Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكلمة رافقت الصورة في جنائزيات قدماء المصريين

حفظتْها أوراق البردي وجداريات المقابر وجسدت مدرسة فنية تتطلع الى الآخرة

جدارية فرعونية جنائزية بالرسوم والكلمات (المتحف المصري)

ملخص

يذهب الباحث في الحضارة المصرية القديمة سعيد حربي إلى أن الفنان المصري القديم كان مهتماً بترجمة وجهة النظر المصرية للعالم والكون كله (الخلق)، في عمل فني تحكمه قواعد محددة وصارمة؛ أهمها الرؤيا "غير المنظورية" للأشياء والموضوعات التي يعبر عنها.

يقول الباحث المصري سعيد حربي في مقدمة كتابه "الموضوعات الجنائزية في رسوم وجداريات مصر القديمة / 1554 ق. م – 1305 ق. م"  الصدار حديثاُ عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، إن الكتابة عند قدماء المصريين كانت درباً من الفن. ويوضح حربي أن الموضوعات الجنائزية هي تلك النصوص التي صاغها المفكرون والكهنة صياغة أدبية راقية اختصت بعالم الآخرة (ذلك العالم الغيبي المتخيَّل) وما يجري فيه من أحداث، كما في "كتاب الموتى"، مثلاً، إضافة إلى الطقوس الدينية والممارسات السحرية التي تصاحب تشييع المتوفى. وأفصحت هذه الموضوعات عن رؤية المصري القديم لآلية الكون غير المُدرَكة التي تؤكد أن الشمس بحركاتها ورحلاتها المتكررة عبر عالم الآخرة وطاقاتها الحرارية والضوئية هي التي تحرك الكون بأسره بكامل طاقاته الحيوية وتحفظ له الدوام، وخلقت معها آفاقاً رحبة مثيرة ارتفعت بروح المصري وقلبه فوق الزمان وعبره، فتميَّز برموزه وأشكاله وكائناته الواضحة منها والمبهمة.

وقد أقام الفنان، الذي عبر عن تلك النصوص رسماً ونقشاً، علاقة وثيقة بين كائنات عالم الآخرة التي صاغها بمهارته الابتكارية، وبين تأثيرات الظواهر الطبيعية التي تحدث في العالم الواقعي، ووصفَ طبيعتها ووظيفتها. وقد أشارت جداريات هذه الكتب إلى مضامين سياسية عكستْها تلك الأحداث التي تواجه الشمس عبر أعدائها الذين يسعون إلى تعطيل مسيرتها اليومية، والتي تتوازى مع تلك المؤامرات التي تواجه الملك أثناء حكمه. ويرى حربي أنّ إذا كانت أقدم العقائد المصرية تؤكد أن الكون بدأ بكلمة تفوَّه بها الإله الخالق الأعظم، فإن الكلمة كانت بداية الإنسان. فلولا الكلمات التي هي أسماء لأنواع، لما استطاع الإنسان أن يفكر في هذا "الإنسان" وهذا وذاك، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفكر في "الإنسان" عموماً، لأن العين لا ترى الإنسان العام، بل ترى أفراداً من الإنسان فحسب، ولا ترى الأنواع، بل ترى الأشياء الجزئية منها. بحسب ول. ديورانت في "قصة الحضارة".

كلمة الإنسان

غالباً ما كان الفن يفصح عن كلمة الإنسان التي لا يستطيع التاريخ أن يسطرها في سجلاته؛ لأن الفن كان غالباً تسجيلاً لما يجيش بخواطره في كل زمان ومكان. فهو كان المُتنفَس الذي يفيض عليه الفنان سرَّه وما تنطوي عليه نفسه وما يخصه من أحاسيس ومشاعر. هكذا، كانت الكتابة من العلامات التي تدل على الحضارة وتفرق بين أهل المدنية وأبناء العصور البدائية. وعندما فكَّر المصري القديم في أن يسجل أحداثه، كانت الطبيعة مصدر إلهامه، بما فيها من ظواهر طبيعية وكائنات حيَّة، وكان اتخاذه لبعض صورها للتعبير بها عن معانٍ لا يريد التعبير عنها، كما كانت تستخدم للتعبير عن هذه الكائنات نفسها. ولم تكن تلك الصور أو العلامات – يقول حربي - كافية لاتخاذها أبجدية للغته الخاصة، فزاد عليها وطوَّرها لتحقيق أفضل صورة ممكنة للتكامل اللغوي والكتابي؛ بحسب ما أورده عبد الحليم نور الدين في كتابه "اللغة المصرية القديمة" الصادر عام 1998. وبالنسبة إلى الكتب الجنائزية، وما ارتبط بها من رسوم وجداريات، فإن الغرض منها هو تزويد الميت بوصف مفصَّل لعالم ما وراء الموت، وهو ذلك العالم الذي تَعبُره مركب إله الشمس أثناء رحلتها من غروب الشمس وحتى شروقها في صباح يوم جديد.

وكانت الرؤى والتصورات التي تشكل متون تلك الكتب، بمثابة الينابيع التي تتدفق منها طاقات وقدرات الفنان المصري القديم لخلق عالم خيالي غير محدود؛ للتعبير عن هذه الرؤى والتصورات، وإيجاد حلول تشكيلية متوافقة مع نصوص تلك الكتب والطقوس والممارسات السحرية المختلفة باستخدام الرموز التصويرية أو الرموز المركَّبة لإيجاد تفسيرات وشروح لهذه النصوص وما يكتنفها من غموض. وهذا العالم الخيالي تتوافق الأحداث التي تجري فيه مع العالم الواقعي (الحقيقي)؛ أي أنه يعد انعكاساً له، وتعمل الآلهة على آلية الحفاظ على هذا الكون واستمراره بالدفاع عن إله الشمس من أعدائه المتربصين له في العالم السفلي من خلال رحلته الليلية التي طرحت صورها تلك الكتب الجنائزية والتي اقترنت نصوصها بالرسوم والأشكال التي صاغها الفنان على أوراق البردي وعلى جدران المقابر.

أداء مُحْكم

يخلص سعيد حربي إلى أن هذا الأداء المُحكَم في تفسيرات الفنان في حد ذاته، يعد إحياءً لفن هذا الزمان، وإبرازاً لدوره من الناحية الوظيفية؛ لأنه حقَّق الوحدة بين الكلمة المكتوبة والصورة المصاحبة. وهو أيضاً يعد اتصالاً حقيقياً يعمل في صميم خبرات الآخرين من المفكرين والكهنة، ويؤكد سعي الفنان الدائم إلى نقل رسالته (أي تفسيراته) إلى الآخرين. وهذا يعني – كما يقول حربي – أن الفن كان الوسيط المهم والسهل للنقل المباشر لكل التعاليم والأفكار والمعتقدات الدينية التي يطرحها المفكرون والكهنة إلى عامة الشعب، إضافة إلى أن تأثير هذا الفن كان يدوم في نفوس المصريين وقتاً طويلاً. ويعني هذا أيضاً أن الفن المصري استطاع أن يخلد معتقدات وعادات وتقاليد شعبه، من خلال تلك الطقوس والممارسات السحرية والأساطير التي كانت تجمع بين الأحياء والأموات في وحدة مشتركة. كما كان من أهم وظائف هذا الفن في هذه الفترة أنه كان يعد الوسيلة الفعالة في ترابط المجتمع وتماسكه وترسيخ العقيدة في نفوس أبنائه. وعكست رسوم وجداريات مقابر هذه الحقبة الزمنية أيضاً أنه ليس من الضروري لكي يكون الفن تراكمياً أن تكون منتجاته ذات تراكيب معقَّدة، فربما تآلف التراكم من المهارة والخبرة والمعرفة النامية في عقول كل من الفنان المصري وعامة الشعب. وربما تركَّزت التراكمية - وفق تصور حربي - في المعرفة بما ينبغي حذفه أو تجنبه، وما هو غير ضروري وزائد عن الحاجة من وجهة النظر الوظيفية أو الجمالية أو كليهما معاً. ولاحظ حربي في خاتمة دراسته أنه قد يكون الحذف مهماً قدر أهمية الإضافة؛ "مثلما نرى في تلك الأشكال والرموز المفسرة لتلك الكتب الجنائزية الملكية" ص 270.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتألف الكتاب (406 صفحات) من مقدمة وتمهيد، وثلاثة أبواب وخاتمة وملحقاً للصور والأشكال، وأسماء أهم الآلهة واختصاصاتها، وأهم النصوص والكتب الجنائزية. وتناول الباب الأول (ثلاثة فصول) موضوع الرسوم  والجداريات في الكتب الجنائزية الملكية في الدولة الحديثة، وتناول الباب الثاني (ثلاثة فصول) الرسوم والجداريات في الموضوعات الجنائزية السحرية والطقوس. أما الباب الثالث ( ثلاثة فصول) فتمحور حول الرسوم والجداريات في الموضوعات الجنائزية للأفراد في الدولة الحديثة. وفي هذا السياق رأى حربي أن الفن المصري في مجمله كان استجابة خلَّاقة لحقيقة الموت. فقد سيطرت على المصريين الرغبة في إنتاج آثار وأشياء في الحياة الدنيا يمكن أن تستمر فائدتها في مملكة الموتى. فمواد التجميل مثلاً المصنوعة من ألواح الأردواز على أشكال مثل الأسماك والسلاحف وغيرها التي ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ أصبحت فيما بعد رموزاً للتجدد، كأن المقصود منها أن تعيد حيوية الشباب إلى الموتى، وذلك يتوافق مع اعتقاد المصري القديم بأن "الموت هو مجرد مقدمة للبعث في العالم الآخر" ص .16  

ولاحظ حربي أيضاً أن عمليات الحذف والإضافة تتم من خلال استخدام الرموز والأشكال المركَّبة، التي تمثل أهم صور الغموض في الرسوم والجداريات في الموضوعات الجنائزية، فكثيراً ما حملت تلك الرموز المركَّبة معاني ومضامين تفسر أشد الأفكار العقائدية غموضاً. ولأن الفن المصري – يقول حربي – كان يسعى دائماً إلى الأبدية في عالم الآخرة؛ انتظاراً للحظة التي يمارس فيها دوره الإرشادي والسحري عند الحاجة إليه، فقد كان متوافقاً مع طبيعة هذا الفكر العقائدي وملبياً لرغبات الملوك والأفراد في قهر الموت وبلوغ الحياة السرمدية الهانئة في عالم الآخرة.          

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة