Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جمال القصاص يصور تراجيديا الزمن في "مثل قبلة وأكثر"

في ديوانه الجديد يتآلف الشاعر مع شيخوخته مكتفياً منها بإسناد الظل والاستعادة من البئر الأولى وإرجاعها لسنوات لهوه وطفولته

لدى الشاعر إحساس دائم ممض بالزمن (غيتي)

ملخص

في ديوانه الجديد يتآلف الشاعر جمال القصاص مع شيخوخته مكتفياً منها بإسناد الظل والاستعادة من البئر الأولى وإرجاعها لسنوات لهوه وطفولته

ما زالت قصيدة السبعينيات المصرية مثيرة للجدل، فقد جاءت رد فعل عنيفاً على ما سبقها من نتاج جيلي الريادة والستينيات، وبعد أن استقرت تقاليد الشعرية التفعيلية وأصبحنا أمام ما يعرف بـ"كلاسيكية قصيدة التفعيلة" في ما يقترب من "عمود الشعر الجديد". من أجل هذا جاء رد الفعل السبعيني ممثلاً في جماعتي "أصوات" و"إضاءة"، والأخيرة كان جمال القصاص أحد أبرز شعرائها ومنظريها. وامتازت شعرية السبعينيات عموماً بالاهتمام الجمالي وتركيبية الصورة الشعرية وكثافة اللغة. ومع ذلك يمكن القول إن شعرية جمال القصاص شهدت مراحل متتالية، حيث أصبحت مهمومة بوظيفية اللغة وتواصلها دون أن تتخلى عن مجازيتها المفارقة غير المألوفة التي تقوم على أنسنة الطبيعة والصور الاستعارية، مثلما نجد في قوله "الشمس لا تزال تعض أصابعها الملتهبة/ والسماء في كرسيها الهزاز تنتحل أعذاراً وهمية للهواء والأشجار/ لا عصافير في الشرفة/ لا مراكب تتزحلق فوق حبال الغسيل/ ماذا سأفعل بحنيني الباذخ لك/ شواربه استطالت/ انتفخ كبالون على وشك الانفجار/ والمطر لا يكف عن أسئلته الساذجة". هذه السطور من ديوان القصاص "مثل قبلة وأكثر" (دار ميريت – القاهرة)، والتي تعمدت إثباتها على رغم كثرتها، تقوم على آليتين شعريتين، الأولى – وهي الاستثناء – الاعتماد على التعبيرات الحقيقية مثل: لا عصافير في الشرفة، ماذا سأفعل بحنيني الباذخ لك، بينما تعتمد الثانية على التصوير الاستعاري على نحو ما نرى في الشمس التي تعض أصابعها الملتهبة، والحنين الذي استطالت شواربه، والمطر الذي لا يكف عن أسئلته الساذجة، أو الصورة التشبيهية كما نرى في الحنين الذي انتفخ كبالون على وشك الانفجار، والصورة الفانتازية التي تتضح في تلك المراكب التي تتزحلق فوق حبال الغسيل. ومع ذلك فإن هذه الصور لا تدفع السطور إلى حدود الإلغاز، بل تظل على تواصلها مع القارئ.

استدعاءات واقتباسات

كما تمتاز شعرية القصاص بالاستدعاءات التي يدخلها في بنية النص، مثل قوله "ثقلت مفاتنها عليك"، الذي كان في نص سابق للشاعر "ثقلت مفاتنها عليَّ"، أو "الغرام المسلح" الذي هو عنوان أحد دواوين الشاعر الراحل حلمي سالم، "هذا زمان الغرام المسلح/ ما أجمل أن تكوني عضواً في الناتو/ تستعرضين عضلاتك العاطفية برشاقة/ فوق حد السكين". هنا يختلط الغرام بالعنف كما يظهر في هذا التركيب اللافت "العضلات العاطفية"، ناهيك بوصف الغرام بالمسلح. وكذلك جملة "ليت الفتى حجراً" المقتبس من بيت شعر تميم بن مقبل: "ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر/ تنبو الحوادث عنه وهو ملموم". ومما يقال عن تسمية الشاعر الجاهلي "تأبط شراً" بهذا الاسم أنه "تأبط رمحاً وخرج"، وعندما سئلت أمه عنه قالت "تأبط شراً وخرج"، ويستعير القصاص هذا الاسم مع استبدال "ظلي" بالشر، "كل ما يشغلني أن أكتب الشعر/ أتأبط ظلي وأخرج/ لا أعرف إلى أين أذهب/ ولا متى سأعود/ يكفي طرقة واحدة على الباب/ ربما أتذكر أنني حي".

الحقيقة والوهم

الشعر إذاً غاية جمال القصاص، فهو سبب خروجه على غير هدى ولا ثقة في العودة، يكفيه – فقط – طرقة على الباب تذكره بأنه ما زال حياً، أو كما كان يقول صلاح عبدالصبور: "الشعر زلتي التي من أجلها خرجت/ من أجلها صلبت". هذه الحياة التي لا يشعر فيها جمال القصاص بأنها تختلف عن الموت تغدو – في سطور أخرى – محاصرة بالصرخات، وتصبح أداة التشبيه "كأن" فاصلة بين الحقيقة والوهم حين يقول "كأنه الجمعة/ كأنه السبت/ كأن خمس أصابع في كفي/ ماذا عساي أن أفعل/ أعرف أن فتافيت الغرام لن تصمد في الطبق/ أن الحياة محاصرة بأسيجة من الصرخات/ أن روحي لم تعد حرة/ أن القبلات ستغفو كثيراً في الفريزر". هذه السطور مقسمة بين "كأن" التي توحي بالشك والعيش في المنطقة البرزخية بين الحقيقة والتوهم، واليقين الذي يوحي به استخدام "أن" أربع مرات في السطور الأخيرة. ولأن صورة الحياة على النحو الماضي فإن الشاعر يرى الفوضى في أن يعيشها وأن يحلم فيها، وأن يتمنى البقاء فيها حين يقول "ثمة فوضى أن أعيش/ أن أحلم/ أن أمتلك حتمية البقاء لدقيقة واحدة". ولا شك أننا نلاحظ تتابع الجمل الخبرية القاطعة اليقينية، على رغم احتمال الصدق أو الكذب فيها. ولعلنا نلاحظ أيضاً تصاعد الرغبات التي يصفها الشاعر بالفوضى من مجرد العيش في الحياة، إلى الحلم، إلى حتمية البقاء.

مراثي الحنين

هناك – كما يبدو – إحساس دائم ممض بالزمن وكأن الشاعر يستحضر قول المتنبي "أتى الزمان بنوه في شبيبته/ فسرهم وأتيناه على الهرم (فهناك شعور مؤلم بشيخوخة الشاعر وغلظة الزمن، على نحو ما نقرأ) ما ذنب يدي/ خطى الزمن غليظة/ والتفاحة لم تعد تشتهي اللمسات الأخيرة". ولنا أن نتساءل: لماذا التفاحة تحديداً؟ هل لأنها رمز الغواية؟ أم لأنها أشعرت آدم بإنسانيته؟ ومن هنا تصبح رمزاً للمعرفة، كل ذلك وارد ويبقى أن هذه الثمرة كانت السبب في حياة آدم على الأرض واستعماره لها وكدحه – مرة أخرى - في الوصول إلى الله. وفي موضع آخر يعبر الشاعر عن شيخوخة الدهر، وأنه قد أتاه بعد أن شابت الحياة، أي إنه جاءه – كما كان المتنبي يقول – "على الهرم"، "لا أظن أنني سأبقى كثيراً هنا/ ربما يوماً أو يومين/ تعبت من مراثي الحنين/ من التفتيش في أصابعي وقصائدي/ عن امرأة شاب شعرها/ اسمها الحياة". يبدو الإنسان – أو لنقل الشاعر - في صراع مستمر مع الزمن الذي تصبح له الغلبة دائماً، ويتضح هذا في قوله "أنت هزمك المرض/ وأنا هزمتني الأيام/ خاسران يبحثان عن حطام أجمل للزمن/ عن حياة بها بعض الرمق".

هذه الحياة التي بها بعض الرمق تتوازى مع شيخوخة الشاعر نفسه التي يصفها بالطيبة الحنونة، ومن هنا تأتي ذكريات طفولته تعويضاً عن هذه الشيخوخة حين يقول "شيخوختي رشيقة جداً/ طيبة وحنونة/ طفلة تعرف كيف تسند ظلي/ تستعيدني من البئر الأولى/ تنفث دخانها فوق ظهري/ تضحك: ما زلت طفلاً ورعاً/ يلهو بالحصى مع البنات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التآلف مع الشيخوخة

لقد تآلف الشاعر مع شيخوخته مكتفياً منها بإسناد الظل والاستعادة من البئر الأولى وإرجاعها – تذكراً - لسنوات لهوه وطفولته. وعلى رغم هذه الحيوية التي تبدو عليها شيخوخة الشاعر، فإن الخشية من تآكل الأيام والطبيعة تظل قائمة... "النهار عرس الطبيعة/ أصابعه لم تعد رنانة/ أخشى أن تتآكل من صدأ النوم". وإذا كانت العودة إلى الماضي مقاومة لحاضر الزمن، فإن الحلم بالمستقبل استمرار لهذه المقاومة. يقول "في هذه السن المضطربة/ ليس أجمل من أن أحلم/ ألملم العالم في كفي". ويمكن القول إن تيمة الزمن هي المهيمنة على هذا الديوان، وهذا ما يسبب الشعور بالملل والسأم، "كأني غريب عن نفسي/ عن صوتي/ عن رائحتي"، هذا الإحساس بالغربة والسأم والملل ومرض الأيام يدفع إلى الخوف الذي صار "ثدي الغواية/ مرض السلطة"، هذا الخوف الذي أصبح "لا لقاح له". وامتداداً لهذا السياق تصبح "العزلة" ضرورة "بعيداً من ماض لم يعد صالحاً للمضغ أو الشكوى/ بعيداً من غد يتعثر دائماً في قطرة". بين هذين البعدين، الماضي والغد بصفاتهما السابقة، يصبح الشاعر راغباً في بهاء السقوط ومنتظراً له: "صرخة مهولة/ يوماً ما/ ستمنحك بهاء السقوط". وإمعاناً في الاغتراب يقوم الشاعر أحياناً بآلية التجريد حين يخاطب نفسه كأنه شخص آخر: "صديقي جمال القصاص/ لم أقصد أن أزعجك في هذا المساء/ أو أنتشلك من شرك المحبة". ويبقى الحب هو القيمة الكبيرة القادرة على مغالبة الزمن والانتصار عليه... "تعرفين أنني أفكر فيك دائماً/ أن الحب ينتهي ليبدأ/ ثمة شيخوخة أخرى تنتظرنا/ ثمة لهفة/ ستموت لو أعطيناها اسماً"، كما أنه – أي الحب – قادر على قلب الحقائق المؤلمة وتحويلها إلى أشياء أخرى تمنح الحياة بهاءها، لهذا يتمسك به الشاعر حتى ينفد القلب والحلم والحبر. إن كل ما سبق يؤكد درامية هذه القصائد التي تصل إلى حدود التراجيديا في الصراع غير المتكافئ بين الإنسان والزمن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة