Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسامة العيسة يسبر أغوار المدينة المقدسة بروح ملحمية

رواية "سماء القدس السابعة" تعيد سرد التاريخ الحضاري والعمراني منذ الجذور حتى الآن

مدينة القدس في رواية تاريخية شاملة (اليونسكو)

ملخص

رواية "سماء القدس السابعة" تعيد سرد التاريخ الحضاري والعمراني منذ الجذور حتى الآن

قريباً من مناخات روايته - سرديته الفلسطينية "مجانين بيت لحم" (جائزة زايد للكتاب، فئة الآداب، 2015)، يقدم لنا الروائي الفلسطيني أسامة العيسة (مواليد مخيم الدهيشة - بيت لحم 1963) روايته الجديدة "سماء القدس السابعة" (دار المتوسط - 680 صفحة، 2023)، التي يمكن اعتبارها سردية موسوعية كبرى لمدينة القدس، في مستوياتها المتعددة والمتداخلة. فهي تتخذ من التاريخ القديم والجديد للمدينة، ولفلسطين أيضاً، ومن بعض المصادر التاريخية والوثائقية، ومن الكتب السماوية الثلاثة، وكذلك من المرويات الشفهية، ومن الحكايات والمشاهدات اليومية، تتخذ منها كلها مادة قابلة للسرد الروائي، أو لنقل "الحكائي" المعاصر والحديث، لكنها ليست رواية تاريخية، بل عمل روائي يخرج على تقاليد الرواية الكلاسيكية التقليدية، بينما يقارب الروح الملحمية والتراجيدية، مع مقاربة مدهشة للفانتازيا والسحر والأسئلة، وقدر كبير من السخرية والمواقف الطريفة.

الرواية موزعة على ثلاثة أبواب، الباب الأول "سفر للحياة"، والثاني "سفر للحزن والحياة"، والثالث "سفر للبقاء والحزن والحياة"... وعدد كبير من الفصول لكل باب، ومن خلال طفل/ فتى يدعى كافل (أو ذا الكفل)، أو "المغامر الصغير"، ربما يجسد "روح" المؤلف، وهو دون السادسة عشرة من عمره، ووالده ووالدته، وصديقته لور، وعدد من الشخصيات الأساسية والثانوية، تقدم للقارئ صوراً وعوالم من تاريخ القدس وحاضرها، وصولاً إلى المحتل المستعمر الجديد/ الأخير، الذي يسعى إلى تأكيد حضوره وشرعيته من خلال البحث عما يدعي أنه جذوره التاريخية في القدس خصوصاً، وفلسطين عموماً.

لوحة فسيفساء "كوزموبوليتانية"

 

تتشكل مدينة القدس وقراها، في الرواية، من مجموعة هائلة من المعالم والتفاصيل، تفوق في تنوعها ما يمكن أن تتشكل منه أي لوحة فسيفسائية، فمن الصعوبة الإلمام حتى بالملامح الرئيسة التي يرصدها المؤلف، عبر الجولات الميدانية التي يقوم بها (كافل، الطفل الذي يحفر للمعرفة)، برفقة والده يوسف سائق سيارة النقل حيناً، أو برفقة صديقته لور حيناً آخر، أو رفقة النصوص والآثار التي تركتها الحضارات المتعاقبة التي مرت على المدينة. نصوص تتوالد بعضها من أرحام بعض، فتتفق هنا، وتتضارب وتتناقض هناك، ويظل التضارب الأعمق هو ما بين سردية يهودية بثياب صهيونية وتوراتية زائفة، وسردية عربية فلسطينية بجذور كنعانية ضاربة في أعماق التاريخ، وما قبل التاريخ، حيث "القدس مدينة نصية عليك أن تعرف كيف يسيطر عليها المسيطرون، بما يؤولون عنها من نصوص وكتابات". إننا حيال "نص عربي مقابل نصوص الغزاة". النجمة السداسية تجسد رمزاً قديماً النجمة السداسية رمز لأجدادنا الكنعانين، مثلوا به لقاء الذكر والأنثى.

وفي ثنايا هذه المدينة، تلتقي المسيحية بالإسلام ويتلاحمان، تلاحم (كافل ولور) في علاقتهما (الحب غير المعلن)، وجولاتهما وتناغمهما في سبر أغوار المدينة المقدسة لديهما معاً، كما في اعتصام نساء مسلمات ومسيحيات صائمات ضد الاحتلال، وفي حضور العم سليم (المسلم) الذي يفتح باب الكنيسة للمسيحيين، وهي وظيفة قائمة منذ عمر بن الخطاب. أو في التشابه بين معالمها الدينية، "رأيت لور تتقدمني وتتجه نحو قبة الصخرة التي تتلألأ ذهباً، وتلمع بلونها الأصفر، وهي تقول: إنها تشبه كنيسة مريم المجدلية، التي تنعكس على قبابها السبع شمس القدس...". أو في انتخاب الدكتور يعقوب زيادين الكركي المسيحي (الشيوعي) نائباً عن القدس في البرلمان الأردني، وسوى ذلك مواقف كثيرة.

 

وعلى رغم أن الرواية تبدو، في بدايتها، وكأنها ستتمركز حول قصة "السبع وشيخ شباب القرية" الذي "طربل"، أي إنه أصبح عنيناً، والذي يردد، بلا خجل، أنه "البمب مع اليهوديات، والعنين مع زوجته"... إلا أن هذا التفصيل سرعان ما يتراجع، أمام طوفان الحكايات والحوادث والذكريات، طوفان يدفع بالطفل كافل (لاحظ رمزية الاسم) الولد "الصغير طارح الأسئلة الكبيرة"، ليكون مركز العمل، المتلقي حيناً: "والدي يعلمني تاريخ القدس..."، أو أنه أحياناً هو الراوي، في محاولته البحث عن تاريخ هذه المدينة: "لا يمكن إحصاء عدد الذين مروا على القدس، من فاتحين، وغزاة، وأفاقين، ورحالة، ورجال دين، وعملاء، ومغامرين، وصعاليك، وحجاج، ومن أهل الدنيا، ومن أهل الدين، ومن الشيوخ المعممين الموظفين، ومن الصوفيين، من الكرج، والإفرنج، والروس، والأوزبكيين، والمغاربة، والأفغان، واليهود، والإسبان، واليونان، والألمان، والإنجليز، ومن الأمم كلها".

تتجلى فسيفساء المدينة، أكثر ما تتجلى، في الأنماط العمرانية المتعددة، أنماط تعكس في تعددها وتنوعها عدد الحضارات والثقافات والنبوات والديانات، التي عبرتها أو أقامت بين أسوارها، وخارج الأسوار، هذا فضلاً عن التعددية الراهنة التي تجعل منها مدينة كوزموليتانية بامتياز واضح. وما يجعل المادة التاريخية خفيفة الثقل على القارئ، هو أمر يتعلق بأسلوب السرد الروائي، سواء جاء من خلال "العاشقين الصغيرين" كافل ولور، وعبر مشاهداتهما الممتعة، أو على لسان الوالد (أبي كافل) الذي سيتكشف عن شخص مثقف، وليس مجرد سائق عربة نقل، بل مناضل وفدائي يفاجئنا بعملية شبه انتحارية، ينفذها برفقة "مريم التشادية"، ويقبض عليه ويقضي سنوات في السجن قبل أن يغادر الحياة فيه. وفضلاً عن ذلك السرد للتاريخ والقدرة على تحليله، فهو يشجع ابنه كافل على قراءة الكتب، وخصوصاً الماركسية "الحمراء" التي اشتهرت بها دار التقدم السوفياتية المعروفة.

الخيال الجامح

يبرع الكاتب في توظيف الفانتازيا، في مواقف عدة، منها حين يقدم لنا حركة تمثال الفنان المهندس صانع جماليات أحد متاحف المدينة، فنراه يتحرك من مكانه/ قاعدته الحجرية، ونسمعه يتكلم ليقدم نفسه وسيرته الفنية. تقول لور وهي تعرف كافل على المهندس "العم هاريسون هو مهندس الأبنية غير الكئيبة للاستعمار البريطاني، مثل السجون الصفراء". وتخاطب الفنان "أخبره، يا عم، أرجوك"، وفجأة "رأيت الوجه يخلع نفسه من الحائط، ويصبح له رجلان ويدان، ويقف متطاولاً بيني وبين لور، هكذا وبسرعة، وبكفاءة، وقبل أن أفيق من الصدمة، وضع يده عى شعر لور...". أو كما في مشهد تحريك تمثال الخليفة الأموي الوليد بن يزيد وجعله يتكلم "تقدم تمثال الخليفة بضعة سنتيمترات، وتنحنح وهو يتحدث" فيقول الوليد معترضاً أنه "خليفة المسلمين اللاهي كما وصفوني في الكتب المغرضة".

 

تلعب سردية الحفريات والبحث عن الآثار عن بقايا هيكل سليمان، تحت الأقصى، وغيرها من "النصوص" المساندة للرواية التوراتية، وزيف هذه الرواية، في ما يخص الوجود اليهودي في فلسطين التاريخية، دوراً أساسياً ومهماً، لكونها تأتي عبر سرد وتحليل وحوارات غنية بين سرديتين متناقضتين ومتصارعتين حد الموت، أو النصر. حوارات يخوضها شخوص الرواية من اختصاصيين وأصحاب قضية من الطرفين، فتفتح نوافذ الرواية وأبوابها على هواء جديد يساند هذه السردية، ويكاد ينفي السردية المقابلة، في جدل يبدو بلا نهاية، لأنه محكوم بالأيديولوجيا لدى الطرفين، بحسب الرواية. يقول الراوي: "قال عمي: لكل محتل روايته عن القدس". ويضيف في مكان آخر: "يا لهذه المدينة القدرية!". ويؤكد أن "المقدس يخلق أعداءه".

وبسبب استحالة، عرض السرديات الكبرى التي تعرضها الرواية، بل إن من غير المجدي أيضاً التوقف عند ذلك الحشد الهائل من التفاصيل والمعلومات التي تزخر بها، يمكن الاكتفاء ببعض أبرز ما تحتويه من مواقف ومشاهدات لافتة، بحيث لا يكتفي المؤلف بالسرد العادي، بل يلجأ إلى التصوير المشهدي المثير والجذاب، كما هو الحال في مشهد سمسار موقف السيارات، وهو يهوي بالسيف على عنق "عشيقه" الحلاق النسائي الأرمني، فيفصل رأسه عن جسده بصورة جد وحشية، وسط جمع حاشد من أهل المكان ورواده وعابريه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومما يعزز "عالمية" المدينة، استحضار المؤلف أسماء حقيقية لكتاب ومبدعين عرب وعالميين زاروها أو ذكروها، من هؤلاء السويدية سلمى لاغرلوف أول روائية - امرأة حصلت على نوبل: "وصلت سلمى لاغرلوف إلى القدس، ونزلت في فندق إمبريال في باب الخليل، وتتبعت حكايات السويديين، وكتبت عنهم ملحمة روائية في جزأين بعنوان القدس". ويستحضر الكاتب المدينة قائلاً إن "من خيارات ديستويفسكي الرحيل للقدس"، كما يذكر "قدس كازانتزاكيس" المولع بشعب التوراة، وكذلك "قدس مارك توين" الساخر من كل شعوب الكتب المقدسة وغير المقدس.

وإذ تبلغ الرواية زمن اتفاقيات أوسلو، تبدو واضحة في إدانتها هذه الاتفاقيات، وأسلوب القيادة الفلسطينية ونهجها، وفساد زعماء الفصائل، بل الممارسات الفاسدة لمنظمة التحرير وقيادتها، بل حتى في تعامل الشعب بفئاته وشرائحه مع هذه الاتفاقيات: "الشعب الذي وثقت به دائماً، واعتقدت أنه دائماً ما يتخذ القرارات الصائبة، ليس شعبي". فمع الإعلان عن الاتفاق نزلت "مواكب المركبات وهي تحمل الزهور إلى الحواجز العسكرية الإسرائيلية"، ثم تكشفت ممارسات السلطة التسلطية: "ألم تسمع كيف يعتقل عرفات الكتاب، والصحافين والأكاديميين؟".

وفي ختام الرواية، تبرز مقولة أساسية تتكرر في ثناياها، في صور وعبارات مختلفة متمثلة في القول: "لم يكن هناك مشكلات بن اليهود والعرب، بمسلميهم ومسيحييهم، قبل وصول طلائع الحركة الصهيونية"، بل تعتبر اليهود جزءاً من تاريخ المنطقة، كما يظهر في اكتشاف كنز "يعود إلى العصر البيزنطي، ويحمل بعض الرموز اليهودية، فاليهود "أصحاب الكنز، هم فلسطينيون، نعتز بهم، وما حدث لهم من آلام مفترضة هي آلامنا، التي ما زلنا نعاني منها" .

وتنتهي الرواية بالقول: "رغم هذا التنافس الدنيوي تجاه السماء، فإنه يمكن أن تتعايش الأطراف، كما حدث في قرون طويلة موغلة في القدم، ولكن الدماء تراق، عندما يتدخل مجنون، أو عاقل، محتكراً الصلة مع الله"، لكن "الكتب المقدسة، أية كتب مقدسة، لا تعطي لشعب، أي شعب، الحق في أرض شعب آخر".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة