Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شعراء عرب يتحدثون: ماذا يبقى من نزار قباني في الذاكرة؟

شاعر المرأة ترك 36 ديواناً و7 مجلدات و10 كتب في النثر

نزار قباني على مقعد في حديقة لندنية (دار سعاد الصباح)

ملخص

بعد مرور مئة عام على ميلاد نزار قباني، وربع قرن على رحيله، يثار السؤال الذي تطرحه "اندبندنت عربية" على مجموعة من الشعراء والمبدعين العرب: "ماذا بقي في ذاكرتك من شعر نزار قباني، وماذا ترى في المشهد العربي الحالي من تأثرات بالتجربة النزارية؟".

لم يختلف موقف نزار قباني (1923-1998) من الشعر عن فلسفته في العشق، فهو سعى على امتداد تجربته الزاخمة خلال أكثر من نصف قرن، إلى تحرير كل منهما بالكلمات والصور والأخيلة، الجديدة والجريئة، باعتبارهما (الشعر والعشق) لا يزالان سجينين في العالم العربي. وقد حظي نزار في حياته بحضور عريض وانتشار واسع من المحيط إلى الخليج. ونالت قصائده، العاطفية والسياسية والمغنّاة، ما لم تنله قصائد شاعر عربي آخر من الالتصاق بوجدان الناس العاديين والبسطاء، الذين كان يستعصي عليهم الشعر العربي من قبل، فوجدوه فجأة يقترب منهم، ويتسلل إلى نبضهم.

وفي هذه اللحظة الراهنة، بعد مرور مئة عام على ميلاد نزار قباني، وربع قرن على رحيله، يثار السؤال الذي تطرحه "اندبندنت عربية" على مجموعة من الشعراء والمبدعين العرب: "ماذا بقي في ذاكرتك من شعر نزار قباني، وماذا ترى في المشهد العربي الحالي من تأثرات بالتجربة النزارية؟".

قاسم حداد: أثر البدايات

أقرأ الشاعر نزار قباني الآن بشعريته الخاصة، مجرداً من تعليقاته السياسية، التي تبدو لي خطابات مباشرة، ربما استدرك بها جماهيريته التي تعود عليها قبل ذلك. وكنت ممن كان يحفظ قصائده القديمة، بل ربما كنت انسخ بعضها في دفاتر خاصة بمن أحب من الشعراء في بداياتي.

ويبقى من نزار قباني الشاعر دروسه المبكرة التي علمتني كتابة القصيدة العاطفية الخاصة.

يبقى في ذاكرتي منه ما ليس للنسيان، من تأثري بطريقة كتابته في تجاربي الأولى، حتى أن محمود المردي، عندما كان رئيساً لتحرير جريدة "الأضواء" آنذاك، رد على رسالتي المرفقة بإحدى تجاربي المبكرة، ليقول لي: "إن صاحب قصيدة "الأسطورة الصفراء" عليه أن يتجاوز تقليد غيره، فقصيدته صورة مهزوزة من قصائد الشاعر نزار قباني". ما زلت أتذكر هذا التعليق المفيد لي في بداياتي.

غسان زقطان: كسر جهامة القاموس

مبكراً قرأت نزار قباني، كان يهدأ في أحد رفوف مكتبة والدي، الرفوف المنخفضة التي في متناول اليد، خاصة لطفل متسلل قصير القامة مثلي. أظن أنه كان يحضر تلك النسخ المدللة من لبنان في رحلاته الغامضة المتكررة، في الأمسيات المتأخرة حين تمتلئ غرفته المستقلة عن بقية البيت، بالأصدقاء والنشطاء السياسيين ودخان التبغ والقهوة. كان بالإمكان سماع صوته وهو يقرأ بتمهل لضيوفه قصائد مختارة من تلك المجموعات التي واصلت حضورها، مثل كنز يتراكم مع كل كتاب جديد يصل من بيروت. أستطيع أن أتذكر بقوة تأثير ديوان "الرسم بالكلمات"، الذي حفظت عن ظهر قلب معظم قصائده، أظن أنه صدر في العام 1966.

منذ "قالت لي السمراء" 1945، بدا أثر قباني وظهرت خطوط هوية شاعر مختلف، على رغم رومانسية الديوان، وهي رومانسية رافقت عدة دواوين لاحقة. اللغة هذه كانت إضافة قباني إلى المشهد، لغة في متناول اليد ومتداولة وقادرة على مخاطبة الناس في الشارع وفي الأسواق.

لم يذهب إلى أسئلة الشكل التي كانت تعصف، مثل حركة تمرد على القصيدة التقليدية، بل قاد تمرداً عفوياً على القاموس في ممر خاص به. كتب قصائد عمودية بلغة يومية تقترب من الصحافة، وفي مواضيعه كان امتداداً لنزعة الإحياء، وفي لغته كان "حداثياً" بالمقارنة مع القاموس الشعري السائد في تلك السنوات.

في الشكل كان حذراً ومتمهلاً، إيقاعات عالية وموسيقى خارجية وقافية متقاربة. حتى عندما انعطف نحو قصيدة التفعيلة أخذ معه لغته وايقاعاته والصور البسيطة في تشبيهات لا تبتعد كثيراً عن المعنى، وتواصل طوافها حوله، يحميها الإيقاع وتسيجها القافية. مواد قصيدته كانت تأتي من المكان، مواد مأمونة مع استطرادات طويلة، وصور تتكرر بصيغ مختلفة، مثل إعادة تركيب للصورة نفسها بالمكونات نفسها، ولكن من زوايا مختلفة وبألوان تتجدد. هذه قدرة لشاعر موهوب من دون شك، ولعل ولعه بالرسم والموسيقى كانا يحركان كل هذه الإيقاعات والتنقل بين الضوء والظل.

لا أظن أن شاعراً عبر عشريتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، نجا من أثر ما لقصيدة نزار، ولا أظن أن شاعراً عربياً معاصراً استطاع الوصول إلى القارئ العربي كما وصل نزار.

وهو حضور ما زال قائماً وحيوياً ومحمولاً على روافع كثيرة، مثل سهولة الحصول على شعره وسهولة التواصل معه، طاقة التبسيط التي تخاطب الحياة وعدم الترفع على العاطفة البسيطة للحب، ترديد هواجس الناس ونقلها إلى الشعر. لم يكن عميقاً ومركباً ولا أظن أنه كان يسعى إلى ذلك. 

أما الجدل الذي لم يهدأ حول المرأة في شعر نزار واستحضار عمر بن أبي ربيعة، على سبيل المثال، والمتاهة المنصوبة بين الغزل ونقد المجتمع الشرقي، فهو جزء من سيرة غنية ونوع من رغبة التلقي في إسقاط أبعاد شخصية، واستنباط نظريات على حساب النص.

إضافة نزار قباني كانت "اللغة" وتمرده على المعجم، كسر جهامة القاموس وعبوسه وجديته المتكلفة، واستبدال كل هذا بالتربيت على مشاعر الناس في الطريق. لقد مهد الطريق لشعر يومي حيث مشى شعراء كثيرون بعده، بعد أن أخذوا منه شيئاً، في طرقهم الخاصة ولم يكن هذا سهلاً على الإطلاق.

شوقي بزيع: تحرير اللغة

إن السنوات التي مرت بعد رحيل نزارقباني كافية تماماً لتبيان الأثر الحقيقي الذي خلفه وراءه، فليس هناك أصدق من الزمن في غربلة الشعراء، بعيداً من ضجيج حضورهم الشخصي، ذلك أن هناك شعراء كثيرين يثيرون حولهم من الغبار ما يؤدي إلى حجب جوهر إبداعهم، وأحجامهم الفعلية.

لعل القيمة الحقيقية لنزار قباني لا تكمن في موضوعه، ولا في أنه انشغل بعواطف المراهقين والمراهقات، ولا في كونه حوّل المرأة إلى بستان جسدي شهواني، بل تكمن بالدرجة الأولى في قدرته الفذة على تحرير اللغة العربية من بُعدها المعجمي، أو تحرير اللغة الشعرية من المعاجم وإطلاقها في الهواء، وفي فضاء التخيلات. فمع قباني، وخلافاً لما حدث مع شعراء جماليين، كسعيد عقل، لا فرق بين مفردة شعرية ومفردة غير شعرية، بشرط أن يحسن الشاعر استعمالها. وعندما ننظر إلى قاموس نزار، نرى كيف أنه أدخل ما كان يُظَن أنه غير شعري إلى الشعر، مثل المنفضة والولاعة والعطر وكافة الأدوات التي تستخدمها المرأة في التجميل ويستعملها الناس في حياتهم

اليومية، وهذا الأمر مهم جداً. فضلاً أنه عند قراءة أي عمل لنزار، فلن نجد أبداً هبوطاً أو نشازاً أو تقعراً في اللغة، بل هناك طلاوة وليونة ومرونة تصعب على من يظن أنه يمكن تقليدها، فهو يقع دائماً في قلب السهل الممتنع.

الآن تتجلى قيمة نزار قباني الفعلية، في أنه لم يكن ظاهرة خلّبية (جوفاء) في الشعر العربي كما ذهب بعض الحداثيين الذين راحوا يقصرون دوره على الدغدغة السطحية لمشاعر المرأة، واللعب على وتر الجسد وما إلى ذلك، ويظهر لنا الآن كم هم مخطئون وغير منصفين.

إن نزار قباني هو شاعر حياة وشاعر حواس، استطاع أن يخرج اللغة من بُعدها الذهني، ومن التجريد البارد، لتصبح لصيقة بالشرايين، وباللحم والدم البشريين. ولذلك نرى حضور الإنسان عارياً في شعره، رجلاً كان أو امرأة، ونرى القضية الإنسانية، سياسية كانت أو عاطفية، وهذا أمر شديد الأهمية. وهو لديه الحس الإيقاعي العالي، سواء كتب قصيدة موزونة مقفاة أو قصيدة تفعيلة أو مقطوعات نثرية، فهو شاعر عابر للأساليب، عابر للمفردات، عابر للإيقاعات.

سمير سحيمي: تطوّر في الحياة

الراسخ من شعر نزار قباني أن تجربته الشعرية تطوّر في الحياة، وإيقاع وجود يستقطبه الحدثان والمغايرة. فقصيدته مسار وجود ومجال صراع مع الموت في كل أشكاله، وهي إلى ذلك تولّد مستمر لاكتناه الذات وانفتاحها. ولعل استراتيجية خطابه الشعري القائمة على اختبار أنظمة القول الشعري وتكثيفها وتكريسها، مثلت سرّاً من أسرار انتشار شعره وما فيه من قدرة على ثني الأعناق وتحقيق الإمتاع والتأثير، وحفز الوعي بإنشائية السياسي وبقصيدة المرأة، إذ وفّق في جعلها ذاتاً متفردة تخرج عن سلطان التقاليد وتبني ذاتها.

ومما بقي من نزار قباني، قدرته على حمل المتلقي على الانتشاء والالتذاذ بشعره، وترديده وحفظه، وتوفقه في ترسيخ نهج مخصوص في الكتابة بحرية تفصح عن حركة ذات في الخطاب، هي إيقاع قصيدة نزار التي تنتظم الأبنية بها، ويتحقق المعنى في الوجود.

محمد خضر الغامدي: التفاصيل والشجاعة

في داخل كل شاعر على الأغلب قصة مليئة بالتفاصيل مع نزار قباني. بعد أن قايضت صديقاً بمجموعة كبيرة من الكتب مقابل ديوانين صغيرين لنزار قباني، بدأت حكايتي معه. كنت لا أزال على مقاعد الدراسة الثانوية. وكان الحصول على قصيدة لنزار قباني صعباً، وكنت أسمع عنه بين فترة وأخرى، وأقرأ له قصائد غير مكتملة ومبتورة في صحيفة أو مجلة. حصلت على الديوانين فأصبت به لوقت طويل، بهذه القصيدة القريبة والسهلة الممتنعة والجريئة والتي تجعل الأمر خطراً لدرجة أنني لم أكن أخبر أحداً أنني أمتلك شيئاً من دواوينه الصغيرة المميزة بأغلفتها الملونة من مطبوعات: منشورات نزار قباني. اسم نزار وحده كان يثير المشاكل، والريبة، وحتماً يجعلك ضمن دائرة مُعقدة من التساؤلات. وهذا فصل طويل من القصص التي مرت على الكثيرين من قراء نزار السريين آنذاك.

إن ما فعله نزار، هو أنه مكّن الحياة بكل تفاصيلها اللاممكنة وقتذاك في القصيدة، فقرأت حينها للمرة الأولى ما لم أكن أتخيل أن يُكتب في قصيدة عن المرأة مثلاً، والعبارة المفتوحة على التفاصيل الحميمة، وقصائد أخرى كانت تؤثر على الرأي العام وسرعان ما يفرض عليها الحصار مثل "المهرولون" و"هوامش على دفتر النكسة" و"خبز وحشيش وقمر". لقد جاء في وقته تماماً "في مقتبل القراءة وشغفي بالشعر والكتابة، ليصنع مع آخرين جزءاً مهماً من تكويني الشعري ورؤيتي للإبداع وكسر التابو والكتابة الشجاعة. لقد عشنا زمن نزار قباني، وهذا كان كافياً لنزهو ونحن نطارد قصائده من صحيفة لأخرى، ومن بلد لآخر.

أحمد يماني: الرسم بالكلمات

لا أكاد أجزم بما تبقى من شعر نزار قباني، فالأغلب أنه سري في شعر كثير، وفي شعراء كثيرين ممن لا يشاركونه المعرفة الشعرية ذاتها، وهنا تكمن طاقته. أقتصر هنا سريعاً على مرحلة واحدة. أحب شعر نزار قباني في مرحلته الإسبانية، لكنني ممن لا يؤمنون بفردوس الأندلس المفقود، هي إسبانيا أخرى غير تاريخية، إسبانيا عربية متخيلة، لم توجد أبداً إلا في خيال صانعيها. وربما لهذا أحب شعره في تلك المرحلة، لأنه كان قريباً من المخيال الجمعي، لكن بحس خاص، حس الشاعر الذي يُسمح له بما لا يُسمح لسواه.

نزار قباني في مدريد، يتذكر أبا عبدالله الصغير، والسمراء في غرناطة على مدخل الحمراء من أحفاده، هكذا يظن الشاعر. لكن الواضح لي أنه عبر في المكان كما يعبر الشعراء، خائفين وعائدين إلى نقطة أولى ربما لم توجد أبداً.

محمد الحرز: القيمة المطلقة للشعر

في مطالع التسعينيات وأواخر الثمانينيات، في تلك الفترة تحديداً، كنت أحفظ عن ظهر قلب قصائد نزار قباني التي كانت تتوافر عن طريق أشرطة الكاسيت المسجلة بصوته، وكنت وبعض الأصدقاء نتسابق لحفظ أكبر قدر من الأبيات منها، أو بعض الأحيان نتحصل عليها عن طريق توافر النسخ القديمة لديوان "قالت لي السمراء"، وغيره من الدواوين عند بعض الشعراء الأصدقاء. وحين أتذكر تلك المرحلة وما صاحبها من هوس وشغف بشعر نزار، لا أراها سوى مرحلة عبور في تاريخ تجربتي الشعرية.

لكنني سرعان ما تنبهت الآن إلى أن نزار أعطانا شيئاً ثميناً لم نكن ندرك قيمته إلا لاحقاً، هو الإيمان العميق بالشعر باعتباره القيمة المطلقة للحياة. وهذا في ظني أكثر ما بقي من نزار، ليس فقط من خلال ما تركه من إنجاز شعري، بل أيضاً سيرة حياته هي القيمة المطلقة التي ارتبطت بالشعر وأثرت على أجيال شعرية لاحقة.

علي العامري: روح جديدة

في الذكرى المئوية لميلاد الشاعر نزار قباني، نتذكر الأثر الذي حفره في درب القصيدة العربية، فهو من روّاد التحديث، وتجربته شكّلت عتبة من عتبات الحداثة في الشعرية العربية. كسر قباني "الجدار الرابع" بين قصيدته وجمهور الشعر، إذ رفع العبارة العادية من مستوى التداول إلى مستوى الشعر عبر "السهل الممتنع"، مُعبّراً عن هموم الإنسان العربي، وخصوصاً قضية فلسطين وتحريرها من الاحتلال. وكذلك عبّر عن تجليات الحب، من خلال إعادة الاعتبار للجسد والعاطفة معاً. وكانت قصيدته تمثّل بصورة أو بأخرى "الناطق الشعري" عن المكبوت أو المقموع أو المحجوب في حياة العربي.

فتح نزار قباني الباب على أصوات من الشعر الأوروبي، خصوصاً الفرنسي، إذ كانت الفرنسية بمثابة لغة ثانية لديه، لذا يمكن القول إنه شكّل قنطرة بين عالمين شعريين، عبر معرفته العميقة بالشعر العربي، وعبر اطلاعه مباشرةً على بعض الشعر الفرنسي الجديد آنذاك، وانتهاجه رؤى جديدة في تجربته، فكان شاعراً مختلفاً بجدارة. وللمصادفة، أنه وُلِد في 21 آذار (مارس) 1923، وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، اعتمدت (21 مارس) يوماً عالمياً للشعر، خلال مؤتمر باريس عام 1999، أي بعد رحيل قباني، الذي وُلد في الربيع، وتُوفي في الربيع، وكانت تجربته ربيعاً جديداً في الشعرية العربية.

علي الحازمي: ذاكرة أجيال

قصائد نزار قباني عصية على النسيان والمحو، لذلك ستظل حاضرة في وجدان الناس ومخيلتهم لعقود طويلة، فهي قصائد حفرت عميقاً في ذاكرة أجيال عدة من الشعراء والقراء المحبين للشعر. ويكابر أولئك الشعراء الذين ينفون تأثرهم بتجربة نزار الشعرية، لأنهم يدركون أن قصائده لها سلطتها وطغيانها الآسر على الكثيرين. والحق يقال إن نزار ألقى بظلاله - بطريقة أو بأخرى - على أغلب التجارب الشعرية اللاحقة، والدارسون والمهتمون بالشعر يدركون جيداً أن دور نزار قباني تعدى دور الشاعر العادي، وذلك لإسهامه في لفت انتباه الكثير من القراء للشعر.

إن قصائد نزار الحريرية كانت تمتلك ذلك القدر العالي من العذوبة الآسرة، بالإضافة إلى أنها مثلت ثورة حقيقية على الشكل والموسيقى والعاطفة. ولعلنا لا نلمس في التجارب الشعرية الراهنة ذلك التأثر الشعري الواضح بتجربة نزار، لكن هذا بكل تأكيد لا ينفي أهمية تجربته وكونها فتحت آفاقاً شعرية واسعة أمام القصيدة الحديثة، وأسهمت في الوقت ذاته في خلق ذائقة جديدة جعلت القارئ معها منفتحاً ومتماهياً مع الأشكال الشعرية الحديثة".

عبود الجابري: التصدّي للتابوهات

لا أحد من الشعراء ينكر حضور نزار قباني في قاموس ذاكرته، حتّى أولئك الذين يزعمون أنهم مختلفون معه شعرياً. أتحدث عنا نحن الذين بلغنا الحلم العمري والشعري مطلع الثمانينيات، وكان نزار قباني حينذاك بطلاً في التصدي للتابوهات مثلما كان حاذقاً في اجتراح المجازات العسيرة على سواه من الشعراء. وفي اعتقادي أن التحرّر من التابو يمنح الشاعر قاموساً أوسع في تناول الشعر وكتابته. وقد كان لتجواله في عواصم العالم من خلال عمله في السلك الدبلوماسي، وهو ابن الثانية والعشرين، الأثر الكبير في اطلاعه على تجارب شعراء تلك البلدان، الأمر الذي أغنى مفكرته بالموضوعات والأساليب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نزار قباني شاعر كبير لا خلاف عليه، على رغم أني أميل إلى ما قاله أدونيس من أن جمهور قباني العريض لم يكن يحتفي بأهم قصائده، وإنما كان يحتفي بالسهل الذي تحتشد فيه الشعارات.

أحمد العجمي: خطر الذكورية

تجربة نزار قباني الشعرية تكرست في خطابين غير متصالحين، ضمن سياق الفترة التي ظهرت فيها تجربته وانتشرت جماهيرياً. الخطاب الأول سياسي، وهذا الخطاب يتسق مع فترة الصراعات السياسية والاهتمام به عربياً وعالمياً، سواء ما يتعلق بالقضية العربية ومقاومة الاستعمار والنهوض القومي، وما يتصل بالقضية الفلسطينية. وفي هذه الفترة سيطرت المحاميل السياسية على الشعر العربي، ولم تفلت تجربة نزار من طغيان الخطاب السياسي الصارخ والمباشر على الشعر كما هو سائد في تجربة الشعر العربي تلك الفترة.

ولكن نزار انفرد واشتهر بخطاب ثانٍ كان شبه محرم على الشعراء العرب، تحت تنظيرات سياسية تعتبر الكتابة في الحب مضرة بالهم العربي والفلسطيني، وأنها بمثابة مخدر للشعوب. وتعد تجربة نزار في المرأة والحب شرخاً جمالياً في تلك الفترة، فهو كسر التابو وأصبح موضوعا المرأة والحب موضوعيه الشعريين اللذين عرف بهما، واشتهر في أوساط الشباب بخاصة من النساء.

ومن الممكن الإشارة إلى تجربة نزار في خطوطها العامة، بأنها تفرد في الحب والغزل، وخروج عن السائد الثقافي والسياسي. وقد اتسقت هذه التجربة مع رومانسية السينما المصرية في أفلام الحب، كما اتسقت مع التيار النسوي التحرري الذي ظهر في تلك الفترة وطالب بتحرير المرأة. ولعل هذين العاملين ساندا تجربة نزار في هذا السياق.

وتميزت تجربة نزار بفحولية ذكورية ونرجسية سلبت الحب تساوي طرفيه والتكافؤ، وأبقت على المرأة في مستوى التابع والمستلَب. وغلب على أسلوبه القرب من التداولي والغنائي والتقريري والحسي والصوتي والبساطة وتحاشي الغموض الفني ليكرس جماهيرية الشعر التي نالها.

وتمظهرت جمالية التجربة، في غنائية نزار وإيقاعاته الرقيقة وفيض المشاعر والأحاسيس التي تطلبتها تجربة الحب والغزل. وأثرت تجربته في التلقي بقوة خلال حياة الشاعر، لكنها أخذت في التواري كأسلوب بعد رحيله، ولم يعد الشعراء الآن يتماهون مع التجربة لأنها توقفت عند زمنها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة