحث عن فرص عمل بدلاً من الدراسة، ومنهم من انضم إلى التدريس في المرحلة الابتدائية أو التمريض أو الشرطة، وفي المقابل هناك متوسطو الإمكانات المعرفية والفردية حصلوا على أعلى الشهادات بفضل المستوى المادي المريح لعائلاتهم".

ويكثر الطلب في موريتانيا على تخصصات مثل الطب البشري وطب الأسنان ثم الصيدلة والهندسة البيولوجية والعلوم الهندسية المختلفة.

الطالب أبو بكر أحمد يرى أن طبيعة نظام التعليم وخطط الوزارة ورؤيتها الخاصة بها أثرت سلباً في مدى إتاحة التخصصات المختلفة وكبحت رغبات الطلاب في الاختيار.

ويتفق الأستاذ المحاضر في تطبيقات الرياضيات في جامعة نواكشوط الخميني مولاي مع هذا الطرح، فيقول "التوجيه مركزي على مستوى الوزارة والتخصصات يجري توزيعها عبر تطبيق يرتب الطلاب بحسب الشروط المطلوبة لكل شعبة والطاقة الاستيعابية. كما أن النتائج الضعيفة في البكالوريا تعني بالضرورة ضعف مستوى أصحابها".

إكراهات الواقع

تُملي إكراهات الواقع على الأهل التدخل في إعادة توجيه أبنائهم لاعتبارات لا علاقة لها بمستقبل أولادهم ويتدخلون بعد التوجيه عن طريق الوساطات لإعادة توجيه أبنائهم من جامعات بعيدة نسبياً إلى معاهد قريبة من السكن مثلاً.

يقول طالب في معهد المحاسبة في نواكشوط، "الطريف أنه نظراً إلى أن الأمر يتم عبر الوساطة، فإنه لا يشمل أبناء الطبقات الفقيرة الذي يشكل النقل عقبة أمامها".

إنه العنصر المادي الذي لا يتحكم فقط في اختيارات التخصصات العلمية بل في إعادة التوجيه مضافة إليها الوساطة التي لا يمتلكها سوى الأغنياء.

الأغنياء والفقراء وما بينهما، واختيار الأهل ورغبات الأبناء والأرضية المشتركة أو المتنافرة بينهما، والرغبات والقدرات الفردية وعلاقتها بسوق العمل، وسبل تحديد أي طالب يلتحق بأي تخصص دراسي حيث الدرجات تتداخل وتتضارب مع قدرات كل من الدولة على توفير الجامعات أو تنظيم عملها وقدرات الأهل على التوفير والتدبير، وأحوال الدولة سواء كانت استقراراً أو حرباً أو صراعاً أو أوضاع بين بينين، وسجون المجتمع القائمة على عادات أكل على بعضها زمن وتقاليد شرب على معظمها وقائمة طويلة من العوامل والظروف التي تتحكم في التخصصات العلمية التي يدرسها الأبناء والبنات تجمع الدول العربية أكثر مما تفرقها.

ويكمن الفرق الأكبر، لا بين الدول العربية وبعضها بعضاً، لكن بين سبل وقواعد ونظم اختيار التخصصات العلمية للطلاب في الدول العربية وبين معرفة ما يمكن أن يفعله التخصص وما لا يمكنه عمله، من وجهة نظر واقعية، وفي ضوء التحديات المتنامية التي تواجهها المنطقة العربية.

واقعياً، المعرفة والتعلم هما أعظم الموارد المتجددة التي تمتلكها البشرية لمواجهة التحديات. ولأن التعليم وحده، شرط أن يكون بنوعية وجودة مدروستين، قادر على صناعة التغيير وإحداث التحول، فقد خرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) بمبادرة "مستقبل التربية والتعليم: تعلم لتصبح الإنسان الذي تريد"، وكذلك مبادرة "مستقبل العمل"، وأصدرت المنظمة ورقة عنوانها "مستقبل العمل: ما يمكن للتعليم أن يفعله، وما لا يمكن أن يفعله"، وذلك ضمن الاستعداد لسوق العمل في 2050.

هناك افتراض عالمي بأن التعليم هو العامل الوحيد الحاسم القادر على مواجهة التحديات المتعلقة بمستقبل العمل، لكن الورقة تشير إلى أن التعليم لا يمكنه أن يعالج أو يعوض أوجه القصور في مجالات السياسة الأخرى التي تسببت ولا تزال في تدهور جودة التعليم ومدى وفرته وأثره في نجاح منظومة التعليم أو فشلها.

ويستسهل كثيرون اعتبار "التعليم الفاشل" أو فشل الأفراد في التعليم وفي اكتساب المهارات اللازمة كبش الفداء المطلوب لتبرير تعثر التنمية في دولة أو مجتمع ما.

وتشير الورقة إلى أنه في الاقتصادات التي تكون فيها الشهادات الجامعية لمدة أربع سنوات هي الطريقة الوحيدة الممكنة للحصول على فرصة عمل مناسبة وتأمين حياة كريمة، يفاجأ الشباب والأهل بأن الدرجات العالية والنجاح في الالتحاق بالتخصص الدراسي المأمول لا يؤديان بالضرورة إلى وظيفة جيدة تدر دخلاً معقولاً ومكانة مرموقة، مما يؤجج الإحباط والغضب والاستياء.

ويبدأ الجميع بالتعبير عن الغضب بطرق مختلفة، وتبذل الجهود لرفع الدرجات أكثر أو تعظيم البحث عن فرص عمل أفضل، وقليلون أو نادرون هم من يكتشفون أن أصل المشكلة ليس في الدرجات أو الوظيفة المرموقة أو في الدخل الكبير بقدر ما هو في توفير الاختصاصات العلمية المناسبة والواقعية والنظر إلى سوق العمل حالياً وفي المستقبل من منظور التعليم والمواءمة بين رغبات الطلاب وقدراتهم، إضافة إلى توعية الأهل من حيث متغيرات العصر وعوامل اكتساب المكانة والأهمية في المجتمع بين أمس قدس الطب والهندسة بغض النظر عن الأعداد والحاجات وقدرات الطلاب ويوم وحاضر يتعاملان مع الاختصاص العلمي من منظور القرن الـ 21.

تخبرنا ورقة "يونيسكو" أن التعليم ليس الحل السحري للمشكلات الاقتصادية. التعليم وتخصصاته منظومة قائمة بذاتها لديها عواملها الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها. هذه المنظومة لا يجب تحميلها إخفاقات أنظمة أو فقر دول أو إحباطات شعوب. التعليم الجيد حالياً هو ما يعد الطلاب لعصر يلعب فيه الذكاء الاصطناعي دوراً متنامياً، وتلقي فيه تحولات وتغيرات سياسية ومناخية واقتصادية عظمى بآثارها على العالم كله. وعلى هذا الأساس يكون الاختيار.

المزيد من تحقيقات ومطولات