Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ملابسات سقوط باخموت وأهميتها التاريخية بالنسبة إلى أوكرانيا

موسكو سيطرت على مدينة أرتيوموفسك التي أعادت لها كييف اسمها القديم بعد معارك دموية ضارية

ملخص

الأهمية المعنوية لسقوط باخموت تظل تفوق ما عداها من أهمية عسكرية لأسباب كثيرة

بعد فترة تراوحت بين 225 يوماً وما يزيد على تسعة أشهر استمدت بداياتها منذ مطلع أغسطس (آب) العام الماضي، أعلنت موسكو  السيطرة على أرتيوموفسك، المدينة التي كانت أوكرانيا أعادت لها اسمها الأوكراني التاريخي القديم باخموت، بعد معارك دموية ضارية تقول المصادر العسكرية الروسية إنه راح ضحيتها من الجانب الأوكراني ما يقارب 50 ألف قتيل و170 ألف جريح، من دون الكشف عن أعداد القتلى والجرحى من الجانب الروسي.

لكن لماذا هذا التباين في تقدير المساحة الزمنية لواحدة من أطول المعارك العسكرية في التاريخ المعاصر بعد معركة ستالينغراد التي ابتدأت في أغسطس 1942 وانتهت في فبراير (شباط) 1943 ودامت ما يزيد على 200 يوم إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، وكان انتصار الاتحاد السوفياتي فيها نقطة انعطاف صوب النصر التاريخي على الفاشية في مايو (أيار) 1945؟

المعارك التاريخية

ذلك قد يعود ضمناً للمعنى الإستراتيجي لهذه المعركة وما كانت توليه القيادة الأوكرانية لهذه المدينة من أهمية هائلة، لا سيما بعد ما تكبدته من هزيمة قاسية في مثل هذا الشهر من العام الماضي في معركة ماريوبول، أكبر الموانئ الأوكرانية على ضفاف بحر آزوف، في معركة كانت تضعها في مصاف المعارك التاريخية وفي مقدمها معركة ستالينغراد، وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أعلن غير مرة أنه لن يسمح باستسلام هذه المدينة التي أعلنها رمزاً جديداً للمقاومة ضد القوات الروسية، وأنها لا بد من أن تكون نقطة تحول في مسار الصراع الروسي – الأوكراني، ولعل ذلك ما كانت تدركه القوات الروسية التي هاجمت المدينة في مطلع أغسطس من العام الماضي، لتعود وتتراجع عنها خلال أغسطس وسبتمبر (أيلول) لأسباب قالت المصادر إنها تعزوها إلى طبيعة المدينة وموقعها في أراض منخفضة وسط سلسلة من التلال، كانت تشكل ما هو أقرب إلى الخطوط الدفاعية الطبيعية، فضلاً عن أنفاق المناجم ومواقع استخراج الفحم.

وفي هذا الصدد أيضا قالت المصادر الأوكرانية إن القوات الحكومية وبعد عدد من الهزائم التي تكبدتها واضطرارها إلى الرحيل عن مدينتي ليسيتشانسك وسيفرودونيتسك صيف عام 2022، فإنها لم تكن لتتحمل ضياع مدينة أخرى، لا سيما بوزن وقيمة وتاريخ مدينة باخموت.

وبعيداً من المسائل التي تتعلق إلى حد كبير بعلوم الحرب وما يتعلق منها بالتكتيك والإستراتيجية، نتوقف عند تاريخ هذه المدينة لنستعرض بعضاً من جوانب ماضيها وحاضرها، وما يمكن أن تسفر عنه أحداث اليوم من تطورات ثمة من يقول إنها لا بد من أن تحدد كثيراً من تطورات الغد، فالمدينة ليست بالمركز الإداري الكبير ولم تكن يوماً تحظى بمثل ما حظيت به من شهرة عالمية خلال الأشهر القليلة الماضية، كما أن سقوطها لن يعني ما كان يعنيه على سبيل المثال سقوط ميناء ماريوبول في مثل هذه الأيام من شهر مايو (أيار) العام الماضي، فلا تزال هناك كثير من المدن والقلاع الحصينة على غرار أفدييفكا ودروجكوفكا وقسطنطينوفكا وسلافينسك وغيرها من النقاط التي تقع وراءها الخطوط الدفاعية للقوات الأوكرانية، لكن ذلك لا يعني تلك الأهمية التي تكتسبها المواقع الجيوسياسية وما يتعلق منها بخريطة المعارك خلال الفترة القريبة المقبلة، في حال إصرار الجانب الأوكراني على التوقف عن قبول مبادرات السلام التي صارت اليوم أكثر كثيراً من ذي قبل.

تاريخ ظهور المدينة

ومن هنا نشير إلى أن باخموت أو أرتيوموفسك، نسبة إلى اسم أرتيوم الاسم المستعار للقائد الحزبي ورجل الدولة السوفياتي فيودور سيرغييف، ليست بالمدينة الكبيرة ولا بالتي تشغل موقعاً إستراتيجياً يماثل أهمية غيرها من المدن التي لطالما حدد موقعها مسار الأحداث والتطورات خلال الفترة القليلة الماضية، فمساحتها بحسب الأدبيات الروسية لا تزيد على 42 كيلومتراً مربعاً، بينما لم يكن عدد سكانها يتجاوز الـ 72 ألف مواطن.

وتقع المدينة على ضفاف نهر باخموت الذي اشتقت منه اسمها التاريخي بجمهورية دونيتسك الشعبية التي كانت أعلنت استقلالها عام 2014 من جانب واحد عن أوكرانيا، على مسافة 89 كيلومتراً شمال شرقي مدينة دونيتسك، العاصمة الإدارية لهذه الجمهورية. ويعود تاريخ ظهور هذه المدينة لعام 1571 بأمر من القيصر الروسي إيفان الرهيب كمركز لحراسة الطرق التجارية في المنطقة، وحماية الحدود الجنوبية لإمارة موسكو من غارات التتار على مواقع استخراج الملح، وهو ما عهد به إلى قوزاق منطقة الدون أكثر العشائر جسارة وقدرة على استيعاب فنون القتال. ويذكر التاريخ أن المدينة جرى تطويرها لاحقاً بموجب أوامر من القيصر بطرس الأول اعتباراً من مطلع القرن الـ 18 بعد إخماد انتفاضة كوندراتي بولافين خلال الفترة من 1707 وحتى 1708.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكما تقول الأدبيات التاريخية فإن باخموت تحولت اعتباراً من منتصف القرن الـ 18 إلى قلعة حصينة على الشاطئ الأيسر من نهر باخموت، سرعان ما جرى إعلانها مركزاً إدارياً لصربيا السلافية ومنطقة للمستوطنات الزراعية العسكرية للصرب والمولداف والبلغار على الضفة الجنوبية لنهر سيفرسكي دونيتس خلال الفترة من 1753 وحتى 1764.

وفي عام 1783 تحولت باخموت إلى تبعية محافظة يكاترينوسلاف إحدى كبرى محافظات الإمبراطورية الروسية.

واعتباراً من عام 1876 اكتسبت المدينة أهمية متزايدة بعد اكتشاف احتياطات كبيرة من الملح الصخري في منطقة باخموت، واكبه زيادة في عدد المناجم ومواقع احتياطات ذلك الملح الصخري، إضافة إلى تزايد إنتاج الملح حتى 12 في المئة من مجمل إنتاج الأمبراطورية الروسية مع حلول نهاية القرن الـ 19. ومع حلول مطلع القرن الـ 20 تزايد عدد المؤسسات الصغيرة في المدينة إلى ما يربو على 70 مؤسسة، فضلاً عن اكتشاف مزيد من مناجم ومواقع استخراج الملح، سرعان ما واكبه تطور هائل في صناعة المعادن.

أما عن تبعيتها لأوكرانيا فتعود لعام 1923، تاريخ إعلانها بوصفها العاصمة الإدارية لمنطقة باخموت التابعة لمقاطعة دونيتسك من أعمال جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية.

وفي سبتمبر عام 1924 تم تغيير اسم باخموت إلى أرتيوموفسكي تكريماً لرجل الحزب والدولة السوفياتي، مؤسس ورئيس جمهورية دونيتسك - كريفوي روغ السوفياتية فيودور سيرغييف، المعروف باسمه المستعار الرفيق أرتيوم، بما كان أساساً لاسمها الجديد أرتيوموفسكي.

وقد ظل الأمر على هذا الحال من عام 1924 وحتى عام 1932، كانت المدينة خلالها جزءاً من مقاطعة ستالين حتى تاريخ تغيير اسم المقاطعة اعتباراً من عام 1961 إلى مقاطعة دونيتسك التابعة لجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية، وهو ما لم يتغير حتى إعلان استقلال أوكرانيا في الـ 24 من أغسطس عام 1991، قبل الإعلان رسمياً عن زوال الاتحاد السوفياتي نهاية عام 1991.

سقوط أرتيوموفسك

وقد ظلت هذه المدينة تخضع بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير 2014 لتبعية جمهورية دونيتسك الشعبية التي أعلنت انفصالها بعد ذلك التاريخ، وإلى أن استطاعت الجمهورية الجديدة استعادة السيطرة عليها في يوليو (تموز) 2014، وقبل أن تستعيد القوات الأوكرانية الحكومية سيطرتها عليها مجدداً لتظل منذ ذلك الحين تحت الحكم الإداري لأوكرانيا.

وفي الـ 23 من سبتمبر 2015 وبموجب التوجه الديموقراطي صوب تصفية كل رموز العهد الشيوعي، قرر مجلس مدينة أرتيوموفسك إعادة اسم باخموت إلى المدينة، وهو ما جرى التصديق عليه في الرابع من فبراير عام 2016 من قبل البرلمان الأوكراني، لكنها سرعان ما عادت ثانية وبموجب نتائج الاستفتاء الشعبي في سبتمبر 2022 وضمن أعمال جمهورية دونيتسك الشعبية، مع مثيلاتها من جمهورية لوغانسك الشعبية ومقاطعتي زابوروجيه وخيرسون إلى الانضمام لروسيا الاتحادية اعتباراً من مطلع أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه.

أما عن أهمية السيطرة على أرتيوموفسك (باخموت) فتقول المصادر الروسية إنها أسهمت في تكبيد القوات الأوكرانية كثيراً من الهزائم القاتلة، فضلاً عن استنفاد أكبر عدد ممكن من موارد القوات المسلحة والاحتياطات الأوكرانية إلى جانب الاستيلاء على ما يقارب 100 مدرعة ودبابة في غضون سبعة أشهر، كما أن ذلك أسهم في إحباط مخططات الهجوم الأوكراني المضاد الذي لطالما أعلنت القيادة الأوكرانية مطلع الربيع موعداً له، وعادت لإرجائه حتى الأسابيع القليلة المقبلة.

وتقول المصادر الروسية كذلك إن سقوط أرتيوموفسك أسهم إلى حد كبير في الحيلولة دون تقدم القوات الأوكرانية صوب مقاطعتي زابوروجيه وخيرسون بموجب ما كان موضوعاً من خطط تستهدف المساحات البرية التي تربط ما بين شبه جزيرة القرم وخيرسون مع الأراضي الروسية على ضفاف بحر آزوف.

على أن الأهمية المعنوية لسقوط هذه المدينة، بحسب كل المؤشرات، تظل تفوق ما عداها من أهمية عسكرية لأسباب كثيرة يعزوها المراقبون العسكريون في روسيا وخارجها إلى توقيت الإعلان عن سقوط هذه المدينة الذي جاء مواكباً لاحتفال روسيا بالذكرى الأولى للاستيلاء على ميناء ماريوبول، أكبر القواعد العسكرية على ضفاف بحر آزوف، كما أن ذلك واكب أيضاً انعقاد قمة السبع الكبار في هيروشيما اليابانية بمشاركة الرئيس الأوكراني زيلينسكي، بما صدر عنه من تصريحات اعترف فيها بسقوط باخموت، ليعود وينكر ذلك من دون أية تفسيرات لأسباب اختفاء منافسه الجنرال فاليري زالوجني، القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية منذ مطلع مايو الحالي، وفي هذا الشأن تتردد أنباء حول إصابته واحتمالات رحيله عن منصبه بما قد يسفر عنه من تبعات ثقيلة على مسار العمليات العسكرية خلال الفترة القريبة المقبلة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير