Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الطاهر لبيب يبحث عن خبر "إنّ" بين بيروت وتونس

سيرة ذاتية مشرعة على مسار مدينة وشارع في زمن فقدان المعنى العربي

مقهى في شارع الحمرا بيروت بريشة أمين الباشا (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

سيرة ذاتية مشرعة على مسار مدينة وشارع في زمن فقدان المعنى العربي

لا يعمد عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب عن إخفاء شخصه بصفته كاتباً وراء قناع الراوي في رواية "البحث عن خبر إن" الصادرة حديثاً عن دار محمد علي الحامي و دار منتدى المعارف، بل هو يجاهر بهويتيه اللتين تندمجان واحدتهما بالأخرى في لعبة السرد الذاتي، أو "الأوتوفيكسيون" الذي ينتمي في آنٍ واحدٍ إلى عالم السيرة الذاتية والرواية. الكاتب والراوي هنا واحد، لكن الكاتب الذي هو عالم الاجتماع والباحث والمترجم، يسمح للراوي بأن يؤدي دوره على خير وجه، سامحاً لنفسه أيضاً بالاستسلام للعبة والوقوع في فخها المغري، موظفاً ثقافته وعينه "السوسيولوجية" ومعرفيته، في خدمة الراوي أو فن السرد، حتى لتفي هذه الرواية السير – ذاتية الشروط التقنية الصرف في التقطيع السردي والبناء المتوازي (سينكرونيزاسيون) وتوزيع الشخصيات وربط علاقاتها بعضها ببعض، عطفاً على فن الوصف ورسم البورتريهات والتفنن اللغوي.

ولعل أبرز ما تنفرد به هذه السيرة الروائية (يقول الكاتب إن أصدق السيرة في ما لا يقال) هو كشفها عن لعبة السرد وإبراز أسرارها علانية، بل هي تبلغ هذا التفرد في جعل الراوي إياها، رواية تكتب في وقت السرد نفسه، فالكاتب يكتب بينما هو يجمع ويصوغ ما كان "دون" من أوراق أو قصاصات (يسميها جذاذات)، ويسمح لنفسه بأن يشك في المادة نفسها وفي مقدرتها على الاكتمال سردياً، بل إنه يدخل الشخصية الرئيسة، وهي هنا المرأة الحبيبة، في اللعبة، فتناقشه في ما يكتب عنها، وفي ما إذا كانت صورتها كشخصية، حقيقية أم مركبة. وليس هذا الأمر إلا تمرساً في فن السرد داخل السرد، الذي تجلى في أعمال روائيين كثر مثل أندريه مالرو إيتالو كالفينو وميشال بوتور وبول أوستر، وسواهم.

وهو ما يسمى في النقد "ميزأون أبيم" أو الميتا سرد. وقد اعتمد الكاتب لعبة التقطيع الكرونولوجي والسردي، وحتى المشهدي، ليبني هذه السيرة الذاتية المشذرة أصلاً، زمنياً ومكانياً وذاتياً وموضوعياً، من غير أن يكتفي بما يسمى "الفلاش باك" القائم على القطع والاسترجاع، بل تخطاه نحو توزيع الأفكار ولحمها بالتتالي، بغية أن تتنامى لتصل إلى هدف غير معلن.

الشارع والهمزة المحذوفة

 

يفاجئ كاتب السيرة الذاتية أو راويها، وهي أيضاً سيرة بيروت، أو لنقل شارع الحمرا الذي "حذفت همزته"، القارئ بمفتتح غير متوقع، هو مشاركته في ندوة تقام عام 2011 في فندق بيروتي عنوانها "العرب إلى أين؟" بحضور أربعين باحثاً يبلغون الـسبعين بمعظمهم لا امرأة واحدة بينهم. وقد اكتشف الراوي في القاعة التي تشبه "برميلاً ضخماً صدئاً" أطول جملة غير مكتملة، عبر الخطاب الذي يلقيه "الخطيب" الأول في الندوة، الذي "يبقبق شيء بين جسده وكلامه"، والذي "لا يقول شيئاً"، بل يؤكد سهولة قول اللاشيء في زمن عربي يفتقد المعنى ويغرق في اللامعنى.

ولعل الفراغ الذي يملأ خطاب "الخطيب" يدفع الراوي إلى سده بمقاطع أو "ومضات" من ذكرياته وتخيلاته، لم تأت متتالية، بل "متشابكة ومتزاحمة"، كما يقول. وليس السعي هذا هنا إلا مضياً في لعبة الكتابة نفسها. يجعل الراوي من "ثقوب" الخطاب وقفات في خط السرد المتقطع، فينتقل عبرها إلى مرويات وأحداث تشكل متن السيرة الذاتية التي تغدو سيرة شارع الحمرا، وما يتفرع عنه من "أحياء" وتفاصيل وأشخاص ووقائع، طوال عشرة أعوام، قضاها في الشارع، وبعضها في ما يسميه "مثلث الحمرا" المتساوي الأضلاع تقريباً، كما يقول، ورؤوسه هي مقهى" ليناس" و" سيتي كافيه" و"الهورس شو"، المقهى التاريخي الشهير في الستينيات والسبعينيات، والذي ظل يسميه باسمه القديم على رغم تبدل أسمائه من "روسا" إلى "كوستا"، لكن أضلاع المثلث هذا، لن تنثني عن الارتخاء شيئاً فشيئاً، حتى التفكك. ويقصد الكاتب هنا أن المثلث تحركت حدوده فانفتح واتسع، وفيه منذ الشهر الأول صادف "ناساً ومشاهد وكلاماً وروائح وضجيجاً".

 

لعل اللمحة الأولى التي خطرت في بال الراوي الهارب من جعجعة "الخطيب"، والتي يعود إليها، حيناً تلو آخر بصفتها منطلق السرد والحافز الخارجي والفسحة الفارغة من المعنى، تتمثل في أعوام طفولته الأولى في القرية البعيدة، أو أرض النشأة والتنقل شبه الدائم، بعيداً من "شؤم الرماد" الذي كان يتراكم بالقرب من الخيمة - المنزل، فيدفع الأسرة إلى الانتقال إلى أرض أشد نظافة. كان البيت نفسه يرافق الاسرة، يفككونه وينقلون أجزاءه ويعيدون تركيبها، مما جعل مسقط الرأس شبه مجهول في تلك الأرض الشاسعة. ذاك حتى بات للأسرة بيت من حجارة، سقفه من أغصان شجر وسعف نخيل وطين، هذا البيت عندما عاد الراوي إلى تلك الأرض بعد أعوام، لم يجد سوى ركام حجارته، وبقايا ذكرياته، مثل موت الام في يوم حار، وغضب الجدة، الشخصية التراجيدية، والتمرة التي ظل مرة يخزنها في فمه ويمضغها نصف ساعة متلذذاً بها.

استعاد أيضاً مسربي الجنوب والشمال، الأول يؤدي إلى الأقارب مشياً نحو ساعة تحت الشمس، والثاني يؤدي إلى "وجاهة الكلام" كما يقول، حيث كان يقرأ في بيت الرجل الوجيه سورة الرحمن أمام الحاضرين. وفي "الهناك" يتذكر الحافلة التي تمثل دلالة أخرى على حال التنقل، وكانت تنتقل به بين هذه القرية البعيدة وبين المدينة الأبعد، بعد أن التحق بمدرسة وبمأوى خيري، تضم غرفة النوم الحقيرة فيه 20 طفلاً يرقدون على حصائر، لكن الراوي يصف لحظة انتظار الحافلة، بـ"اللحظة المؤسسة".

الطفولة الغريبة

قد يخال القارئ أن هذه الطفولة غير المستقرة ضرب من التخييل، خصوصاً أن المؤلف سلك في سبيل العلم حتى أصبح شخصية معروفة في عالم السوسيولوجيا والكتابة والترجمة. كان في إمكان الطاهر لبيب أن يطيل كتابته الجميلة عن هذه الطفولة الغريبة، بجوها وعناصرها، والمفاجئة بخلفيتها المكانية والزمنية والبشرية، حتى ليمكنه إخراج كتاب منها، يكون بمثابة سيرة طفولة وفتوة، متفردة، بين السير المعروفة. فمن كان يتوقع أن يعيش هذا الأكاديمي المثقف مثل هذا النشأة الطفولية شبه البدوية؟

 

ينتقل الراوي في جريرة استعادة الذكريات أو "هوامات الإيتوبيا الكريمة"، مجتازاً زمناً كاملاً، ببؤسه وقسوته، إلى البيت في العاصمة تونس، إلى مكتبته، هو الأكاديمي وعالم السوسيولوجيا والكاتب، المكتبة التي لا تخلو من بعض فوضى، ومنها راح ينتقي مؤونة السفر إلى بيروت، مثل "إمبراطورية العلامات" لرولان بارت، و"المدن اللامرئية" لإيتالو كالفينو، و"تقرير إلى غريكو" لكازنتزاكيس، و"الإمتاع والمؤانسة" للتوحيدي و"المواقف" للنفري، و"حدث أبو هريرة قال" للمسعدي وديوان المتنبي وكتاب محمود درويش "ذاكرة للنسيان"، وهو الأكثر بيروتية بين كتبه.

ولكن قبل الرحيل إلى بيروت لتسلم وظيفة معرفية ذات بعد عربي، كان لا بد من إلقاء نظرة على تونس، سيلقيها لاحقاً، بين عودة وأخرى: تونس وسط العاصمة، شارع محمد الخامس، مبنى الحزب، صور الرئيس، الإعلانات، المقاهي... وهناك الشاعر الصديق المعروف في تونس والعالم العربي والذي يظل بلا اسم، مثله مثل شاعر شارع الحمرا، "صاحب الشعر الأشهب" الذي تركه غفلاً أيضاً، مع وصفه كاملاً وإيراد بعض أحاديثهما معاً. وفي الحوار عشية السفر، مع الشاعر التونسي الصديق حول الظروف الراهنة والشعر والكتابة يقول له: "ستكتب رواية في بيروت إن انتظرتك امرأة فيها".

مدينة الغرباء

مع قدومه إلى بيروت يبدأ زمن آخر في السيرة السردية، هو زمن المدينة التي تتيح لنا عينا الكاتب التونسي، إعادة قراءة ملامحها ورموزها أو علاماتها، كما لم نقرأها من قبل، أو ان نقرأ ما لم ننتبه إليه، تبعاً لاعتيادنا إياه مشهدياً وعاطفياً. هنا بيروت الطاهر لبيب، مثلما يقال عن باريس، هذه باريس همنغواي أو ريلكه أو زفايغ أو أوسكار وايلد... بيروت نفسها حتماً، ولكن من خلال انطباعات وملاحظات، شخصية، "غريبة" في معنى الغربة البيروتية التي نادراً ما يشعر الغريب فيها بالغربة، والتي أسهم بعض الغرباء في صنع مجدها. وفي هذا الشأن يتحدث الراوي مع صحافي من الجيل السابق أو القديم، يساري يؤيد القضية الفلسطينية، أصابه الإحباط بعد خروج الفلسطينيين من لبنان غداة الاجتياح الإسرائيلي 1982. ويقول في هذا الصدد: "لم يخرج الفلسطينيون من بيروت وحدهم. غادرها الكثيرون من غربائها، بعد أن أجادوا القول أو أشعلوه فيها".

وفعلاً كان الكتاب الفلسطينيون والكتاب العرب المناصرون لهم والملتزمون القضية، خلقوا خلال الحرب الأهلية وما قبلها، حركة أدبية وشعرية مهمة شاركت فيها أسماء كبيرة، وبعضها انطلق من بيروت. وعندما يجد نفسه في شارع جان دارك متجهاً إلى شارع الخالدي يتذكر الشاعر خليل حاوي الذي انتحر عشية الاجتياح الإسرائيلي في منزله في الشارع نفسه الذي يحسن له أن يصر على تسميته شارع خليل حاوي. وهذه التفاتة مهمة، فشاعر "نهر الرماد" يستحق فعلاً أن يسمى هذا الشارع باسمه. ويعترف بأن بيروت لا تكف عن إغراء الغرباء للكتابة عنها. وهنا لا تحصى فعلاً الروايات والقصائد والمسرحيات والنصوص التي كتبها عنها عرب وأجانب. حتى الكاتب – الراوي يعترف بأنه بصفته غريباً يملك "ترف ألا يرى في بيروت إلا ما يحب أن يرى"، وأن يتغاضى عن المشكلات التي ترهق بيروت ولبنان وأهله، وهي مدار الحديث في المقاهي: الكساد، الغلاء، البطالة، الفساد، الطائفية، المحاصصة، الزعامات.

 

ولعل المرة الوحيدة التي شعر بغربته في بيروت خلال حرب يوليو (تموز) 2006 عندما سأله أحدهم عن عدم مغادرته المدينة المحاصرة، والتي تتعرض للقصف الوحشي الإسرائيلي، خصوصاً في الضاحية الجنوبية، فقال في نفسه: "تنبهت إلى غربتي. أربكني أن يضيع مني مبرر بقائي في بيروت". وكان يود أن يعيش تجربة الحصار، متصوراً الحصار "حالة قصوى من حميمية التعلق بالمكان"، ثم اضطر إلى السفر عبر دمشق. ولا يتوانى عن المجاهرة بأنه ما إن يغادر بيروت حتى يشتاق إليها.

بؤس بيروت

ولا يضيره، هو المنحاز إلى بيروت أن يستمع إلى لبنانيين يتحدثون عن بؤسها وخرابها، وحتى عن عبثية الحرب الأهلية. ومنهم امرأة أشعلت فيه نار إعجاب وحب صامت، هي "صاحبة سوار العاج المزخرف بالفضة"، كما يسميها، وترد كنيتها هذه أكثر من مرة، وقد قالت له: "حرب بيروت لم ترتق إلى العبثية، هي غباء، في العبثية رؤية والغباء عمى". وهذه السيدة، كان التقاها الراوي مصادفة في مقهى يونس في الحمرا، فجذبته بردائها الفضفاض وبـ"الذكاء الفيروزي" الكامن في عينيها، فبدا كأنه وقع في سحر حضورها، ولفتته حين وصفت له بيروت بمدينة "تطير"، ثم قام معها بنزهة بيروتية حتى الشاطئ. وعندما سألها: من أنت؟ أجابت:" لبنانية نمطية... ميلادي في لبنان، طفولتي في أفريقيا الغربية، دراستي العليا في باريس، نضالي وطني، زواجي أيديولوجي... أهاجر لأعود وأعود لأهاجر... أحب بذرة الجنون في كل شيء"، ثم واصلا نزهتهما عبر خطوط التماس صعوداً إلى منطقة بين عالية وسوق الغرب، ونظرا من هناك إلى بيروت التي تحت أعينهما، ثم عند الانتهاء ضحكت وغادرت، وباتت طيفاً يبحث عنه، بحثه عن حب خيالي، ولكن مؤثر. ولئن كانت هذه السيدة علامة على حب عابر ما كان له أن يتحقق، فالحب الحقيقي لن يلبث أن يعيشه، عميقاً ومتوتراً وجميلاً، وسيكون أحد حوافزه على كتابة هذا الكتاب، انطلاقاً من فعل "التدوين" الذي كانت هي شاهداً عليه. ولعل هذه المرأة هي التي ستحفزه على كتابة نصه السردي.

يمكن القول إن الكاتب يرسم ما يشبه "خريطة" عاطفية جداً لشارع الحمرا، وما يتفرع منه، كما لبيروت وبعض المناطق التي زارها. ولعله في ما شاهد وعاش، بدا بيروتياً جداً، من غير أن يتخلى عن تونسيته التي كانت نقطة انطلاق ونقطة عودة، لكن الحمرا وبيروت تحضران في الكتاب أكثر مما تحضر تونس. أما مهمة "البحث عن خبر إن" الذي يمثل سر الكتاب، فهي تنطلق من تونس إلى بيروت في ما يشبه الرحلة العبثية التي تؤكد أن حال اللامعنى هو الطاغي، بدءاً من المؤتمرالفارغ الذي دعي إليه، وانتهاءً بحال العالم العربي عموماً.

غريب الهنا والهناك

عندما يصف الكاتب نفسه بـ"الغريب " في بيروت فهو أيضاً يصف نفسه بـ"الغريب" في تونس، وكلما قصد شارع بورقيبة وجلس في أحد مقاهيه، يجد نفسه غريباً، حتى في الشارع الذي يعج بسيل من المارة. لا أحد يعرفه هنا، والجيل الذي كان ينتمي إليه توارى ولم يبق منه سوى أطياف، لكنه في هذا الشارع، استطاع أن "يشتم" رائحة ثورة آتية، فالفساد علني، والتسلط فاضح، و"ضيق المعنى" شائع. هذه الثورة ما لبثت أن اندلعت مع الفتى البوعزيزي، وكان هو في بيروت، فتابع تفاصيلها عبر الشاشة. يصف "المحترق" قائلاً "إنسان عادي يرتزق من بيع الفواكه والخضر في عربة يدفعها بين أسنان القانون"، هذه العربة التي "سوف تدخل التاريخ من أوسع أبوابه". ويضيف "لم تعرف له رغبة في بطولة أو في إشعال ثورة، ولم يترك وصايا. ترك صورة هو فيها هارب من النار بالنار". ويمضي في تحليل الثورة ورصد مجرياتها وكيف "أسطر المد الشعبي بطلاً بلا بطولة"، وكيف "أصبح قصر الرئاسة أصغر من جحر فأر"، بل كيف "أصبح السيد عبداً لمن ظن أنه عبده". ولا بد من أن يذكر" كيف غارت البطولة في مانوية الخير والشر"، في صراع أيديولوجي إسلاموي - إسلامي.

وفي نظره أن الأشياء نفضت معانيها القديمة في 14 يناير (كانون الثاني)، عندما مست الثورة آخر معاقل السلطة، "ملكية المعنى". حتى عندما عاد إلى تونس ما بعد الثورة ليكون شاهداً من كثب على الحدث التاريخي،، شعر على متن الطائرة التونسية بارتياح لم يشعر به قبل، وأدرك أن الطائرة ملك للشعب، أي ملك له أيضاً. وفي المطار "لم أكن مشتبهاً فيه إلى أن تثبت براءتي". وفي لقائه المستعاد دوماً مع صديقه الشاعر نفسه في مقهى "أفريكا" يعرب له عن خوفه من أن "تأكل الثورة أولادها". فرد عليه أن كل الثورات أكلت أولادها و"الخوف أن تأكلهم باكراً". ولما أشار الشاعر إلى ضرورة حصول قطيعة تفترضها الثورة، أجابه الراوي أنه "لا وجود للقطيعة في ثقافتنا". وأضاف: "لنا رجل في الماضي دائماً، لكأننا نخاف أن نسقط إن سحبناها منها". ويرى الراوي "أن ثورة العرب تترصدها دائماً، ماضويتان، واحدة سياسية والأخرى دينية، وفيهما خميرة انتكاستها"، هذا طبعاً كلام عالم سوسيولوجيا، دأب على مراقبة التاريخ الحديث والراهن، سياسياً واجتماعياً.

المدينة الموجودة وغير الموجودة

وعودة إلى شارع أو منطقة الحمرا أو بيروت التي وصفها له سائق التاكسي الذي أقله من المطار عند وصوله بـ"المدينة التي لم تعد موجودة"، يبدو الكاتب في حال من الاكتشاف الدائم للأماكن والزوايا والأكشاك والمكتبات المختلفة شكلاً، والأرصفة والمارة والمقاهي بروادها متعددي الأمزجة والمقامات... ويبدو الحمرا في نظره هو الشارع الذي لا تكتمل زيارة بيروت من دون الوصول اليه، شارع يملك سراً لم يتمكن الراوي من إدراكه، "سر ما، هو في جوه، في ما يحلق فيه". شارع "عادي الهندسة، قليل التناسق، فوضوي المظهر والحركة"، مشى فيه أكثر مما مشى في شارع طيلة حياته. وفي إحدى مكتباته يمكنك أن ترى صورة لستالين وأخرى لهتلر، وهما أشبه بفخ لاصطياد القراء. الشارع يمتد، في حسبانه ووفق حركته اليومية "الميدانية"، بين مقهى "الهورس شو" ومقهى "ليناس" في مسافة الذهاب إلى العمل والاياب منه، لكنه شارع مقاهٍ جلس فيها كلها وتعرف إلى أجوائها وروادها، نظراً أو سمعاً أو عبر صداقات عابرة أو متينة. وقد خامره شعور بأنه صادف في هذه المقاهي معظم مثقفي بيروت و"بعض الخارجين من السياسة أو الذاهبين إليها".

تبدو المقاهي كأنها أصبحت جزءاً من سكناه، يتوزع بينها على رغم ااختلافها البين واحداً عن آخر: "بن يونس"، "الهورس شو" الصامد، على رغم تبدل اسمه أكثر من مرة فأمسى "كوستا"، ثم "روسا"، وهذا اعتراف بريادة المقهى الثقافي العريق. ولم ينس "مقهى فيصل" ورواده في الخمسينيات والستينيات من المفكرين والكتاب العرب الوحدويين، والذي عرضت فيه كما يقول "أفكار الكبار وأحلامهم، وهم ينقطون بها خريطة الوطن العربي، أو يعيدون رسمها"، وقد تحول إلى مطعم فاست فود. ولا ينسى "كافيه دو باري" و"المودكا" و"الويمبي" الذي يسترجع قصة سقوط ضابط إسرائيلي فيه تحت طلقات مسدس أحد المناضلين، عام 1982 عندما اجتاحت إسرائيل بيروت. وكذلك "السيتي كافه" و"ليناس" و"ستارباكس" و"تاء مربوطة"... وأبعد قليلاً هناك "بلو نوت" و"بول" بفرعيه الفرنكوفوني والأنغلوفوني، و"شي إيلي"... وأبعد بعيداً أيضاً هناك: "ألبرغو" البورجوازي في الأشرفية، ومقاهي شارع مونو وشارع الجميزة وشارع مار مخايل أو حاناتها، وساحة النجمة وأسواق بيروت... أما أحاديث المقاهي فتتنوع تنوع روادها الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى بمعظمهم، والذين "تغيب أسماؤهم وتبقى أنماطهم"، أحاديث سياسية، "محلية" وعربية ودولية، واجتماعية وحياتية، بين ماضٍ شبه منسي وحاضر مأزوم... ويقول "حديث المقاهي حديث معلق فيها كالصور". وينقل من حوار اثنين في أحد المقاهي: "لا شيء في لبنان لا يختلف فيه، من الآلهة إلى طبخ الفريكة".

وصية شاعر تونسي

لا تغيب الوصية التي وجهها الشاعر التونسي إلى الرواية: "ستكتب رواية في بيروت إن انتظرتك فيها امرأة". هذه المرأة التي ستحرضه على الشروع في الكتابة أو التدوين ليست طبعاً "المرأة صاحبة سوار العاج المزخرف بالفضة"، بل امرأة أخرى، هي طالبة جامعية، تعد بحثاً عن حقوق المرأة، التقاها في مكتبة أنطوان في الحمرا، تنقب مثله بين الكتب، وكان لمح مرة طيفها، وسرعان ما جرى بينهما حديث عن المراجع التي يمكن أن تعتمدها في بحثها، ومنها كتاب لأحد أصدقاء الراوي. جذبتها معرفته، وانتقلا للفور إلى مقهى "تاء مربوطة". وبعد جلسة تعارف رن هاتفها، هو زوجها. رقمها بات معه، ثم كان لقاء آخر في مسبح "لوسيانا" بينه وبينها وبرفقته "المؤلف" صاحب الكتاب الذي يعنيها. وهناك البحر والموج والسباحة والحوار الثلاثي...

تبدأ إذا العلاقة المتموجة، والمتقطعة، المنسابة والمتوترة. تتعرف إليه ويتعرف إليها وفق ما أمكن. كأنها بطلة "سلبية" طالعة من روايات كتبتها سيمون دو بوفوار وفرانسواز ساغان وكوليت وحتى ليلى بعلبكي (رواية "أنا أحيا"). متمردة ومستسلمة في وقت واحد، هاربة، ولكن لا تدري إلى أين، لم تتزوج زوجها، بل هو من تزوجها، وترى الزواج مؤسسة خاوية، رتيبة وكئيبة، لكنها قارئة، أحياناً تكون "نيتشوية" كما قالت له، تدمن قراءة زاوية أنسي الحاج في جريدة "الأخبار" (حولها شاعر "لن" إلى جزيرة خاصة به). وعندما ساورها الشك به مرة جراء رسالة من امرأة على الواتساب في موبايله، انتفضت، مع أنها ترى أن المرأة إذا شكت في إخلاص رجل تحبه، تسلم، بنصف قلبها، بأن الشك من قدر الحب.

هذه المرأة التي كانت أحد حوافز الكاتب على مضيه في كتابة نصه، ستكون جزءاً من النص وشاهداً عليه وعلى كتابته، ولا مهرب من أن تتدخل فيه وتناقش الكاتب أو الحبيب المفترض، بما رسم لها من ملامح، بصفتها شخصية رئيسة في السرد. وهنا تكمن فرادة هذا النص: أن تكتب عن شخص وتدعه يتدخل في صنع البورتريه الذي تريده له، فترضخ وتحذف أو تضيف، لكن النص ليس رواية في المعنى الصرف، لعله تمرين على كتابة الرواية التي كتبت في عدم اكتمالها. حتى هو يعترف لها: "لم أكتب نصي وحدي". وعندما تسأله عن السرد وكيف يتسلسل إن عاد للوراء، يقول لها: "السارد كمن يصعد درجا، له أن يتوقف، أن يقفز درجة، أن يتراجع درجات، ما دام في المحصلة، يتقدم". ولما تسأله من أنت في النص، يقول لها: "ضمير متكلم وفيه مسافات بين الأنا وأنا الذي ليس أنا".

المرأة والنص

أما هي فكلما قرأت مقاطع من النص أو قرأها لها، كانت تنتفض وتطرح أسئلة. وقالت له مرة: "بنيت شخصية امرأة ببعض ما رأيت أو تخيلت من صفاتي". وسألته بالحاح: "أي امرأة تصف؟ هل هذه صورتي؟ هل هذا ما أوحي به إليك؟". وجاهرته بأنها كانت تفرح كلما رأت نفسها "ملفوفة" في مجاز نصه، وأنها كانت تتماهى مع ما حسبته شخصيتها. وتأخذ عليه مبالغته في تلوينها حتى لتنحجب عنها. وتقسو عليه، متهمة إياه بالغيرة، هو الذي تخيل نفسه، كما تقول له، رجلاً "قواماً" على أنوثتها، فاهتز عند مجرد ميلها لحظة إلى رجل آخر، وتذكره بأنه قال له بإصرار العارف، إن حب اثنين ممكن، لكنها الذكورية والنرجسية الذكورية، وهما لا تعنيان لها الكثير. وتطالبه بأن يريحها من هذه الشخصية التي في نصه، أن يبعدها عنها، "لا هذه ليست أنا".

قد يتخيل الكاتب مثل هذا الافتراض السردي، وقد يكون هذا الافتراض، واقعياً. أن يدور حوار بين المؤلف وشخصيته عبر شخصية حقيقية يحولها إلى شخصية روائية، هذا ضرب سردي بديع. تصبح الحبيبة شخصية، وتظل هي الحبيبة. الحبيبة التي يتألم لبعدها أو غيابها ويتحرق شوقاً إليها. ويقول العاشق في ما يشبه الرثاء: "تمر أيام، ولا اتصال، بدت كثيرة، أو هي قليلة، ولكن طويلة. تلك التي غابت، أخذت معها كل ما كان منها في بيروت وما كان من بيروت فيها". وفي لقاء هو الأخير بينهما مواجهة، تعترف له في ما يشبه الاعتراف القدري: "من أين أبداً وكيف أختصر؟ لم أرد أن أحبك. أحببتك. لم يساورني يوماً احتمال الابتعاد عنك. ساورني خوف من إفراطي في الوفاء لك. أحببت حبك لي. الحب ألهم حياتي معنى، فتدفقت". وعندما غادرت للمرة الأخيرة بعد سبع سنوات حباً وحيرة، التفتت إليه أمام الباب، فاقترب منها فاتحاً ذراعيه، وقال، "لكأنها أول مرة"، فأجابت: "هي دوماً، أول مرة"، ثم قال لها: "اقرئي النص كما قرأك". هو النص إذاً، أولاً وآخراً، نصه ونصها ونص بيروت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قد يسأل القارئ: لماذا لم يحمل الكتاب عنواناً مرتبطاً بمدينة بيروت أو الحمرا أو شاملاً بيروت وتونس، ما دام الكتاب هو كتاب بيروت بالتمام، مع انفتاح على تونس؟ لكن الكاتب اختار قصداً عنواناً يبدو عاماً للوهلة الأولى، لكنه عنوان يعني بيروت كثيراً، مثلما يعني تونس والعالم العربي الذي اختزل الكاتب إحدى صوره في ندوة "اللامعنى" أو "ندوة العرب إلى أين" التي كان مشاركاً فيها بصفته أكاديمياً، والتي يروي فيها الخطيب سهولة قول "اللاشيء"، وقول فقدان المعنى. يبدو عنوان "في انتظار خبر إن"، ساخراً ومأسوياً في الحين عينه، بسيطاً ومعقداً، فكرياً وسياسياً وتاريخياً وواقعياً... فالخبر هذا في زمن فقدان المعنى، لا يعرفه الا أمثال هذا "الخطيب"، "الذي لا يقول شيئاً ولا يسكت"، و"المعلق في اللغة كالمشنوق، وتحته لا شيء". أمثاله الذين يحبون تكراره أيضاً، المطمئنون، كما يصفهم الكاتب، الذين ينعسون، و"اللامبالون به أتى أو لم يأتِ".

لا شك في أن الطاهر لبيب منح نصه السير - ذاتي أو السردي الذاتي كبير اعتناء وتأنٍّ، صوغاً وسبكاً ومتانة ولغة وانتقاء مفردات ومترادفات، لكنه لم يتخل لحظة عن السلاسة في السرد والليونة والتدفق، لغة متينة حتماً، مصنوعة وليست مصطنعة، أنيقة على عذوبة. وقد خاض لبيب في مثل هذه الكتابة، اختبار الأسلوب بعيداً من الأسلوبية المغلقة، وأمعن في ما يسمى البلاغة المستترة التي تتخطى مظاهر البلاغة الكلاسيكية، مدركاً أنه لا يكتب شعراً، بل رواية، في ما تتطلب من انفتاح وحوار مع القارئ وكسر لـ"التقعير". لغة يمكن القول جهاراً إنها لغة الطاهر لبيب، لغة مكتنزة، لكنها ترق وتتفاعل وتنبسط وتجري، مرتاحة إلى إيقاعها. وقد يظن القارئ أن المؤلف استنطق المعاجم ليتسخدم مترادفات غير مألوفة في السرد العربي، والتي قد تشكل على القارئ غير المتضلع من المعجميات، كأن يستخدم مثلاً، السكات بدل السكوت أو الصمت، ورّق الكتاب بدلاً من تصفحه، الكناشة بدل دفتر الطلبات في يد نادل المقهى، السباسب التي تعني الأراضي المنبسطة والتي لا ماء فيها، قوراير الشرب عوض القناني، جذاذات بدل قصاصات، القنطاس بدل الركيزة... ويعمد أيضاً إلى استخدام تعابير يتفرد بها: يبيض كتبا، هذا الرجل تفاؤل (عوض متفائل)، الراديو أخبار، كان كبة من غضب، يوتسب لي ذلك (واتساب)، يفوسك جملة (استخدم الكاتب أحمد بيضون اشتقاق "الفسبكة")، لم يغلق السابعة عشرة وسواها. واللافت أن الكاتب لم يدخل العامية بتاتاً في الحوارات على غرار ما يفعل روائيون كثر.

كتاب "البحث عن خبر إن" هو أكثر من كتاب، وأكثر من سيرة ذاتية وأكثر من كتاب مشاهدات وانطباعات وذكريات وسرد ونقد، أكثر من كتاب ذاتي وموضوعي، أكثر من كتاب مكان وزمان، ذكريات ووقائع... هذا كتاب يمكن وصفه بالكتاب الذي لا بد من أن تفضي إليه الحياة، بحسب مقولة ستيفان مالارمه، أو الكتاب الذي تنتظره، حياة الطاهر لبيب وحياة بيروت وشارع الحمرا وتونس، والذات، فردية وجماعية. كتاب البحث عن خبر للحرف المشبه بالفعل "إنّ" الذي يتطلب إيجاده ربما، البحث في الماضي والحاضر والمستقبل الذي ليس موضع ثقة، وسط حال بلبلة المعنى او فقدانه.

المزيد من ثقافة