Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يرضى العاشق بأن حبيبته مجرد لحم وماء وأوردة؟

"فلسفة الفن" بحسب تساؤلات المفكر الفرنسي تين: ما الذي يقف حقاً وراء عملية الإبداع؟

الفن في بعده الروحي كما في لوحة لكاندينسكي (موقع الفن الحديث)

ملخص

يرى تين أن الطبيعة ليست هي من يخلق المبدعين بل هي من ينتج الظروف الملائمة أو المعاكسة لولادتهم

نعرف أن الجمهور العريض الذي يتعامل مع الأعمال الفنية ويكون هو مستهدفها الرئيس، سواء كانت هذه الأعمال جيدة أو أقل جودة، مقنعة أو أقل إقناعاً، لا يأبه عادة بما يسمى "فلسفة الفن"، مثله في هذا - تماماً - مثل العاشق الذي لن يهمه أبداً أن يأتي إليه شخص ليحدثه أن حبيبته هي في حقيقة الأمر مجرد كائن بشري يتألف جسده من هذا المقدار من الماء، وهذه الكتلة من الأعصاب والشرايين، وهذا الكم من العظام والعضلات والجلد، فنحن نعرف أن العاشق منذ اللحظة التي "يصدق" فيها هذا الكلام الذي يحلل كينونة حبيبته منطقياً وعلمياً بيولوجياً سيكف، حقاً، عن الاهتمام بها ككائن معشوق لا يدري أحد سر انجذابه الحقيقي إليه.

على هذا النحو نفسه، من الواضح أن هاوياً للفن، عفوياً وصادقاً في هوايته، قد لا يعود العمل الفني المحبب إليه حاملاً لأسرار الإبداع والأبعاد الروحية، منذ اللحظة التي يأتي فيها ناقد أو فيلسوف فن أو محلل نفسي، ليجزئ ذلك العمل ويحلل له كل مكوناته ويفسرها.

الكتب الانعطافية قليلة

ومع هذا، لم تكف مسألة فلسفة الفن عن شغل بال النقاد والفلاسفة، حتى النخبة من هواة الفن، إلى درجة أن ثمة في المخزون الفكري العالمي، وبكثير من اللغات، ألوف الكتب والدراسات التي تتصدى لمثل هذه المهمة، حتى وإن سلمنا بأن الكتب الانعطافية والمميزة في هذا المجال قليلة العدد، وأن الغريب هو أن هذا القطاع المميز إنما حمل دائماً توقيع رجال الفكر، أكثر مما حمل توقيع رجال الفن.

لسنا في حاجة هنا، طبعاً، إلى أن نورد أسماء كل المفكرين الذين عالجوا المسألة الفنية على مدى تاريخ الفكر، من أفلاطون وأرسطو إلى أندريه مالرو مروراً بهيغل وشيلنغ وحتى لينين وبليخانوف وتروتسكي، لكن يمكننا التوقف بين الحين والآخر عند واحد من الذين سعوا دائماً إلى تفسير الفن وعلاقته بالمبدع والجمهور والمجتمع.

من هؤلاء الناقد والباحث الفرنسي إيبوليت تين، الذي كان واحداً من أبرز الذين حاولوا، في القرن التاسع عشر، أن ينظروا إلى البعد الاجتماعي لعملية الإبداع الفني، مبعدينها بعض الشيء عن الطابع الفردي الذي يجعل من المبدع نفسه خالق عمله أولاً وأخيراً، بصرف النظر إلى حد ما عن العوامل الاجتماعية والجماعية التي يرى تين، مثل غيره، من أصحاب النظرة الميكانيكية الاجتماعية، أنها هي مصدر التعبير والخلفية التي انطلاقاً منها يتحرك المبدع مستقياً أفكاره ومواضيعه، إذ إن أصحاب هذه النظرة يرون دائماً أن المبدع الفرد لا يكون في نتاجه سوى نوع من الانعكاس لسيرورة تتجاوزه وتستخدمه في آن معاً.

طبيعة ما للإنتاج الفني

عبر إيبوليت تين عن هذا في كتاب اشتهر كثيراً في زمنه ولا يزال يقرأ ويناقش إلى اليوم، "فلسفة الفن" الذي جمع المؤلف في طبعته الأولى عام 1865، سلسلة دروس ومحاضرات كان ألقاها قبل ذلك على طلبته في "مدرسة الفنون الجميلة" بباريس، وسعى فيها بخاصة إلى الحديث عن "طبيعة الإنتاج الفني".

والحال أن هذه المجموعة من الدروس والمقالات تجاوز الاهتمام بها في ذلك الحين الأطر الأكاديمية البحتة، لتصبح مدار سجالات واسعة بين كثير من الآراء والتوجهات في هذا المجال، مما جعلها تسجل بداية حقبة طويلة من الاهتمام المتجدد بالإنتاج الفني في فرنسا، بعد أن كان هذا الاهتمام سائداً في الفكر الألماني ويكاد يكون وقفاً عليه، طوال الحقبة السابقة.

 

 

ولقد كان الفارق بين الحيزين الجغرافيين هذين، في التعامل مع المسألة الفنية، كبيراً، بل متناقضاً، إذ بقدر ما كان الألمان (هيغل خصوصاً) يدخلون الروح وقضاياها في هذه المسألة الفنية، راح الفرنسيون وعلى رأسهم تين وسان- بوف يركزون على الأبعاد المادية والميكانيكية في تفسيراتهم، علماً أن المبدع الفرد ظلم في الحيزين معاً، بحسب فريق ثالث، فكان عليه أن ينتظر عشرات السنين ومئات المؤلفات والمساجلات قبل أن يستعيد مكانته الأساسية (والمتفردة حتى) في سيرورة اللعبة الفنية.

للورثة الماركسيين والفاشيين

غير أن ما يهمنا في هذا السياق هنا، هو كتاب تين نفسه، لأهميته التاريخية، وطبعاً لكونه يمثل خير تمثيل ذلك التيار الحتمي الميكانيكي الذي سيرثه بعض المنظرين الماركسيين من ناحية، والفاشيين من ناحية أخرى، واضعين الفن كله - كسيرورة شعبية بيئوية - في خدمة الأيديولوجيا السياسية، نقول هذا من دون أن نعني أن تين كان يتوخى هذا التفسير حين "ابتدع" نظريته الاجتماعية - البيئوية، في قضية الإنتاج الفني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كل ما في الأمر بالنسبة إلى "فلسفة الفن" لتين، هو أن كل نتاجات العقل البشري - بما في ذلك الأعمال الفنية - لا يمكن تفسير وجودها وولادتها، مثلما الحال بالنسبة إلى كل نتاجات الطبيعة، إلا انطلاقاً من دراسة البيئة التي تنشأ في داخلها، فاللوحة والتمثال والقصيدة، بالنسبة إلى تين، نتاجات لا يمكن أن تكون قائمة في ذاتها معزولة، بل إنها تدخل في صلب نتاج مؤلفها أولاً، ثم في صلب نتاج المدرسة أو التيار اللذين ينتمي المؤلف إليهما، بالتالي في سيرورة "منطقية" في سياق الذهنية العامة المهيمنة على المجتمع الذي ينتمي إليه هذا المؤلف - المبدع عموماً - وتين انطلاقاً من هنا لا يرى لعلم الجمال من مهمة سوى دراسة الأعمال الفنية على ضوء تحديد خلفياتها وأسباب ولادتها الاجتماعية.

الإبداع ابن بيئته

على هذا الأساس يفترض تين أن نظريته هذه تبدو صالحة لتفسير كل النتاجات الفنية لدى كل الأمم والبيئات وعلى مدى العصور كلها، مما يحول منظومته، بحسب رأي دارسيه إلى ما يشبه "علم الأحياء مطبقاً على نتاجات الإنسان لا على نتاجات الطبيعة، بل بالأحرى على نتاجات العقل البشري منظوراً إليها بصفتها نتاجات مواربة، للطبيعة".

تين ينطلق من هذا المنظور ليلفت إلى أن الطبيعة ليست هي من يخلق المبدعين، بل هي من ينتج الظروف الملائمة أو المعاكسة لولادتهم، ولكي يسند نظريته جيداً، يعطي مجموعة من الأمثلة التاريخية التي يراها صالحة لتأكيد ما يذهب إليه: فمثلاً في العصور الوسطى، حين كان الناس يعيشون وسط الحروب والأوبئة والغزوات، تحت سلطة الأنظمة الإقطاعية وتحت ربقة المجاعات، لم يتمكن الإنسان من إنتاج أية أعمال إبداعية حقيقية. أما لاحقاً حين بدا انتصار المسيحية وأنظمتها على تلك الظروف واضحاً وموحداً للناس ولدت أغاني الفروسية وحكايات الحب، ثم ولدت الهندسة القوطية التي سرعان ما راحت تعم أوروبا بأسرها.

إعادة اعتبار لفرنسا القديمة

إذاً، على ضوء مثل هذه الأمثلة التاريخية، رسم إيبوليت تين خطة أفكاره التي سيقول الباحثون في ذلك الحين إنها مدينة بكثير إلى نظريات أوغست كونت الوضعية في الفلسفة، مما جعل أفكار تين تعتبر من أولى الأفكار الوضعية الأنموذجية مطبقة على علم الجمال، غير أن هذا الانتماء المحترم والفكري المدرسي المكرس لأفكار تين لم يمنع الباحثين في عصره والعصور التالية من القول إن نظريته كلها تبدو متهافتة، حتى وإن كان الرجل قد أجاد في مجال الربط بين الفن والثقافة عموماً من ناحية، والمجتمع في شكل أعم (منظوراً إليه هنا كبيئة متكاملة) من ناحية ثانية، ذلك أن هذه النظرية تتطلع إلى العمل الفني بصفته نتاج ميكانيكية حتمية فيزيائية "منكرة دور الفنان الخالق الفرد نفسه".

ولد إيبوليت تين عام 1828 ومات عام 1893، مما يجعل منه - في امتياز - ابن مرحلة تاريخية شهدت سجالات أساسية حول كثير من قضايا الفكر والمجتمع والسياسة بالتالي، مما جعل من المنطقي له أن يكون طرفاً في ذلك السجال.

تين عرف في زمنه كأديب ومؤرخ وفيلسوف، ومن كتبه الشهيرة إضافة إلى ما ذكرنا "في العقل" و"تاريخ الأدب الإنجليزي" و"فلاسفة فرنسا الكلاسيكيون في القرن التاسع عشر" و"أصول فرنسا المعاصرة" في 12 جزءاً يعيد فيها الاعتبار لفرنسا القديمة على حساب ثورتها وتوجهات تلك الثورة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة