Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غوستاف لوبون توقع الارتيابات الراهنة منذ مطلع القرن الـ20

عالم الاجتماع الذي أنشأ علم نفس الجماهير يحلل انقلاب الحداثة إلى حال من البربرية

عالم النفس الإجتماعي غوستاف لوبون (ويكبيديا)

لا نجانب الحقيقة إن قلنا إن ثمة علماء وأطباء وفلاسفة كباراً وضعوا مداميك في بنيان المعرفة، معرفة النفس البشرية، في وعيها ولا وعيها، وبحالها الفردية والجماعية، على حد سواء. ومن هؤلاء المفكر وعالم النفس الاجتماعي غوستاف لوبون (1841-1931) الذي كان له الأثر البين في أعمال عالم النفس الأشهر سيغموند فرويد (1856-1939) ولا سيما تحليله النفسي للجماهير، وبإقرار منه، كما يحسن بنا التذكير أن العالم لوبون كان مؤيداً للنظرية الداروينية المعروفة، من دون أن يحول ذلك دون سعيه الحثيث للتعرف إلى خير ما يميز الجماعات والشعوب، وعنيت به الحضارة، فكان أن أنجز مجلداً مصوراً ضخماً عن "حضارة العرب"، وعملاً ضخماً آخر بعنوان "حضارات الهند"، وذلك إثر رحلات استشراقية كانت مستحسنة في الغرب، في حينه، من أجل فهم هذه الحضارات والشعوب، وتيسير التعامل معها، من جميع الوجوه وميادين الحياة.

في كتابه "ارتيابات الوقت الراهن" الصادر بترجمته العربية حديثاً (2022) من دار الرافدين (ترجمة باسل الزين)، يستعيد غوستاف لوبون، المعتبر عالماً في الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، في الآن نفسه، بعد تخرجه طبيباً، بعضاً من مفاهيمه العلمية أو شبه العلمية، التي استخلصها من قراءاته، وأبحاثه الميدانية، وتحليلاته العميقة المستندة إلى مشاهداته التي رصدها من خلال رحلاته الكثيرة شرقاً وغرباً، وأرادها أن تكون علامات للريبة في القادم من الأيام. ولربما يكون استذكار هذا الكتاب، بعد مئة عام على صدوره، مناسبة للوقوف على صحة هذه "الارتيابات"، وما استجد من نظيراتها في زمننا، وما أوهن في صدورهم الأمل في غد أكثر أمناً، وأقل وباءً، وأوفر سلاماً وغذاءً من قرن خلا.

استخلاص الكليات

ولئن أورد الكاتب هذه الارتيابات بلغة الشذرات أو الأفكار المصوغة في فقرات مكثفة وموجزة، على غرار أسلوب نيتشه، في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" على سبيل المثال، فإنه أمكن له أن يستخلص عدداً من ارتياباته مما يمكن وصفها بالكليات، بلغة الفلسفة، أي مظاهر أو موضوعات جديرة بالتحقق في كل زمان ومكان. ومنها ما لا يزال قابلاً للانطباق على عصرنا الحالي لما بعد الحداثة، وإن بعد قرن من الزمن.

ومن تلك الأفكار اعتباره أن الشعوب، وبغض النظر عن اكتسابها قدراً من المدنية والتحضر وانخراطها في مسار الحداثة البادئة منذ الثورة الفرنسية وانطلاق الثورة الصناعية، يتأرجح تفكيرها بين تيارين كبيرين، المنطق العقلاني الذي يوجه النخب المفكرة فيها، والقوى الانفعالية والصوفية، على حد تسميته، والتي يسعها أن تقلب سيرورة الأحداث رأساً على عقب، وتنقل المجتمع من ذروة الحداثة إلى الحد الآخر من البربرية. ولعله كان يبني ارتيابه هذا مما خبرته المجتمعات الأوروبية وذاقت مراراته جراء الحرب العالمية الأولى، وما تزامن معها من أوبئة (الإنفلونزا الإسبانية)، أزهقت أرواح عشرات الملايين من البشر.

وما لم يتسن للعالم لوبون تدوينه وإبرازه شاهداً على ذلك الارتياب، هو حصول الحرب العالمية الثانية، بفارق خمسة وعشرين عاماً (1939)، في أوروبا نفسها، وإمعان القوى الممكن إدراجها تحت خانة الانفعالية والصوفية، من مثل القومية، والاشتراكية، والشيوعية، والنقابية، والفاشية، والنازية، وغيرها، إذ كان قد توفي في عام (1931). ولو تجاوزنا أوروبا قليلاً، وملنا إلى نواحي بلداننا الشرقية، لوجدنا كثيراً من الأدلة على تنامي القوى الانفعالية والصوفية، بل الدينية، تنامياً غير منتظم، مترافقاً مع إنكار لكل موجبات الحداثة، من مثل قيام الدولة الحديثة ذات الحدود المعروفة، والتنكر للدساتير الموضوعة برضا أغلب مكونات الشعوب، نظير ما شهدناه على أيدي "داعش"، و"القاعدة"، و"طالبان"، وغيرها من المنظمات المتطرفة. وليس هذا فحسب، ألا تعتبر العودة إلى زمن الإمبراطورية الروسية، في أوائل القرن الحادي والعشرين، وما تلاها من حروب على دفعات (2014-2022) تخوضها روسيا الاتحادية القيصرية، ضد أوكرانيا، نوعاً من سيادة القوى الانفعالية والصوفية والقومية على ما عداها؟

نقيض الثورات

أما الارتياب الثاني الذي شغل الكاتب لوبون وطالت مفاعيله زمننا فهو اليقين من صلاح الثورات الذي سرعان ما ينقلب إلى النقيض منه، ذلك أن الوعود الثوروية التي يطلقها دعاتها، في الغالب، تنقلب نتائجها بين ليلة وضحاها فتصير كارثية بعد أن تبدت للقائمين بها وردية وسبيلاً إلى تحقيق مصالح الطبقات المظلومة والمهمشة. ويورد الكاتب مثالاً ساطعاً على ذلك، الثورة البلشفية، التي ما إن تمكن نفر من الشيوعيين، وعلى رأسهم لينين، من خلع قيصر روسيا، وأرسوا دعائم الدولة السوفياتية، حتى باشروا عمليات قمع الخصوم (اغتيال تروتسكي، قائد الجيش الأحمر) وقادة آخرين، وتجريد حملات القتل والاعتقال بحق البورجوازيين والآلاف من المثقفين والكتاب والأدباء وغيرهم، إلى أن فاق عدد المقتولين والمسجونين على أيدي المستبدين الجدد أعداد قتلى الحرب الأولى ضد الألمان وغيرهم.

وكيف لو عددنا الثورات في العالم التي أفضت بالثائرين إلى السلطة، في شرقنا العربي وقارة آسيا وأميركا، وما أعقبها من استئثار فئة صغيرة بالسلطة، وإحكام قبضتها على مقاليدها، ومن ثم المباشرة بسلسلة من أعمال القمع والنفي والاعتقال والإعدام لمخالفيها الرأي والمصلحة لا تنتهي إلا بانقلاب فئة صغيرة أخرى، ومعاودة الأخيرة سلسلة الأعمال السالف ذكرها، ومن دون أن يحظى الفقراء أو الفئات المهمشة المظلومة من هذه الفئة شيئاً من نعم السلطة ومغانم الدولة المستباحة.

ومن الارتيابات العشرة التي انطوى عليها الكتاب واحد أطلق عليه المؤلف لوبون "التأثيرات الواعية واللا واعية في حياة الشعوب"، وفيه يستعيد أهم مصطلح كان سبق أن كرس له كتابه الشهير "علم نفس الجموع" الصادر عام 1895، عنيت به لا وعي الجموع، والذي يتقاطع مع مصطلح اللا وعي الجمعي لكارل يونغ، ولا وعي الجمهور لدى فرويد الذي أقر فيه بإسهامات لوبون. ومفاد هذا الارتياب أن حركة الشعوب إن قيض لها أن تكون موحدة وفاعلة في الحروب والأحداث الجسيمة التي تمر بها الأمم، تنقاد لدوافعها اللا واعية، ويغدو من اليسير على قادتها أن تدفع بها إلى جحيم الحروب ونيران الصراعات من دون أن تسأل عن أثمان تضحيات أفرادها الجسام. وهذا ما أثبتته الوقائع السياسية التي كانت لا تزال جارية أوائل القرن العشرين، شأن هزيمة الجيش الإنجليزي في وجه الجيش التركي، وقد حظي بقائد عسكري شجاع ومكين الصلة باللا وعي الجماعي لأمته وشعبه، وهو مصطفى كمال أتاتورك، في ما سمي معركة جنق قلعة ساواشي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الكتاب أيضاً فصل يبين فيه لوبون وجود أشكال حديثة من الاستبداد، يعينها على التوالي، فالتطرف برأيه هو أحد أشكال الاستبداد، تستسيغه بعض الحركات النقابية، والأحزاب الشيوعية، والاشتراكية، لظنها أنه السبيل إلى تحقيق مطالبها وانتزاع حقوق المظلومين من ظالميهم. كما يحيط الكتاب بمسألة تطور الحضارات، وولادتها وزوالها، والحياة السياسية التي تنشأ بسبب التطور الفكري الناجم أصلاً عن الحروب.

أياً تكن الارتيابات أو الشكوك التي خالجت كاتبنا، وبلغ في تحليلها مبلغ الكليات أو الظواهر الإنسانية، وقاربها مقاربة موضوعية، من دون أن تكون قابلة للقياس الدقيق، فإن العودة إليها بعد المئة عام الماضية ربما تكشف للقارئ الأمداء المتبقية للإنسانية التي ينبغي لها بلوغها لتحقيق نضجها وانفتاحها، ولتضمن سلام شعوبها وأفرادها، وتحترم اختلافاتهم وتعمل على نمائهم السليم، ومن دون أي ريبة أو شكوك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة