Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف حطمت أميركا آلتها الحربية

الخصخصة وتجويف الصناعات الدفاعية الأميركية

مصنع لوكهيد مارتن في كامدن، أركنساس، فبراير 2023 (رويترز)

ملخص

تقلصت الصناعة الدفاعية في أميركا بأثر من الخصخصة المفرطة وانسحاب البنتاغون من ذلك القطاع في سياق العولمة. وكشفت الحرب في أوكرانيا أن القوة عظمى تعاني في تأمين إمدادات الذخائر لكييف

بعد غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، تعهدت الولايات المتحدة بـ"الدعم الثابت لسيادة أوكرانيا". وقد تجسد هذا الدعم في أكثر من 75 مليار دولار من المساعدات الأمنية حتى الآن، مع التزام الولايات المتحدة بمساعدة أوكرانيا إلى أن يتوقف القتال. ووفق وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن حينما أعلن عن إرسال دفعة جديدة من الأسلحة لكييف، "إن الولايات المتحدة وحلفاءنا وشركاءنا سيتضامنون مع أوكرانيا، مهما طال الأمر".

ويستحضر هذا الالتزام غير المحدودة بتزويد أوكرانيا بالأسلحة من أجل مواجهة العدوان الروسي مقارنات مع الحرب العالمية الثانية. بعد أسابيع من بدء القتال، جادل كاتب الرأي في صحيفة "نيويورك تايمز" بول كروغمان بأن الولايات المتحدة وحلفاءها "يمثلون' ترسانة للديمقراطية'، ويمنحون المدافعين عن الحرية الوسائل المادية لمواصلة القتال" في أوكرانيا. وفي سياق متصل، كتب الصحافي إليوت أكرمان أن العمال الذين يصنعون صواريخ للدفاع عن أوكرانيا "يشكلون العنصر الأساسي في ترسانة أميركا للديمقراطية". وقد تبنّى الرئيس جو بايدن أيضاً تشبيه "ترسانة الديمقراطية". حينما زار مصنع شركة "لوكهيد مارتن" في تروي، ألاباما، في مايو (أيار) من العام الماضي. وقد أخبر بايدن الجمهور أن الولايات المتحدة "صنعت الأسلحة والمعدات التي ساعدت في الدفاع عن الحرية والسيادة في أوروبا منذ سنوات"، وإنها تفعل ذلك مجدداً اليوم.

في المقابل، لا يتناسب هذا الخطاب العالي النبرة مع الحقائق على أرض الواقع. في الحقيقة، أدى النقص في الإنتاج، واليد العاملة غير الكافية، وانقطاع سلاسل التوريد إلى إعاقة قدرة الولايات المتحدة على تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا وتعزيز قدرات البلد الدفاعية على نطاق أوسع. وثمة علاقة كبيرة بين تلك المشكلات وبين تاريخ الصناعات الحربية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية. إذ أسهمت الخصخصة التي تسللت رويداً رويداً خلال "الحرب الباردة"، إلى جانب تضاؤل الاستثمار الفيدرالي والرقابة على عقود شركات الصناعة العسكرية منذ ستينيات القرن الماضي، في ظهور عدم الكفاءة والهدر والافتقار إلى تحديد الأولويات، وهي أمور تعقّد المساعدة التي تقدّمها الولايات المتحدة لأوكرانيا اليوم.

بعد سقوط "جدار برلين" [في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين]، وحّد اللاعبون الكبار في الصناعة العسكرية الدفاعية الأميركية عملياتهم وقلصوها وخفّضوا عدد القوى العاملة. واستطراداً، فلقد سعوا إلى إبرام عقود حكومية لأسلحة تجريبية باهظة الثمن من أجل الحصول على أرباح أكبر على حساب إنتاج الأسلحة الصغيرة والذخيرة. ونتيجة لذلك، لم تكن الصناعة الحربية مهيأة للاستجابة خلال الأزمة الأوكرانية، لأنها باتت غير مرتبطة بحاجات الأمن القومي الأوسع للولايات المتحدة وحلفائها. وعلى رغم إمكانية إحداث إصلاحات، لا توجد حلول سريعة لتلك الأضرار الذاتية الصنع.

 

ما كنّا عليه في الماضي

لا تشبه الصناعات الدفاعية اليوم نظام الإنتاج العسكري الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت، كانت الصناعة في الغالب بمثابة أعمال تجارية تديرها الحكومة. شدّد "العقد الجديد" الذي اعتمده الرئيس فرانكلين روزفلت [إشارة إلى فكرة تجديد العقد الاجتماعي داخل أميركا الحديثة] على التنظيم الاقتصادي واعتمدت على "وكالات حروف الأبجدية" [الوكالات المعروفة بأوائل حروف الكلمات التي يتألف منها اسمها الأصلي، على غرار "سي آي أي" للاستخبارات و"أف بي آي" للأمن الفيدرالي] كـ"إدارة تقدم الأشغال" Works Progress Administration من أجل تعزيز التوظيف، ما مهد الطريق أمام اعتماد أسلوب التعاقد في زمن الحرب لاحقاً. وشكلت وكالات "العقد" الجديد تلك مصدر إلهام لإنشاء "مجلس الإنتاج الحربي" War Production Board في عام 1942 الذي حرّك الأعمال وعمل على ترشيد الموارد لجبهة القتال. وقد ركّز إنتاج الأسلحة على بناء السفن والطائرات، مع وجود شركات اتخذت مقراً لها بشكل أساسي في المراكز الصناعية في الشمال الشرقي والغرب الأوسط داخل المنشآت التي تملكها الحكومة وتديرها والمعروفة باسم منشآت "غو غو" GOGO [المصطلح مشتق من عبارة "تملكه الحكومة وتديره الحكومة" Government Owned, Government Operated]. في الواقع، امتلكت الحكومة ما يقرب من 90 في المئة من القدرة على إنتاج الطائرات والسفن والأسلحة والذخيرة. ويتناقض هذا الأمر مع الجو السائد اليوم، إذ تشكل المنتجات التجارية [المخصصة للاستعمال العام وليس للأغراض الحكومية] أكثر من 88 في المئة من عقود المشتريات الجديدة منذ عام 2011، وتستثمر رؤوس الأموال الخاصة أكثر من 6 مليارات دولار سنوياً في الصناعات الدفاعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حينما قصف اليابانيون بيرل هاربور في عام 1941، سمحت السيطرة الفيدرالية على الإنتاج الدفاعي والاستجابة السريعة التي اعتمدتها إدارة روزفلت رداً على الهجوم، بالتحول السريع من الإنتاج المدني إلى الإنتاج العسكري في شركات من نوع "فورد" و"جنرال موتورز"، التي انتقلت من صناعة السيارات إلى صناعة القاذفات. ولم تزدهر الشركات الكبيرة وحدها. إذ سعت الحكومة الفيدرالية أيضاً إلى دعم المقاولين الفرعيين الصغار الذين أنتجوا المواد المرتبطة بالحرب في المصانع التي تديرها الحكومة. في ذلك الوقت، لم تكن مجموعة صغيرة من المقاولين الأقوياء مهيمنة على الصناعة، خلافاً لـ "الخمسة الكبار" اليوم، أي شركات "بوينغ"، و"جنرال دايناميكس"، و"لوكهيد مارتن"، و"نورثروب غرومان"، و"رايثيون".

على رغم أن حجم إنتاج الأسلحة لأوكرانيا بعيد كل البعد عما تطلبته الحرب العالمية الثانية، إلا أن تلك الفترة الزمنية تقدم فهماً عميقاً وقيّماً لمشكلات اليوم. ووفق ما أوضحه المؤرخ مارك ويلسون، فإن نجاح التعبئة العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية المتمثل في القدرة على التحول إلى ترسانة للديمقراطية، تطلّب تخطيطاً مركزياً وسيطرة حكومية على الصناعة. ويُعتبر هذا درساً أساسياً لأولئك المهتمين بالقاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية وقدرتها على تزويد أوكرانيا وحلفائها بأسلحة إضافية. ففي ذلك الوقت، لم تكن القدرات الإبداعية والبراعة في القطاع الخاص كافية وحدها، بل برزت ضرورة الإنتاج الحربي بتفويض من الحكومة بغية تزويد قوات الحلفاء بالمواد المطلوبة التي احتاجوا إليها من أجل هزيمة قوى المحور ووضع حد للبطالة المنتشرة الناجمة عن الكساد الكبير.

 

أعمال كبيرة ومربحة

انتهت الجهود الفيدرالية الرامية إلى تحفيز التوظيف في مجال الدفاع في ستينيات القرن الماضي. وضغط مقاولو الشركات الدفاعية [التي تصنع الأسلحة العسكرية] على الكونغرس من أجل تخفيف القيود والأنظمة الحكومية المتعلقة بخصخصة عمليات الصناعة الدفاعية حتى قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية. في الواقع، كشفت التعبئة الدفاعية خلال الحرب الكورية عن القوة المتنامية للمؤسسات الخاصة في الشؤون العسكرية الأميركية. فحينما اندلعت تلك الحرب في عام 1950، اعتمد الرئيس هاري ترومان على الأوامر التنفيذية [التي تصدر مباشرة من الرئيس] وتشريعات الكونغرس (بما في ذلك قانون الإنتاج الدفاعي لعام 1950) لتحفيز الاستثمار الخاص، وليس العام، في الجيش. ووفق ما أشار إليه المؤرخ تيم باركر، فإن 90 في المئة من الإنتاج في الصناعة العسكرية خلال الحرب الكورية جاء من أموال القطاع الخاص.

بعد الحرب الكورية، سعت الحكومة الفيدرالية إلى خلق فرص عمل في القطاع الدفاعي الخاص، وفي الجامعات التي تعمل على المشاريع الممولة من البنتاغون، لكنها لم تركز على التوظيف في القطاع العام. لقد آمنت الحكومة الفيدرالية بأن لديها التزاماً بخلق الوظائف من أجل تعزيز "التعاون مع العلم والصناعة"، وفق تعبير الرئيس دوايت أيزنهاور. واستكمالاً، سعت الحكومة الأميركية أيضاً إلى التفوق على الاتحاد السوفياتي في سباق اكتشاف الفضاء وسباق التسلح من خلال زيادة القوة العاملة الأميركية. وبعد أن فوجئ أيزنهاور بإطلاق السوفيات للقمر الاصطناعي "سبوتنيك" في عام 1957، أقرّ قانون تعليم الدفاع القومي لعام 1958، الذي قدم منحاً وقروضاً حكومية للأميركيين ممن يسعون لنيل شهادات التعليم العالية (بما في ذلك الدكتوراه) في العلوم والتكنولوجيا المتعلقة بالصناعات الدفاعية. وقد رفع البرنامج حظوظ الطبقة الوسطى، إذ موّل الطلاب المحتاجين ممن رغبوا في الحصول على وظائف في مجال الدفاع. وعزز "قانون الدفاع القومي المتعلق بالتعليم" سبل عيش الأميركيين، ورفع آلاف الأميركيين إلى الطبقة الوسطى، وأرسى سابقة للحكومة في دعم خلق الوظائف في القطاع الخاص لأغراض تتعلق بالأمن القومي.

خلال إدارتي كينيدي وجونسون، وضع وزير الدفاع روبرت ماكنمارا سلسلة إصلاحات قللت من التركيز على إنتاج الأسلحة التقليدية وأغلقت مرافق كبيرة تملكها الدولة وتديرها أي منشآت الـ"غوغو". بحلول الوقت الذي تصاعدت فيه العمليات العسكرية الأميركية في فيتنام وتحولت إلى حرب كاملة في عام 1965، لم تعد المنشآت الدفاعية بمعظمها مملوكة من الحكومة أو خاضعة لإدارتها. في سنوات تالية، اعتمدت الصناعة العسكرية بشكل متزايد على مصانع تملكها الحكومة ويديرها مقاولون من القطاع الخاص، وقد أعطت تلك المصانع الشركات هامشاً إضافياً في السيطرة على عملياتها. وأدى الاستقلال المتزايد في الصناعة، وتقليل المُساءَلة، إلى رد فعل عكسي خلال سنوات حرب فيتنام. ومع حلول أواخر الستينيات من القرن العشرين، صار أعضاء الكونغرس، ولا سيما وليام بروكسمير، عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي عن ولاية ويسكونسن، أكثر صراحة بشأن الهدر وإساءة الاستغلال في ميزانية البنتاغون. وفي عام 1970، أفاد بروكسمير بأنه "من المحبط بالنسبة إليّ، بصفتي مواطناً وعضواً في مجلس الشيوخ، أن أعرف أن الأسلحة تكلّف الشيء الكثير، وتُسلَّم بعد فوات الأوان، وتعمل بفعالية أقل بكثير من مواصفاتها". وعلى رغم ذلك، أثبت الكونغرس أنه غير قادر على فرض أنظمة مستدامة في الصناعات الدفاعية.

في العقود التي تلت ذلك، ازدادت نسبة الخصخصة وتراجع إشراف الكونغرس بوتيرة أسرع. وحينما كاد ارتفاع مستوى التكاليف والإدارة المالية أن يوصل الشركات الكبرى على غرار "لوكهيد مارتن" إلى حافة الإفلاس، اشتكت شركات الدفاع من عدم كفاية الأرباح. بعد فيتنام، تضاءلت الضغوط على الكونغرس للتدقيق في أعمال الصناعة العسكرية، فسعت وزارة الدفاع إلى مساعدة الشركات على جمع مزيد من الأرباح من خلال تشجيع الاستثمار الخاص في مصانع الدفاع وإنتاج الأسلحة التي مهدت الطريق للتغيرات التي حدثت في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته.

 

العشاء الأخير

شكلت فيتنام مسرحاً لآخر حرب تقليدية كبرى واجهتها الصناعة الدفاعية الأميركية. بعد انتهاء الحرب في عام 1973 وبدء تقلّص ميزانية الدفاع، تحولت الصناعة إلى مبيعات الأسلحة في الدول الأجنبية. والجدير بالذكر أن ارتفاع صادرات الأسلحة إلى بلدان الجنوب العالمي، من 404 ملايين دولار في عام 1970 إلى 9.9 مليار دولار في عام 1974، تزامن مع تراجع التصنيع ونقل الصناعة الدفاعية إلى دول أجنبية. وقد تسبب ذلك في إغلاق المصانع وفقدان الوظائف ضمن قطاع التصنيع المحلي في الولايات المتحدة. وصُنّع مزيد من القطع والمكونات الحربية في الخارج. وانخفضت القوى العاملة في مجال الصناعة الدفاعية الأميركية بنسبة 9.8 في المئة بين عامي 1960 و1975. وشهدت مناطق في الولايات المتحدة على غرار نيو إنغلاند انخفاضاً بـ50 في المئة ضمن صفوف القوى العاملة المدنية والعسكرية.

مع حلول الثمانينيات، تزايد قلق البنتاغون والكونغرس بشأن نقاط الضعف العامة في القاعدة الصناعية العسكرية. وخشي المشرّعون من أن "اعتماد الولايات المتحدة المتزايد على المصادر الأجنبية"، وفقاً للنائب الديمقراطي ريتشارد إيكورد من ولاية ميسوري، من شأنه أن يعرض الاستعداد الدفاعي للخطر. في عام 1988، حذر البنتاغون من أنه "في حالة الطوارئ الوطنية، يمكن أن تترتب على الاعتماد المكثف على المصادر الأجنبية عواقب فائقة الخطورة".

على رغم أن الرئيس رونالد ريغان سعى إلى تعزيز الدفاع، رافعاً الإنفاق من 176.6 مليار دولار في عام 1981 إلى 325.1 مليار دولار في عام 1990 (ارتفع الإنفاق الدفاعي إلى أكثر من ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 1982 و1988)، إلا أنه فشل في معالجة هذه المخاوف. عوضاً عن ذلك، أعطى الإنفاق الدفاعي في عهد ريغان الأولوية للمشاريع التجريبية على غرار صاروخ "أم- أكس" MX و"مبادرة الدفاع الاستراتيجي"، وهو نظام دفاع صاروخي مقترح يحمي الولايات المتحدة من الهجوم النووي. وقد لُقِّبَ بـ"حرب النجوم" وكلف الحكومة الأميركية 30 مليار دولار قبل أن يلغيه الرئيس بيل كلينتون في عام 1993. كذلك، استثمرت إدارة ريغان المال في طائرات متقدمة من نوع القاذفة الشبح "بي-2" B-2 والمقاتلة الشبح "أف-22" F-22، عوضاً عن شراء مدافع وذخائر أقل إبهاراً.

واستطراداً، فشل ريغان أيضاً في تحديث المصانع الدفاعية بشكل صحيح في الولايات المتحدة وإنعاش القوى العاملة الصناعية في قطاع الدفاع. في عهد ريغان، حققت أكبر شركات الدفاع أفضل أداء. بحلول عام 1987، وجّهَ بول بيرنسكي من "الاتحاد الأميركي للعمال ومؤتمر المنظمات الصناعية" تحذيراً إلى الكونغرس من أن "الشركات الأميركية التي شكلت جوهر الدفاع الأميركي، باتت تتلْقى دعماً قليلاً من إدارة ريغان. ووصلت جهات كثيرة إلى الإفلاس، ولا سيما المقاولون الفرعيون [من الباطن] في قطاع الأعمال التجارية الصغيرة". وخلال ثمانينيات القرن العشرين، وجد مقاولون فرعيون آخرون أن الأعمال في المجال الدفاعي صارت أقل ربحية في فلجأوا إلى مصادر أخرى للإيرادات. وقد تزامنت التعبئة التي نهض بها ريغان أيضاً مع انتشار روحية مُناهِضَة للحكومة [بمعنى الدعوة إلى تقليص دور الدولة في المجالات كافة] تغلغلت في السياسة الأميركية وحدّدت القرارات المتعلقة بالدفاع القومي التي اتخذها كل من الديمقراطيين والجمهوريين، بل إنها حددت شكل الإصلاحات بشأن المشتريات الدفاعية خلال ثمانينيات القرن العشرين. وحينما كشف المراسلون النقاب عن تفشي الهدر وسوء الاستغلال في عملية الشراء، بما في ذلك اكتشاف أن البحرية كانت تدفع 600 دولار مقابل مقاعد المراحيض، انتقدت "لجنة باكارد" [تيمناً بنائب وزير الدفاع ديفيد باكارد وتُعرف أيضاً بلجنة الشريط الأزرق] عام 1986، عدم كفاءة الحكومة واعتبرتها أصل المشكلة. وكتبت اللجنة أن "برامج الدفاع في البلاد تخسر بسبب الإجراءات غير الفاعلة أكثر بكثير مما تخسره بسبب الاحتيال والخداع". كذلك، أدى الإيمان بالتجارة الحرة وخفض التكاليف وتدني الكفاءة [الحكومية] إلى تسريع الاستعانة بمصادر خارجية في مجال الدفاع، ما سمح للصناعة الدفاعية بالاستمرار في التخلص من العمال الأميركيين. في الواقع، وصلت اليد العاملة في قطاع الصناعات الدفاعية المستقرة في الولايات المتحدة إلى ذروتها في الثمانينيات إذ بلغ عددها حينذاك 3.2 مليون شخص، واستمرّت في التراجع منذ ذلك الحين إلى أن وصلت إلى الرقم المسجّل اليوم والبالغ 1.1 مليون عامل.

 

لم تكن الصناعة الدفاعية مهيأة للاستجابة خلال الأزمة الأوكرانية

 

حينما أدت نهاية "الحرب الباردة" إلى مناقشة "مكاسب السلام"، وبدأ صانعو السياسة الأميركيون في إعادة تقييم ما سينفقونه على الدفاع، شعر المقاولون العسكريون أنه يتعين عليهم اتخاذ خيار ما، فإما التضامن وإما الهلاك. في عشاء شهير أقيم في عام 1993 في البنتاغون، يُعرف بين المطلعين في مجال الصناعة باسم "العشاء الأخير"، حذر قادة البنتاغون الرؤساء التنفيذيين في أكبر شركات الدفاع في البلاد من أن ميزانية الدفاع على وشك الانخفاض بشكل حاد. وأخبرهم نائب وزير الدفاع وليام بيري، "نتوقع أن تفلس شركات الدفاع. وسنقف مكتوفي الأيدي بينما يحدث ذلك".

آنذاك، فهم المقاولون الرسالة، وبدأوا في التضامن وتوحيد صفوفهم. ارتفعت قيمة عمليات الدمج من 300 مليون دولار في عام 1990 إلى 20 مليار دولار بحلول عام 1996. وانخفض عدد مقاولي الصواريخ التكتيكية من 13 إلى 3، وبالنسبة إلى الطائرات الثابتة الجناحين، انخفض العدد من 8 إلى 2. وعقد كلينتون الأمل على أن يؤدي الدمج إلى خفض التكاليف وتبسيط عملية التعاقد، بيد أنّ أياً من ذلك لم يتحقق. فُقدت آلاف الوظائف، وقدمت إدارة كلينتون مساعدة ضئيلة لأولئك الذين أصبحوا عاطلين من العمل حديثاً.

وعلى رغم ارتفاع الإنفاق الدفاعي مرة أخرى بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، لم يتغير شيء يُذكر في الصناعات الدفاعية. استمر الدمج والتوحيد في الازدياد خلال "الحرب على الإرهاب". ووصل الآن إلى أرقام قياسية بسبب تأثير الشركات الخاصة. في الواقع، تشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن أكثر من 500 شركة اشترتها الشركات الخاصة في العقدين الماضيين، ما زاد من عدم الاستقرار وعدم المساءلة في عمليات الشراء الدفاعية. وبالتالي، ليس من مصلحة الأمن القومي الأميركي ذلك المعدل المرتفع للديون المستحقة على الشركات الخاصة، وافتقارها للمساءلة أمام الرقابة العامة، وارتفاع مخاطر تخلفها عن السداد. وإضافة إلى دور الملكية الخاصة، فإن انتشار الشركات الناشئة التي تعمل في المجال العسكري ضمن "وادي السيليكون" [أي الشركات التي تعمل في التقنيات الرقمية العسكرية] طيلة السنوات الماضية، قد وعد بالابتكار وتحديث القاعدة الصناعية للأسلحة العسكرية. لكن تلك الوعود لم تتحقق بعد.

في غضون ذلك، واصلت شركات الصناعة الدفاعية السعي وراء سلع باهظة الثمن عوضاً عن شراء ذخائر منخفضة التكلفة. ومثلاً، بلغت تكلفة الكاملة لبرنامج "جوينت سترايك فايتر أف-35" F-35 Joint Strike Fighter حوالى 1.6 تريليون دولار. في المقابل، إن إنتاج الأجزاء [القطع] الصغيرة، على غرار محركات الصواريخ، والدواليب الحديدية التي تتضمن كرات فولاذية، والأنابيب، والأغلفة الفولاذية، وغيرها من المواد الأساسية للأوكرانيين، يُعتبر أقل ربحاً، بل إنه حتى وقت قريب، كان أقل أهمية بالنسبة إلى الحكومة الأميركية شركات الصناعية الدفاعية. واستطراداً، أدت السياسات الضيقة والضغوطات إلى تعديل أولويات البنتاغون، وأجبرت الجيش على الاحتفاظ بعقود لبرامج عفا عليها الزمن كسفن القتال الساحلية. وبحسب ما نقله وكيل وزارة الدفاع وليام لابالانت إلى الصحافي إريك ليبتون من صحيفة "نيويورك تايمز" في مارس (آذار) 2023، "لقد سمحت [الولايات المتحدة] فعلياً لخطوط الإنتاج بأن تصبح غير فاعلة ووقفت متفرجة بينما أصبحت القطع قديمة وبالية". على رغم ذلك، تواصل الصناعة السعي وراء الاستثمار في الطائرات والصواريخ المتطورة العالية التكلفة على غرار القاذفة الشبح "بي-21" B-21 والصاروخ الباليستي العابر للقارات "أل جي أم-35 سينتنيل" LGM-35 Sentinel، حتى لو أدّت تلك الأنواع من البرامج، بشكل متوقع، إلى تأخيرات واسعة النطاق وتجاوزات في التكاليف، يتعين على دافعي الضرائب الأميركيين تغطيتها.

 

الجبهة الداخلية

إن هذا التاريخ من الدمج والخصخصة والاستعانة بمصادر خارجية وخفض الوظائف والتقاعس الفيدرالي والبحث عن أرباح أكبر، الممتد على مدى 70 عاماً، قد خلق عاصفة هوجاء باتت تعيق الآن المساعدة الأمنية المقدّمة في حرب أوكرانيا، وربما في الصراعات المستقبلية أيضاً. ووفق ما ورد في صحيفتي "بوليتيكو" و"وول ستريت جورنال"، لا تملك الولايات المتحدة القوة العاملة اللازمة لإنتاج أعداد صواريخ "جافلين" المضاد للدبابات الذي طلبته أوكرانيا. وقد استهلكت أوكرانيا إمدادات من صواريخ "جافلين" في الأشهر الستة الأولى من الحرب، وقد زُعِم سابقاً أنّها تكفي خمس سنوات. وعلى نحو مماثل، استهلكت أوكرانيا في غضون عشرة أشهر فحسب كمية من صواريخ "ستينغر" [المضاد للطائرات] افتُرِضَ أن تكفي ست سنوات. في عام 2021، انفجرت إحدى المصانع القليلة المملوكة للحكومة الأميركية والخاضعة لإدارة الشركات الدفاعية والمنتجة للبارود المستخدم في قذائف المدفعية الحديثة. ولم يُعَدْ بناؤها قط لأنها لا تحقق أرباحاً كافية. ومن المتوقع أيضاً أن تؤثر الانقطاعات في سلاسل التوريد العالمية على الصناعات الدفاعية في المستقبل المنظور. على رغم أن الصناعة تتوقع زيادة في المبيعات وهوامش الربح خلال العام المقبل، إلا أن الأعمال المتراكمة منذ فترة طويلة واضطراب الإمدادات وتجاوزات تكاليف التقديرات الأصلية لا تزال قائمة.

وفي الحقيقة، لا تستطيع الولايات المتحدة تصحيح هذه المشكلات على المدى القصير، أو عكس مسار هذا التاريخ بين عشية وضحاها. إذ تتطلب الحلول الشاملة مشاركة حكومية وسيطرة أقوى على الصناعة على المدى القريب والطويل. ينبغي ألا يقتصر الإصلاح الدفاعي على المشتريات أو التدقيق في الحسابات فحسب على رغم الحاجة إلى إجراء تغييرات على الجبهتين، بل يجب على الكونغرس إعادة تصور الإصلاح الدفاعي، واستخلاص الدروس من المرّة الأخيرة التي لعبت فيها الولايات المتحدة حقاً دور ترسانة الديمقراطية. وتتمثّل الخلاصة الرئيسة المستفادة من تلك المرّة في الحاجة إلى مزيد من التدخل الفيدرالي في الصناعة الدفاعية، إذا توجب على الصناعة إنتاج أسلحة "غير مربحة".

وتلوح في الأفق بوادر إصلاح دفاعي شامل من الحزبين. لقد قادت السناتور إليزابيث وارن، العضوة في الحزب الديمقراطي من ولاية ماساتشوستس، تشريعات تكافح التوحيد والاحتكار، ودَعم جهودها بعض الجمهوريين كالسناتور تشاك غراسلي، وهو جمهوري من ولاية أيوا. ويجدر الثناء على تلك الجهود. وفي الحرب العالمية الثانية، أثبت عدد كبير من المقاولين من الباطن [ضمن الصناعة العسكرية] أنهم ضروريون للفوز. لكن هذا النوع من المقاولين لم يعد موجوداً اليوم لأنهم لا يستطيعون التنافس مع قوة "الخمسة الكبار" الاحتكارية.

 

على رغم إمكانية الإصلاحات، إلا أنه لا توجد حلول سريعة

 

وتمثّل الشاغل الرئيس للمحللين الاستراتيجيين بكيفية تجديد مخزونات الأسلحة من أجل ضمان عدم استنفاد الولايات المتحدة ترسانتها الشاملة. لكن تخزين الأسلحة أمر مستحيل بالنظر إلى ندرة العمالة الأميركية الماهرة. في الواقع، كافحت شركات الصناعة العسكرية طوال سنوات عدة لتوظيف عمّال في قطاع غالباً ما تتطلب من موظفيه تدريباً مهنياً أو شهادات تحتاج إلى سنتين من الدراسة. ويستغرق تثقيف وتدريب العمال المستقبليين في الصناعة العسكرية وقتاً لم تعد أوكرانيا تملكه في الوقت الحالي. وبصورة عامة، يعرف عن صناعة الأسلحة أنها تتطلب فعلاً وعملاً وليس رغبة وكلاماً فحسب. ومن أجل تحقيق قوة عاملة أكثر استقراراً ومدربة بشكل أفضل، يجب على الولايات المتحدة دعم خلق فرص العمل في جميع قطاعات التوظيف، وليس قطاع الدفاع وحده، كي يتملك الأميركيون المهارات المطلوبة والتدريب اللازم في أوقات الأزمات. ويحاول بايدن معالجة ذلك من خلال "قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم" CHIPS and Science Act الذي أقرّه في عام 2022. ويتجسد الدافع وراء القانون الجديد في منافسة الولايات المتحدة مع الصين. ويمنح هذا التشريع قروضاً للطلاب الذين يسعون إلى الانخراط في مسارات مهنية ضمن مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وفي المقابل، تستطيع إدارة بايدن أن تذهب إلى ما هو أبعد من البرنامج، فتتبع سياسات إضافية تدعم التعليم العالي وتخلق فرص العمل في وقت السلم. بالتالي، ستنعش مدناً تعثّرت في مرحلة ما بعد الصناعة [أي في مرحلتي النيوليبرالية والعولمة] فتغدو قادرة على المشاركة في مساعدة الدفاع الأوكراني لكنها ستواجه بالتأكيد انكماشاً اقتصادياً حينما ستنتهي تلك الحرب. ومن الأمثلة على تلك المدن، تبرز كامدن بولاية أركنساس، أو تروي بولاية ألاباما، حيث يعيش أكثر من 25 في المئة من السكان تحت خط الفقر. يتوجّب على الولايات المتحدة توسيع قوتها العاملة على المدى الطويل، في سبيل سلامة ديمقراطيتها، وليس من أجل مصالحها الأمنية الوطنية المتعلقة بروسيا والصين فحسب.

بالتالي، يبدو ذلك الأمر مهماً على بشكل خاص بالنظر إلى إحجام الصناعة الدفاعية تاريخياً عن تنويع عملياتها أو التكيف بسرعة مع حاجات القوات الأميركية المشاركة في الصراع. خلال حربي العراق وأفغانستان، واجه الجنود الأميركيون بانتظام نقصاً في المعدات والذخيرة. وكانت لهذا علاقة كبيرة مع حقيقة أنه مع حلول عام 2004، تولى مصنع واحد فحسب بولاية ميسوري إنتاج الذخيرة للجيش الأميركي بأكمله، بعد أن توزّعت تلك المهمة على خمسة مصانع خلال حرب فيتنام. كذلك، تولى مصنع واحد لا غير إنتاج السترات الواقية. على مدى سنوات، حاولت الصناعة العسكرية، بدعم من البنتاغون، أن تنتج أكثر بتكلفة أقل بغية تدعيم عملياتها، ثم تكثيف الإنتاج في أوقات الأزمات. في المقابل، لم تنجح تلك الاستراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة في الماضي، ولا تنجح حالياً مع أوكرانيا.

لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون ترسانة الديمقراطية بالنسبة إلى أوكرانيا، أو أي دولة أخرى، إذا لم تحقق اتساقاً أفضل بين سياساتها الخارجية والمحلية بطرقٍ تعمل على تحسين حياة المواطنين الأميركيين. وفي سبيل خدمة أوكرانيا بشكل أفضل، يتوجّب على الولايات المتحدة أن تزيد استثمارها في مستقبل الأميركيين، لا في قدراتها الدفاعية فحسب.

 

مايكل برينس، المدير الموقت لـ"برنامج برادي جونسون للاستراتيجية الكبرى"، ومحاضر في التاريخ في جامعة ييل.

 

فورين أفيرز

يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2023

المزيد من آراء