Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ديكارت رائد الفلسفة الكلاسيكية استهل الأزمنة الحديثة

أطلق مقولة "انا أفكر إذاً أنا موجود" وبحث عن الحقيقة انطلاقاً من الذات ومما يراه نوراً طبيعياً فطرياً

الفيلسوف ديكارت صاحب مقولة "أنا أفكر إذاً أنا موجود" (موقع "فلاسفة فرنسيون")

ملخص

من المتفق عليه أن الفلسفة الحديثة ابتدأت مع الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650). وعرف ديكارت بأنه أبو الفلسفة الحديثة، وهو القائل: "أنا أفكر إذاً أنا موجود". كان ديكارت بمنزلة قنبلة موقوتة انفجرت مع سبينوزا الذي وسع من مجالات العقلانية الكلاسيكية. من هنا أهمية ديكارت.

أراد الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن يفكر بمفرده من دون وصاية أحد. بحث عن الحقيقة وسعى إلى اليقين التام، لكن انطلاقاً من ذاته، أي مما يراه نوراً طبيعياً فطرياً، موجوداً بالتساوي في فطرة كل واحد منا، فأنشأ بذلك فلسفةً كليةً يونيڤرساليةً للجميع، فلسفةً تتوجه إلى كل إنسان بما هو إنسان عاقل. لقد اكتشف حقل الذاتية في الفلسفة وطرح مشكلةً فلسفيةً جديدةً تتلخص بالسؤال الآتي: كيف يمكن ما هو ذاتي أن يقوم ما هو موضوعي؟ ابتكر الأفاهيم المناسبة، لا سيما الكوجيتو، أفهومه الرئيس الأول. كذلك رسم شخصيةً أفهوميةً فريدةً هي شخصية الأبله، وهو ذلك الشخص الفريد الذي يفكر بمفرده ضد عموميات زمانه من دون وصاية أحد، إذ يؤمن بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة حتى من دون المرور برجال الدين ورجال العِلم. بذلك رسم ديكارت فضاءً فكرياً جديداً، ليس فضاءَ القرون الوسيطة الفكري الذي عالج مشكلة العلاقة بين العقل والنقل، مشكلة العلاقة بين الحكمة والشريعة، بل الفضاء الفكري الذي انتسبت إليه العصور الحديثة، وقد أحدثت قطيعتها الشهيرة عن القرون الوسيطة. أجاب بطريقة مختلفة عن سؤال: ماذا يعني أن نفكر؟ فغير في ما يَعنيه الفكر والتفكير، وخلق بذلك مشهداً فكرياً جديداً، إذ لم نعد نفكر بعد ديكارت كما كنا نفكر قبله.

ببساطة لأنه لم يستطع التخلي عن الله بما هو مرجعية تؤسس الموضوعية والعِلم حتى الأخلاق والسياسة. فالإنسان بما هو نسبي ومتناه كان يرتبط دائماً في القرون الوسيطة بالله بما هو مطلق ولامتناه. وهذا ما بقي في وجه من الوجوه عند ديكارت، بحيث ما برح الله ضمانةً لإثبات وجود الأشياء والجسم.

ومن ثم، عرف ديكارت، فيلسوف فرنسا الأول، بأنه أبو الفلسفة الحديثة. وهو القائل: "أنا أفكر إذاً أنا أكون"، أي ما يعرف في تاريخ الفلسفة بالكوجيتو الديكارتي أو "الأنا أفكر". يمكن التعبير عنه بصيغ كثيرة كأن نقول: "أفكر، إذاً أكون"ـ أو "أفكر فإني" بحسب الأب فريد جبر اللبناني، أو "أفكر فأنوجد". هذا الكوجيتو كان بمنزلة حدس أولي ولم يكن نتيجة استدلال منطقي لأن ديكارت عندما طرحه لم يكن يؤمن بعد بالمنطق وبراهينه وطرق استدلاله. وعليه، لا يمكن ديكارت أن يعرف الإنسان بغير هذا الكوجيتو، كأن يقول مثلاً: إنه حيوان عاقل كما عرفه أرسطو، إذ إن هذا القول يفترض الإيمان بالمنطق والاعتراف بأفهومَي "الحيوان" و"العاقل". وهذا ما لا يناسب ديكارت الذي ينطلق من الخانة "الفارغة" تماماً، فيكون الكوجيتو الأفهومَ الأول في فلسفته. صيغة الكوجيتو الكاملة هي: "أنا أشك، أنا الذي أشك أفكر، إذاً أنا أكون، أي أنا أكون شيئاً يفكر."

مسلمة الفلسفة الحديثة

أراد ديكارت أن يصل إلى اليقين الذاتي التام، ولكن ليس مما يأتيه عن طريق الحواس، مع أنه ليس شكاكاً فيه، ولا مما تقوله الكتب المنزلة مع أنه يؤمن بها، ولا مما يعترف به ويؤكده علماء عصره الطبيعيون ولاهوتيوه وهو العالِم الكبير، ولا مما ورثه من أعراف وتقاليدَ بحكم البيئة والتربية، بل انطلاقاً مما يجده في داخله من نور فطري، من نور طبيعي، من نور عقلي موجود بالضرورة وبالتساوي في كل واحد منا، وذلك بالاستناد الى مسلمة الفلسفة الحديثة التي استهل بها كتابه "مقالة الطريقة": "العقل (الحس السليم) أعدل الأشياء قسمةً بين الناس". هذه ثقة كبيرة بنور العقل، بالعقل البشري وبقدرته على الوصول إلى الحقيقة من دون المرور حتى برجال الدين والكتب المقدسة. وهذا ما نفتقده في مجتمعاتنا العربية حتى اليوم. ومن ثم، فإن لدى كل إنسان ما يكفي من العقل للوصول إلى الحقيقة من دون الحاجة إلى وصاية أحد.

الشك المنهجي     

بناءً عليه، اصطنع ديكارت منهج الشك، لكن ليس لعدم إيمانه بعلوم عصره، وكان عالِماً كبيراً في الرياضيات والبصريات، أو لتجاهله ما يأتيه عن طريق الحواس، وهو الذي مارس حياته بشكل طبيعي فلم يشك على طريقة الشكاكين الإغريق، أو لعدم تصديقه بما تقوله الكتب السماوية، وهو المؤمن بالكتاب المقدس، بل لأن هذا كله يحتمل الشك، ولو بنسبة ضئيلة، في حين أن ما يبحث عنه ديكارت هو اليقين المطلق الذي لا يزعزعه أدنى شك. من هنا عرف شكه بالشك المنهجي الموقت الذي يصطنعه الفيلسوف ابتداءً ريثما يصل إلى الحقيقة.

ما المسألة اليقينية الصلبة التي لا يزعزعها أي شك؟ وجدها ديكارت في الشك نفسه، أي في كونه يشك. ذلك بأنه، مهما شك في كل شيء، لا يمكنه أن يشك في أنه يشك. ومهما بالغ في شكه بافتراضه شيطاناً ماكراً يخدعه، فإنه يزداد يقيناً بأنه يشك. والشك، في نظره، يعني التفكير، والتفكير يعني الوجود أو الكون (الكينونة). يؤلف ما سبق مجموعةً من المسلمات الضمنية والمفترضات القبل-أفهومية والقبل-فلسفية في بنيان ديكارت الفلسفي. جدير بالذكر أن كل فلسفة تتضمن مفترضات قبل-فلسفية، قبل-أفهومية، صريحةً أو ضمنية.

الضمانة الإلهية

بناءً عليه، استطاع ديكارت إثبات وجود نفسه من حيث هي جوهر لا يقبل القسمة والانشطار، ماهيتها التفكير أو الفكر. توصل إلى ذلك بالبداهة. والبديهي عند ديكارت كل فكرة واضحة ومتميزة. لكن هل يوجد في داخلي فكرة أخرى بديهية، أي واضحة ومتميزة؟ أجل توجد! وهي فكرة الله، أي فكرة الكائن الكامل، المطلق الكمال، الكائن الأسمى الذي لا يعتريه أي نقص. بما أن نفسي ناقصة، فليس بإمكانها، في نظر ديكارت، أن تخلق في هذه الفكرة عن الكمال المطلق. وبما أن الوجودَ من صفاتِ الكمالِ المطلقِ، فهذا يثبت أن الله موجود. هذا ما يعرف عند ديكارت بالدليل الأنطولوجي لإثبات وجود الله، أي الدليل الذي ينطلق من فكرة الكائن المطلق ليثبت وجود الكائن المطلق هذا. بفضل إثبات وجود الله، تنتفي فرضية الشيطان الماكر المخادع الشرير الذي يريني الأشياء على غير ما هي عليه. حتى الحقائق الرياضية من قبيل 2+2=4، قد تكون غير صحيحة بافتراض وجود هذا الشيطان الماكر الذي يخدعني ويزين لي الحقائق ويزيفها. وعليه، فإن ما لدي من ميْل شديد إلى افتراض وجودِ جسمي ووجود الأشياءِ الخارجية مَيل صحيح، بوجود الضمانة الإلهية، أي بوجود الله الذي لا يخدع. فالله لا يخدعني ولا يدع شيطاناً شريراً يخدعني ويجعلني أشعر بميل شديد تجاه وجود أشياء هي مع ذلك غير موجودة. تلك هي ثنائية ديكارت الحادة التي تقول بوجود جوهرَين متمايزَين أشد التمايز: النفس بما هي جوهر فكري غير ممتد لا يقبل القسمة والانشطار، والجسد بما هو جوهر مادي ممتد يقبل القسمة والانشطار.

هكذا أثبت ديكارت وجود نفسه أولاً، ومن ثم أثبت بالدليل الأنطولوجي وجودَ الله. وبضمانة الله أثبت وجود الأشياء الخارجية ووجود الجسد من حيث هو جوهر متمايز من النفس. فلكي أقول بحسب أنظومة ديكارت الفلسفية: "هذا قلم"، لا بد لي من الإقرار بوجود الله والمرور به، وإلا لا يمكنني أن أنفيَ أن يكون قولي هذا مجرد وهم يزينه لي شيطان ماكر يخدعني أو يكون مجرد حلم أحلم به.

إذاً، طرح ديكارت مشكلةً جديدةً في الفلسفة تتلخص بالسؤال الآتي: كيف يمكن ما هو ذاتي أن يقوم ما هو موضوعي؟ وبعبارة أخرى: كيف لي أن أصل إلى الحقيقة واليقين التام انطلاقاً من النور الطبيعي الموجود في؟ هذا ما يعرف في تاريخ الفلسفة بفلسفة الذات التي بلغت إحدى قممها الشامخة مع كنط الذي استغنى تماماً عن الضمانة الإلهية لإثبات الموضوعية وتأسيس العِلم عندما نقد العقلَ المحض وتكلم على بنية الذهن القبلية المجاوِزة، ومن ثم مع هوسرل الذي قال بالوعي القصدي ورفض ثنائية ديكارت الحادة، كما استغنى أيضاً عن الضمانة المِتافيزيائية أو الإلهية.

أصالة الكوجيتو الديكارتي

قد يقول قائل إن أوغسطينس وابن سينا والغزالي سبقوا ديكارت في اختراع الكوجيتو وإثبات وجود النفس بخاصية أنها تفكر وإثبات أهمية الشك في الوصول إلى الحقيقة. لكن هذا القول لا ينتبه إلى المشكلة الجديدة التي ابتدعها ديكارت، وإلى السؤال الفلسفي الجديد الذي طرحه، وإلى الحقل الجديد الذي اكتشفه، وإلى الأفق الفكري الجديد الذي عمل فيه، وإلى مكونات الكوجيتو الديكارتي التي سمحت بتبلوره، وإلى المفترضات القبل-فلسفية التي استند إليها الكوجيتو، وإلى الشخصية الفلسفية القلِقة التي تطرح المشكلة وتكتشف الحقل وتستنبِت الأفاهيم المناسبة، وإلى ارتباط الكوجيتو بأفاهيم أخرى تستند إلى الحقل ذاته وتجيب عن المشكلة ذاتها. هذا ما علينا أن نأخذه بالحسبان عندما نقارن بين ديكارت وسابقيه من الفلاسفة. عندئذ نكتشف أن ديكارت تفرد ببنائه الفلسفي، مع أنه اطلع على فلسفات سابقيه واستثمر بعض مناراتهم المضيئة فعدلها وحورها في بنائه الفلسفي الجديد. هكذا يختلف شك ديكارت المنهجي عن شك الغزالي في "المنقذ من الضلال".

بناءً على مجموع العناصر هذه، أي الحقل الفلسفي والمشكلة الفلسفية والمفترضات القبل-فلسفية والشخصية القلِقة التي تتساءل وتبتكِر الأفاهيم، يمكن تقويم العمارة الفلسفية الديكارتية. لذلك لا معنى للقول إن ديكارت أخطأ أو أصاب. نعم بإمكاننا القول إن ديكارت أحسن طرح المشكلة أو لم يحسن طرحها أو حتى كان بإمكانه أن يطرح مشكلةً أخرى مكانها. وبإمكاننا القول أيضاً إن ديكارت خان منطلقاته فبقي لاهوتياً مستنيراً. كما بإمكاننا القول ثالثاً إنه قال قولاً بارزاً أو لافتاً أو هاماً أو مثيراً الانتباهَ أو لم يقل. ويمكننا القول رابعاً إن ديكارت غير في المشهد الفكري وجعلنا نفكر بطريقة مختلفة أو لم يغير. وأخيراً بالإمكان القول إن ديكارت اخترع الأفاهيم المناسبة لفلسفته أو لم يخترع. أما محاكمة ديكارت وفقاً لمعيارَي الصواب والخطأ، فلا معنى لها في الفلسفة. وعليه، من السذاجة ما يفعله بعض المتفلسفين من محاكمة ديكارت والقول إنه أخطأ هنا أو أصاب هناك، أو إنه سرق الكوجيتو من هذا الفيلسوف أو ذاك. فهذا يدل على أنا لم نفقه بعد معنى الفلسفة، وعلى أنا نقوم القول الفلسفي الديكارتي بطريقة لا علاقة لها بالفلسفة لا من قريب ولا من بعيد، أي بطريقة غير فلسفية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في نظري لا بد للفيلسوف من أن يتابع، بالحد الأدنى على الأقل، ما يجري في العلوم والفنون والحياة العامة. وعليه أن يطلع قدرَ المستطاع على تاريخ الفلسفة لكي لا يكرر ما قاله سابقوه، ولكي يوظف بعض ما قالوه مِما يراه مناسباً وجهةَ نظره الفلسفية الجديدة في إعادة إنتاج قول فلسفي جديد يلائم ما استجد من مشكلات فكرية وتحولات وفتوحات علمية واتجاهات فنية. لكن ما يوظفه الفيلسوف يخضع للتعديل والتحويل والتحوير حتى ينسجم مع المشهد الفكري الجديد الذي يرسمه. وهذا ما حدث مع ديكارت. بناءً على ما سبق، نقول إن جميع العَمَارات الفلسفية تتقوض وتنهار. ومع ذلك، يبقى فيها شيء خالد يتجلى في طريقة الفيلسوف في التفكير، وتبقى الأفاهيم التي اخترعها تحمل بصمته وتوقيعه. ما تقوض وانهار يتحول في جزء أساسي منه إلى أنقاض أو إلى معالمَ مضيئة تنتظر مَن يلتفت إليها من الفلاسفة ويتَلَفت عنها ليحسن استخدامها في بناء فلسفي جديد يناسب العصر.

هكذا كانت حال ديكارت بابتداعه مشكلتَه الفلسفية الخاصة، فتمايز من فلاسفة القرون الوسيطة الذين انشغلوا بمشكلة العلاقة بين العقل والنقل، وقد استمرت قرابة ألف عام تقريباً، فساهم في صنع فضاء فكري جديد. بشخصيته القلقة الباحثة عن اليقين، حاول الوصول إلى اليقين انطلاقاً من ذاته، وبالاستناد إلى نور العقل وحده. فهل نحن مستعدون يوماً لنعيد التفكير في كل ما لدينا من آراء ومعتقدات ومسلمات، فنسائلها هل تقف على أرض صلبة أم لا؟ هل أسست تأسيساً جيداً أم إنها مجرد آراء ومعتقدات نراها متماسكةً وجيدةً فقط بحكم التربية والبيئة التي نعيش فيها، في حين أنها لا تتمتع بأساس متين صلب؟ هل لنا أن نشك يوماً، ولو موقتاً، وبنسبة ضئيلة، في ما لدينا من موروثات؟ هل لدينا الجرأة الكافية لنفكر بأنفسنا من دون وصاية أحد؟

​ومع ذلك، يبقى ديكارت مشدوداً إلى فضاء القرون الوسيطة الفكري لأن عَمَارته الفلسفية لم تستطع الاستغناء عن الضمانة الإلهية أو المِتافيزيائية في تأسيسه العلمَ والموضوعيةَ وإثبات وجود الأشياء الخارجيةَ والجسد حتى تأسيس الأخلاق والسياسة. لذلك قلنا إن ديكارت مجرد لاهوتي مستنير، وإن الحداثة ابتدأت فعلياً مع فيلسوف الحداثة بامتياز، عنيْت به كنط الذي تكلم على البنية القبلية المجاوِزة واستغنى كلياً عن الله أو الضمانة الإلهية في العقل النظري. أما في العقل العملي، فكان الله مجرد مسلمة من مسلمات العقل العملي. جدير بالذكر أن الحداثة بلغت إحدى قِمَمِها الشامخة أيضاً مع هوسرل الذي تكلم على بنية الوعي القصدية وعلى الأنا المحض المطلق. ورغم أن هوسرل بنى على ديكارت، إلا أنه رفض المضمونَ النظري الديكارتي برمتِه، ذلك المضمون الذي لا ينسجم، في نظر هوسرل، مع المنطلقاتِ التي انطلق منها ديكارت نفسه. فهذا الأخير، بعدما اكتشف حقلَ الذاتيةِ في الفلسفة من خلال الكوجيتو، من خلال الأنا أفكر، عاد وخان هذا المنطلق باستعانَتِه بالضمانة الإلهية من أجل إثبات وجود العالم الخارجي، أي من أجل إثباتِ موضوعيةِ المعرفة وتأسيسِ العِلْم تأسيساً يستند الى أساسات مطلقة لا تتزعزع ولا يرقى اليها الشك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة