مسرحية مصرية تستدعي شخصيات هنريك إبسن

توظيف ذكي لمسرحية "عدو الشعب" للكاتب النرويجي الكبير هنريك إبسن (1828-1906) أقدم عليه الكاتب المصري الشاب ميخائيل وجيه. هو لم يقم بإعداد النص، أو تعامل معه دراماتورجياً، بل استدعى فقط الشخصية الرئيسة فيه ليصنع مفارقته مع الشخصية الرئيسة في نصه "ستوكمان" الذي قدمه "مسرح الغد" في القاهرة (البيت الفني للمسرح - وزارة الثقافة).

في "عدو الشعب" نحن أمام الطبيب توماس ستوكمان مفتش الصحة في حمامات الاستشفاء في بلدية إحدى المدن النرويجية الساحلية، وهي مدينة انتعشت اقتصادياً بسبب حمامات الاستشفاء التي توجد فيها ويقصدها السائحون من كل مكان، مما انعكس على سكانها بالخير، لكن ستوكمان، ذلك الطبيب المثالي، يكتشف أن تلك الحمامات ملوثة بسبب قيام أحد المصانع بإلقاء مخلفاته فيها، مما أدى إلى إصابة عدد كبير بمرض التيفوئيد، ويصر على إعلان ذلك، مما يسبب له ولأسرته مشكلات كثيرة، ويتهمه الجميع بأنه عدو الشعب.

أما في مسرحية "ستوكمان" المصرية، فنحن أمام ممثل يؤدي شخصية ذلك الطبيب في إحدى المسرحيات، هذا الممثل أنجب ابنة بشكل غير شرعي ولم يعترف بها ظناً منه أن ذلك سيعطل مسيرته الفنية، لكنه بعد 20 عاماً يقررالاعتراف بها، ليس تكفيراً عن ذنبه تجاهها، ولكن حتى تتحسن صورته أمام المجتمع ويحصل على منصب كان يسعى إليه.

المواجهة الدرامية (خدمة الفرقة)

تلك هي المفارقة التي أرادها الكاتب، داعياً، مع إبسن، إلى تنقية النفوس بدلاً من تنقية المياه، ومتسائلا: هل يجب أن يعيش الإنسان أكذوبة مريحة أم حقيقة مؤلمة، وماذا لوربح العالم كله وخسر نفسه؟

شخصية أنانية

نحن أمام شخص أناني يعمل من أجل نفسه فقط، حتى لو خسر ابنته وحياته الاجتماعية. في حجرته المخصصة له في المسرح لا توجد سوى صوره هو، منتشرة في كل مكان بعناية فائقة. وبعد أن تلتقيه ابنته، التي تعمل في الصحافة، لإجراء مقابلة معه، فهي كانت تعشقه كممثل، وتكتشف أنه والدها، تصدم وتغادر المسرح، أما هو فيعود إلى ممارسة عمله وكأن شيئاً لم يكن، فالنفس غير نقية، والأكاذيب المريحة، بالنسبة إليه، أفضل من الحقائق المؤلمة.

شخصية على النقيض تماماً من شخصية الطبيب توماس ستوكمان الذي فضل الحقيقة المؤلمة ودفع الثمن غالياً، وأراد الكاتب، من خلالها، طرح تساؤلاته حول النفس البشرية وتناقضاتها وأقنعتها التي تتخفى وراءها، والبون الشاسع بين ماتمثله على مسرح الحياة، وما تضمره في داخلها.

بعد فنتازي

مواجهة بين الأب والإبنة (خدمة الفرقة)

العرض قدمه المخرج أسامة رؤوف في شكل بسيط، وبحيل إخراجية يمكن ردها إلى عالم السينما، كاسراً واقعية إبسن بشيء من الفنتازيا. فشخصية الطبيب توماس ستوكمان تحضر بشحمها ولحمها خلال الاستعداد لتقديم المسرحية، فعندما يستعد الممثل لأداء دور الطبيب يفاجأ به وقد حضر إلى غرفته طالباً أن يتحدث إلى الجمهور أثناء العرض، ويكتشف الممثل أنهما متطابقان تماماً في الشكل، على مابينهما من تناقض في الجوهر. ويعلم من عامل المسرح أن الشخصيات التي يتم تجسيدها عادة ما تظهر، على رغم رحيلها، في أرجاء المسرح، وهو بعد يبدو كأنه فنتازي، أراد المخرج من ورائه إبراز أن الصور قد تتشابه أو تتطابق، وإن اختلف الجوهر. أو بمعنى أدق أن السطح غالباً ما لايفصح عما تحته. وهو نفسه ما حدث مع الابنة التي رسمت في خيالها صورة مثالية للممثل الذي تعشقه لتبنيه في أعماله قضايا إنسانية، ثم وبعد أن عرفت أنه والدها الذي تخلى عنها هي وأمها، تهشمت هذه الصورة تماماً، فليس كل ما يلمع ذهباً كما يقولون.

أداء شخصية الممثل الذي تخلى عن ابنته ظناً منه أن الاعتراف بها سيعطل مسيرته الفنية، تطلب وعياً وفهما لطبيعة هذه الشخصية الأنانية وحيرتها وتناقضاتها في تصوراتها عن نفسها وعن العالم من حولها. وتطلب كذلك قدرة على التحول من شخصية إلى أخرى، فهو لعب أيضاً شخصية الطبيب الحقيقية. نجح ياسر عزت في لعب الشخصيتين مستغلاً خبراته كممثل مسرحي رصين يجيد قراءة الشخصية وفهم أبعادها النفسية، ويجيد الخروج من شخصية إلى أخرى، ومن لغة إلى أخرى. فالممثل في أواسط العمر ويتحدث بالعامية المصرية، بينما الطبيب في أواخره ويتحدث بالفصحي. وهو ما تطلب جهداً مضاعفاً، وإيقاعين مختلفين في الحركة، وطريقة الكلام، وإبداء الانفعالات، وإن جاء ذلك كله بطريقة سلسة ومقنعة وواعية إلى اختلاف طبيعة الشخصيتين.

دور الابنة لعبته ريم أحمد بوعي هي الأخرى، فهمت طبيعة الفتاة وردود فعلها تلك الفتاة العاشقة للممثل، والمؤمنة بإنسانيته من خلال الأدوار التي يلعبها، فاختياره لأداء شخصيات مثالية، كما تصورت، يعكس طبيعته الشخصية التي لا بد أن تتشابه مع تلك الشخصيات. تطلعت لإجراء مقابلة صحافية معه، ثم أصابتها الصدمة عندما عرفت أنه والدها الذي تخلى عنها. استطاعت أن تعبر عن أدق مشاعرها كفتاة تجاه الممثل من ناحية، والأب من ناحية أخرى، بخاصة أن العرض تم تقديمه في قاعة صغيرة، مما تطلب رهافة في الأداء واستخدام كل مفردات الجسد للتعبير عن مكامن الشخصية. وهو ما تبدى في أداء الممثلين كافة، ومنهم نائل علي في دور مساعد الممثل، ومحمد دياب في دور عامل المسرح، واللذان لعبا دوريهما بشكل جيد في حدود المساحة التي أتيحت لهما.

مشهد من المسرحية (خدمة الفرقة)

انتبه مصمم الديكور حمدي عطية إلى طبيعة النص وتماسه مع نص إبسن الواقعي، فالتزم المنهج نفسه في صياغته لقاعة المسرح. في مواجهة الجمهور غرفة الممثل التي غلبت عنها الأناقة والألوان المبهجة، وفي العمق، خلف الحجرة، خشبة مسرح في مستوى أعلى تظهر للجمهور من أحد جوانبها، وليست في مواجهته، وذلك لإمكانية تنفيذ حيلة المخرج في تجسيد ممثل واحد لشخصيتين في الوقت نفسه. وهذا يشير إلى وعي المصمم بطبيعة القاعة من ناحية، ومتطلبات العرض من ناحية أخرى، فهو واحد من مصممي الديكور الذين يحللون النص جيداً، ويقدمون رؤية ربما لايكتمل العرض من دونها.

عنصران آخران اكتملت بهما الصورة، الأول هو الإضاءة (صممها أبو بكر الشريف) التي نجحت في إضفاء دلالة على الصورة أمامنا، ووعت هي الأخرى إلى طبيعة عروض القاعة، وأهمية دورها في إبراز انفعالات الممثلين وحالاتهم النفسية. وعمدت إلى الخفوت في العمق، حيث خشبة المسرح التي يجسد عليها الممثلون المسرحية داخل المسرحية، فقد ظهروا كأشباح أو خيالات غير واضحة المعالم، فضلاً عن دورها الواضح في تكريس الحالة الدرامية. أما العنصر الآخر فهو الموسيقى (تأليف رفيق جمال) بتوترها ومسايرتها لتحولات الشخصيات وكأنها معادل موضوعي لتجسيد تلك التحولات والمشاعر المتضاربة.

لم يستغرق العرض سوى ساعة واحدة، بدأ بالممثل في غرفته يراجع دوره في المسرحية، وتشديده على العاملين في المسرح بعدم إزعاجه، وانتهت بالمشهد نفسه، وكأننا أمام بنية دائرية تقول إن النفس إن لم تتطهر أولاً، فلا أمل في أن يكون أي شيء طاهراً أو متسقاً مع نفسه.