Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عزت القمحاوي يشرع النص المفتوح على السرد اللانهائي

"الطاهي يقتل...الكاتب ينتحر" كتاب يوائم بين المذاق الحسي ومتعة الكتابة

الروائي الفرنسي ألكسندر دوما بين الطعام والكتب بريشة شارلوت مو (صفحة الرسامة - فيسبوك) 

ملخص

الطهو والكتابة هو موضوع كتاب #عزت_القمحاوي الجديد "الطاهي يقتل... الكاتب ينتحر".  لا يُعد #الطهو موضوعاً جديداً للتأمل ومثله #الكتابة، لكن جمعهما معاً في نص واحد هو الجديد

"نازعتني نفسي إلى حرية أكثر ورغبة في الخفة واللعب عبَّرت عن نفسها في شكل نصوص تداخلت موضوعاتها وتشابكت أجناس الكتابة في داخلها تشابك فروع الشجر الحر وأغصانه في الأيكة"... هذا ما يتصوره الكاتب المصري عزت القمحاوي. ومعروف أن الأيكة بدأت لديه عام 2002 في كتاب "الأيك في المباهج والأحزان" ثم أغوته إحداهن فقام بنشر "كتاب الغواية" عام 2010 ليضيف إلى المكتبة العربية كتاباً عن مواطن الغواية في الكتب. ثم وقع في إغواء تأمل السفر (وليس الترحال) فأصدر "غرفة المسافرين" في 2020. ثم أضاف نصوصاً جديدة إلى "الأيك" وكتب له مقدمة ليصدر في طبعة جديدة عام 2022. قد يكون كل هذا لعباً، لكنه اللعب الجاد الذي يدفع القمحاوي إلى تجريب مناطق لا تزال معتمة قليلاً. وفي أحد حواراته الصحافية يقول: "النصوص المفتوحة تتيح لي حرية التأمل والاستطراد أكثر مما تفعل الرواية".

تتضاعف الأيكة إذاً وتنمو وتتشعب فيصدر القمحاوي "الطاهي يقتل... الكاتب ينتحر" (الدار المصرية اللبنانية، 2023). والعنوان ليس مجرد تشبيه شكلي يتسم بالذكاء، بل هو بالفعل موضوع الكتاب: الطهو والكتابة. لا يُعد الطهو موضوعاً جديداً للتأمل ومثله الكتابة، لكن جمعهما معاً في نص واحد هو الجديد.

توأمة الطهو والكتابة

الطاهي يقتل المكونات ويقطف أرواحها ليحولها إلى أطباق شهية، في حين أن على الكاتب أن يصمت تماماً في نصه، عليه أن يموت في نصه بسلام ويوزع روحه على الشخصيات التي يرسمها. وعلى مدار 26 فصلاً (أم مقالة؟) يضفر القمحاوي جوهر الطهو مع جوهر الكتابة. هل يتوجب عليّ الآن أن ألتقط أهم محاور التشابه مثلاً وأحللها؟ أم أقتبس من الكتاب لأُظهر براعة التشبيه؟ هذه الحيرة تحديداً هي جوهر النص الذي يُسلم نفسه للقارئ الشغوف ويكشف عن حقيقته. فالنص ليس عن الطهو وقد يكون في مواضع ما عن الكتابة والقراءة والتلقي. النص عن المهارات الضرورية لنجاح الكاتب، وكتابته كتلك المهارات اللازمة لتقديم طبق طيب المذاق. وفي سرده للمهارات يعمد القمحاوي إلى مخاطبة الحواس بأشكال متعددة لا يُمكن الإمساك بها ولا يسهل توقعها: استرجاع أعمال أدبية أو أفلام سينمائية أو مشاهد شخصية (كبدء الشغف بالطهو والسرد من الأم).

لكن هذه المهارات التي يسردها النص تحتاج إلى مرجعية يتم القياس عليها، أي مرجعية للحكم على طبق أنه شهي المذاق، كما يشي شكله، أو على نص أدبي أنه نجح في الإمتاع والمؤانسة كما هو متوقع. يكشف نص القمحاوي عن طبقة جديدة من الدلالة والمعنى: "الطاهي يقتل الكاتب ينتحر" ليس إلا نصاً عن "ألف ليلة وليلة" الذي يوظفه الكاتب بكثافة للتدليل على كل المهارات: الشخصيات والتوابل والإرجاء والاستباق والشكل وزمن السرد وزمن الطهو والخيال والواقع والتضمين، والإعلان، والحبكة، والطريقة.

لكن النص بالفعل عن توأمة الطهو والكتابة وكما أن هناك إشارات دائمة لنص "ألف ليلة وليلة"، هناك إشارات للعديد من الأعمال الأخرى العربية والعالمية. ما الذي يسعى إليه النص إذا كنا لا نستطيع الإمساك بقلبه والنظر في عينيه مباشرة؟ هل نأخذ بكلام الكاتب الذي يصف ما يكتبه بأنه نص مفتوح؟ لكن هذا أيضاً قد يثير الكثير من اللبس إذ إن النص المفتوح يُعرف في الثقافة العربية بوصفه نصاً لا يخضع للتجنيس الأدبي، والقبول بهذا التعريف يؤدي إلى تبسيط الأمور بشكل مخل. يرجع الفضل إلى الإيطالي إمبرتو إيكو في إطلاق مصطلح النص المفتوح عام 1958 في كتاب يحمل عنوان "النص المفتوح"، وقد اختار مؤلفات جيمس جويس نموذجاً. إذ يمكن البدء في قراءتها من أي جزء، وتأويل أي مقطع فيها يؤثر في تأويل أجزاء أخرى كما أنها تنفتح في الوقت ذاته على أعمال فنية أخرى تحمل الخصائص نفسها.

نص مفتوح ومدينة بأبواب

من هذه الزاوية، يُمكن اعتبار "الطاهي يقتل والكاتب ينتحر" نصاً مفتوحاً، فيمكن البدء بقراءة أي فصل من الكتاب كالمدينة التي توفر للقادمين عدة بوابات، في شكل مشابه لتوظيف مهارات الطهو في سياق الكتابة والعكس. لم يتوقف الأمر عند إيكو إذ قدم رولان بارت مصطلح "النص المكتوب" وهو يوازي النص المفتوح عند إيكو، ثم طرحت جوليا كريستيفا مفهوم التناص الذي لا يتوافر في النص المغلق.

لكن نص القمحاوي ليس مفتوحاً لهذه الأسباب فقط، بل هو أيضاً نص لا نهائي، كل ما في الأمر أن الكاتب كان لا بد أن يتوقف ليدفع بالكتاب إلى النشر. لكنه كان يمكن أن يواصل الكتابة عن الطهو والكتابة إلى وقت غير معلوم، فالقصة تولّد قصة والإشارات تفتح عوالم رحبة من الحوار بين النصوص. تماماً كما كان لا بد أن تتوقف شهرزاد بعد أن هذبت ميول القتل في نفس شهريار. وتماماً كما كان لا بد لمارسيل بروست أن يساعدنا بافتعال- عبر إنهاء النص- على الخروج من متاهة "البحث عن الزمن المفقود". هذه المتاهة التي يُسميها الكاتب "متاهة المذاقات" هي ما تجعل الطاهي يقتل والكاتب ينتحر نصاً مفتوحاً تُشكله شبكة من متاهات المعاني المتصارعة على مركزية النص. لا يمكن تحديد بداية الشبكة، أو العقدة، أو الطرف، أو النهاية، فالنصوص التي تُشكل "الطاهي يقتل والكاتب ينتحر" متشابكة بشكل لا يسهل فصلها بعضها عن بعض، تماماً مثل متاهة الزمن المفقود والليالي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما اعتمد نجاح شهرزاد على "الاختفاء داخل كتاب لا نهائي من الحكايات المتوالدة" (241) حوّل القمحاوي براعة الطهو وأسرار الكتابة إلى دوال تشير إلى ذاتها بلا مرجعية خارجية، مُشكلاً بنية "جذمورية" للكتاب. والجذمور هو نوع من النباتات تتميّز بغزارة الإنتاج – تنبثق من الأرض وتمتدّ فوق منطقة واسعة، على شكل نباتات منفصلةٍ ومتجاورةٍ. إلا أن هذه النباتات المنفردة ظاهرياً، هي أجزاءٌ مترابطةٌ تحت الأرض، تنبثق من نبتةٍ كبيرةٍ واحدةٍ. كان لا بد للأيكة الأولى أن تضرب بجذورها في العمق ليتوالد منها الجذمور، ذاك المفهوم الذي وظفه في الفكر الفلسفي والنقدي، الثنائي الفرنسي جيل دولوز وفيليكس غاتاري. فالشكل الظاهر للجذمور وبنيته المختفية، يعنيان أنه يمكن ربط أي شيء بأي شيء- الطهو والكتابة والليالي- ولا يُعد عدم التجانس الظاهري عائقاً، فهناك علاقات بين ما يبدو منفصلاً، تماماً كالعلاقات التي تتوالد بين النصوص.

 قد يكون القمحاوي ساعياً إلى الخفة (بمعنى كونديرا) كما يقول، لكن علينا أن نقبل رغبته في اللعب بحذر. فالنص لا ينفتح لمجرد الرغبة في اللعب والتجريب، لكنه ينفتح برؤية تؤمن بالعلاقات بين الكينونات المنفصلة، وبمهارة لا تقل عن مهارة شهرزاد التي أنقذت نفسها والأخريات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة