Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إلى أين تقود الحرب الإعلامية معركة الخرطوم؟

تسابق طرفي النزاع في وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى زيادة كبيرة في حجم المعلومات المصاحبة للمواجهات

خضعت الحرب إلى مستوى عالٍ من التغطية الإعلامية من قبل وسائل الإعلام الأجنبية بالإضافة إلى شهادات المواطنين (غيتي)

ملخص

إحدى الصحف السودانية حملت في صفحتها الأولى تهديد بعض القوى السياسية بالحرب قبل يوم واحد من اندلاعها

لأكثر من شهر، اعتمدت الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" على نشر الدعاية الحربية، وشغل الفضاء الإعلامي الرسمي والافتراضي كمساحات رديفة للصراع على الأرض، ولا توجد اختلافات أساسية بين كيفية استخدامها من قبل الجيش و"الدعم السريع" باعتبار أن الوسائل الإعلامية، لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي، تنبع تنافسيتها من البناء السردي وبعض الخطابات العاطفية، ما أضعف الاجتهاد للاستفادة من المقومات الأخرى، ولم يتغير الأسلوب طوال فترة الحرب الممتدة إلى الآن من تبادل الاتهامات، مع أن الواقع على الأرض قد بدأ في التغير، كما لا تركز الدعاية الإعلامية على القضايا العسكرية لأن الحرب نفسها لم تلتزم بالإطار الأخلاقي للنزاعات ما جعلها بعيدة من الالتزام والوفاء بالهدن المعلنة.

 

وتبدو المسألة وكأنها متعلقة بالتحدي الأخلاقي والأمني، فاستغلال الإعلام لنشر المعلومات المضللة وعدم الشفافية، وتسابق طرفي النزاع في وسائل التواصل الاجتماعي عوامل أدت إلى زيادة كبيرة في حجم المعلومات المصاحبة للحرب، فكل منهما يحاول استخدام هذا التطور لمصلحته لدرجة أن حولاها إلى ساحة معركة دعائية، وبهذا يطغى التركيز على المعلومات المضللة التي تمثل صورة متشائمة لنهاية الحرب على ما يمكن أن توفره الوسائل ذاتها للوصول إلى معلومات حقيقية عن سير النزاع والأحداث المصاحبة له.

وعلى رغم أن هناك بعض التفاوت في إدارة المعركة الإعلامية بين الجيش "والدعم السريع"، إلا أنه ينطبق عليهما ما هو معروف عن الجيوش والقوات شبه العسكرية في أفريقيا ودول العالم الثالث، إذ لا يمكن فصل السياسة الإعلامية عن القوة العسكرية، وعلى رغم عنصر المفاجأة في هذه الحرب وطبيعتها الملتبسة، إلا أنها عندما استمرت اتخذت شكل الحرب التقليدية.

رسائل سياسية

وخضعت الحرب إلى مستوى عالٍ من التغطية الإعلامية من قبل وسائل الإعلام الأجنبية إضافة إلى شهادات المواطنين الذين ظلوا ينشرون مواد من مشاهداتهم وغيرها على وسائل التواصل الاجتماعي، ومع هذا الكم من المعلومات، لا يوجد ما يقابله لتصحيح المعلومات المضللة التي يبثها طرفا النزاع، ذلك أن الرسائل السياسية المحيطة بالنزاع تتسم بخلافات أساسية حول أسباب نشوئه، إذ إن الجيش أورد منذ البداية أن شرارة الحرب أطلقتها قوات "الدعم السريع" في عمل عدواني ضد الجيش، فيما نفت قوات "الدعم السريع" تورطها في بداية الحرب، لكن التصريحات والفيديوهات السابقة للحرب والمتداولة على نطاق واسع، أظهرت أن هناك شيئاً ما يضمره قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو الملقب بـ "حميدتي"، كما أن إحدى الصحف السودانية حملت في عنوانها العريض في الصفحة الأولى عشية بدء الحرب تصريحاً لـ"قوى إعلان الحرية والتغيير" جاء فيه "التوقيع على الاتفاق الإطاري أو الحرب"، وبحسب ما تسرّب بعد ذلك أن موضوع الحرب ونية اعتقال قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان نوقشت مع بعض القوى السياسية.

وعلى رغم عنصر المفاجأة في هذه الحرب والناس منشغلون بالأيام الأخيرة من شهر رمضان، وفي خضم استعداداتهم لاستقبال أيام العيد، فإن أدلة وسائل الإعلام المتاحة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تشير بقوة إلى أن تجاوز الحد الفاصل بين السلام والنزاع المسلح في الخرطوم كان في الأساس نتيجة لقرار مسبق ببداية الحرب، ولا يوجد أي دليل على أنها بدأت بالصدفة، ووفقاً لتحليل طبيعة المواد المتداولة يمكن تفسير الديناميات للدوافع الأساسية بقيامها.

 

منعطف الحرب

وهناك لاعبون آخرون هم أنصار وموالون لطرفي النزاع، وباعتبار هؤلاء جيوشاً افتراضية، فإنهم يقومون بابتداع وسائل جديدة ذات تأثيرات محددة لإضفاء بعض المصداقية على أي من الروايات ومحاولات دحض الرواية الأخرى وتشويه سمعة الطرف المقابل، والنتيجة هي كمية كبيرة من المعلومات المضللة التي تمت إضافتها إلى مزيج المعلومات وتجعل من الصعب فصل الحقائق عما هو متداول، وهناك مصادر بدأت بالظهور الإعلامي المتكرر لتقدم وصفاً مفصلاً، ولكن لا يخفى الطعن والتشكيك في شهاداتها من الطرف في الاتجاه الآخر.

وبعد أن تضع الحرب أوزارها، سيكون من المهم التحقيق في من بدأ وأطلق شرارتها الأولى، وعموماً يجري الآن نقاش حول الطرف الذي بدأ الصراع، ويتوقع أن يكون نقاشاً دائرياً لا يفضي إلى نتيجة في الوقت الحالي، وربما يضاف إلى التحقيقات الأخرى المتعلقة بقتل واختفاء المتظاهرين، ثم أحداث فض الاعتصام التي أوقعت أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى والمفقودين عام 2019، ولعل الأسباب المباشرة لاندلاع الحرب هي جزء مهم في اللغز المتعلق بممارسة أشكال العنف كافة منذ بداية ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 وإفلات الجناة من العقاب.

محتوى متباين

ويلجأ الناس عادة إلى وسائل الإعلام، وعبر الإنترنت، لاكتساب فهم أفضل لأسباب الحرب، لما تحتويه من معلومات ضخمة توفر إمكانية الوصول إلى بيانات أولية قيمة من منطقة الحرب ودواعيها، ولكن تحيط بها بعض التحديات وهي أن استغلال هذه المواد يتطلب صرامة منهجية وشفافة بعدم التسليم منذ الوهلة الأولى بصحتها ووضع فرصة لانتقادها، ويقارن البعض تغطية التلفزيون الرسمي التابع للدولة للحرب مع التغطية في وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن ملاحظة أن محتوى التغطيات متباين، لكن آخرين ذكروا أن دور وسائل التواصل الاجتماعي التي تتخذها قوات الدعم السريع نافذتها الإعلامية الأولى، بالنسبة للجيش، مكمل فقط وليس أساسياً.

فبينما يركز التلفزيون على أخبار النزوح والقضايا الإنسانية المتعلقة بالحرب، يركز الجيش في هذه الوسائل على الاشتباكات العنيفة والانتصارات وعدد الضربات التي نفذها ضد "الدعم السريع"، وتأتي في إطار نفي ما يبثه "الدعم السريع" من تحقيق انتصارات أيضاً، ويشير كل ذلك إلى أن السياسة الإعلامية قد تكون انعكاساً لسلوك الدولة.

نهج عشوائي

ويدرك معظم المتابعين للمواد التي تبثها الصفحات الرسمية أو المنتسبين للجيش وقوات الدعم السريع أن البث يتخذ نهجاً عشوائياً لإثبات الوجود على الأرض أو كرد فعل لخطاب أو تصريح أو بيان أطلقه الطرف الخصم، يعني ذلك أنه نادراً ما تكون هناك رواية متماسكة ما يشير إلى عدم وجود استراتيجية إعلامية معينة متبعة، وبالنسبة للجيش، فإن الدولة خلال الأعوام الـ 30 الماضية، وهي العمر الذهبي للضباط خلال خدمتهم العسكرية، لم تعمل على تطوير سياستها العسكرية والإعلامية بطريقة منسقة ليصبح إعلامها العسكري أكثر كفاءة، ومع أنه كان ثمة تركيز على إنشاء الأكاديميات العسكرية بإنفاق ضخم، لكنها كانت محتكرة لجهاز الأمن ومنسوبيه لأسباب مفهومة وهي حماية النظام، وإذا عدنا للوراء، فإن مسارح الحروب السابقة مثل الحرب الأهلية في الجنوب، كان هناك فرع للتوجيه المعنوي معني بنقل أخبار الحرب وانتصارات الجيش وما تبعها من روايات وأدب، يبث كل ذلك على التلفزيون الرسمي للدولة ببرامج ثابتة منها "في ساحات الفداء"، وما ساعد في انضمام كثيرين هو استخدام الأيديولوجية وتنميط الحرب على أنها حرب دينية، أطرافها مسلمون شماليون بممثليهم أعضاء الحركة الإسلامية وميليشياتها "الدفاع الشعبي"، ضد جنوبيين مسيحيين متمردين على السلطة تمثلهم الحركة الشعبية لتحرير السودان، بجيشها الشعبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والمثال الآخر هو مسرح الحرب في دارفور حيث اتخذت السلطة نهجاً آخر لكنه قريب من الأول، من جهة الإثنيات المختلفة لكن الديانة واحدة، ولذلك ركز نظام عمر البشير على الاستعانة بعنصر عربي هو ميليشيات "الجنجويد" التي أصبحت في ما بعد "قوات الدعم السريع"، لمحاربة العنصر الأفريقي متمثلاً في الحركات المسلحة الدارفورية، ولم تُحسم الحرب بشكل نهائي إلى الآن لكن الفظائع التي ارتكبت بحق المدنيين في دارفور تم توثيقها بواسطة الإعلام الغربي ووصلت إلى حد اتهام النظام السابق بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد مواطني الإقليم، ولم ينشط الإعلام الرسمي للجيش في تلك الفترة مثلما نشط في الجنوب، ولم يسع إلى دعوة الشباب للتجنيد والانضمام إلى قواته شبه العسكرية، مكتفياً بـ "الجنجويد" وتركيزها على تجنيد مرتزقة من خارج الحدود.

أما بالنسبة لقوات "الدعم السريع"، فقد زاد استخدامه وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح مع مرور الوقت لتعويض النقص في موارد قوته العسكرية، وهي جزء من عملية استراتيجية، بينما اتبع الجيش في سياسته الإعلامية على نفي ما يورده "الدعم السريع" مستنداً إلى قوته العسكرية واستخدام سلاح الجو في حسم كثير من جولات الحرب.

استراتيجية عريقة

وبالنظر إلى أن الجيش ينتمي لجهة فاعلة سياسياً (الدولة)، فإنه ربما نأى بنفسه عن مجاراة قوات شبه عسكرية، لذلك يستخدم سرديات وروايات ذات استراتيجية عريقة، لكنها لا تنجح دائماً في إيصال رسالتها ولا ينعكس تأثيرها على الآخرين، كما يتحدد عنصر تعزيز جاذبيتها لفئة معينة، وعلى رغم توافر الآليات الرئيسة بسيطرة الدولة على وسائل الإعلام من خلال الضوابط البيروقراطية والمالية، بشكل مباشر، إلا أنها لم تستفد من هذه الميزة ولو بشكل غير مباشر.

وبما أن الشباب يمثلون نسبة كبيرة في المجتمع السوداني فإنهم يولون اهتماماً بالوسائل الحديثة، حتى لو لم يكونوا إلى جانب هذه القوات أو تلك فإنهم ينجذبون إلى متابعتها والتفاعل معها سلباً أو إيجاباً، وهنا تمكن ملاحظة التفاوت بين القوة الصلبة التي تشير عادة إلى القدرات العسكرية التي يمكن للدولة استخدامها للتأثير في نتائج الحرب والدبلوماسية، وبين القوة الناعمة مثلما هي في مفهوم جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية، بإشارته إلى "الاستفادة من جاذبية مؤسساتها وقيمها ومنتجاتها الثقافية للتأثير في الآخرين، سواء لخلق إجماع سياسي أو لتعزيز فهم مشترك لكيفية معالجة التحديات"، ما يستلزم من الجيش تطوير قوته الإعلامية جنباً إلى جنب مع قوته العسكرية وهما أداتان مهمتان تحتاجهما السياسة الخارجية في إبراز صورة معينة عن البلد.

أوجه القصور

وبدأ الجيش أخيراً تدارك أهمية "قوة الاتصال" في حملته الإعلامية لتعزيز الشرعية المتصورة للدولة وبناء دعم محلي للقضية الوطنية ودعم دولي ضد الحرب، وبدأ في تحرير وسائل الإعلام الرسمية من حياديتها ربما بعد استعادتها من السيطرة التي كانت مفروضة عليها من قبل قوات الدعم السريع، وذلك لنقطة جوهرية وهي أن التحكم في التغطية الإعلامية كقوة رمزية في حد ذاته استعراض للقوة، والافتقار إليه جسّد ضعف الدولة، في الفترة الماضية.

ومع أنه لا توجد نتائج نهائية بخصوص قدرة وسائل الإعلام على التحريض على الصراع، ولكن من تجارب الحروب التاريخية صاغ علماء النفس الاجتماعي مثل ملفين ديفلير وساندرا بول روكيتش "نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام" وترتبط بشكل وثيق بـ "قوة الاتصال" التي تهتم بآلية التأثير، ولا تحتاج إلى مجهود دبلوماسي جبار بقدر ما "تحتاج إلى نشر مواد إعلامية وتوظيف المعلومات لتعزيز السرديات والصور التي تتماشى مع مصالح سياستها الخارجية".

أما حملة "الدعم السريع"، فعلى رغم إنفاق "حميدتي"، بحسب ما يتم تداوله، بعض عائداته المرتفعة من الذهب على نصائح العلاقات العامة الغربية بعقد بلغ ملايين الدولارات للمساعدة في تلميع صورته عن تلك المعروفة عن مشاركته في حرب دارفور، ومع ذلك، فقد أحاط بالحملة خلل كشف عن أوجه قصور كبيرة أعاقت السيطرة على العمليات التي تؤديها على طريقة حرب العصابات، وانقطاع الاتصال بالقادة الرئيسيين "حميدتي" وشقيقه عبد الرحيم دقلو خلال المراحل المتقدمة من الصراع، وهي أنظمة الاتصالات العتيقة "الثريا" التي كانت تستخدمها في الحرب بدارفور، ويستخدمها الجنود في هذه الحرب، وأثرت في قدرة القوات على التنسيق مع بعضها بعض في ساحة المعركة، وظهر ذلك جلياً في التضارب بين القيادة والقوات والالتزام بالنصائح أو الهدن المفروضة على أقلّ تقدير.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل