Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخرطوم تبني إرثا من المواجهات العسكرية

قبل هذه المعركة شهدت العاصمة السودانية أحداثاً كثيرة على وقع محاولات انقلابية فاشلة ومكتملة

تفجرت الأحداث بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وتحولت إلى مواجهات عسكرية فاجأت سكان العاصمة الخرطوم (رويترز)

ملخص

اتخذت المواجهات في #الخرطوم شكل "حرب المدن" نسبة إلى تمركز القوات والمعدات العسكرية خلال #المعارك وتنقل الدوريات بين الأحياء السكنية واستهداف #المدنيين وسقوط ضحايا داخل منازلهم

في العاصمة السودانية الخرطوم التي انقطع إيقاع يومياتها العادية وطقوسها الرمضانية واحتفائها التقليدي بقرب عيد الفطر، لا شيء يفصل بين صوت المدافع الثقيلة وأزيز الطائرات الحربية، سوى الترقب. وهو ما أوقف حركة الحياة، فالمحتمون في منازلهم يتابعون مع دوي الانفجارات الأخبار المتضاربة، لا يبحثون عن منتصر في معركة الكل فيها خاسر، وإنما عن نهاية قريبة لأزمة حكم طال أمدها. وبعد أن كان الأمل معقوداً على الوصول إلى إصلاح سياسي واقتصادي بات الرجاء منصباً على حقن الدماء.

آخر ما كان يتوقعه السودانيون هو أن يستيقظوا صبيحة 15 أبريل (نيسان) الجاري على تحول الخرطوم إلى "مدينة أخرى"، صحيح أن مظاهر العسكرة ظلت مقلقة طوال الفترة الماضية، إلا أن التطمينات أيضاً ظلت متواصلة إلى قرب انتهائها بعد اكتمال تنفيذ بند الترتيبات الأمنية ودمج الحركات المسلحة وقوات الدعم السريع. وهذا تحديداً ما فجر الأحداث وحولها إلى مواجهات عسكرية فاجأت سكان العاصمة، وانتقلت إلى مدن أخرى بين مقار الجيش وقواعد "الدعم السريع"، في ولايات القضارف وكردفان ودارفور وبورتسودان، وربما تمتد إلى مدن أخرى وتخلف أعداداً إضافية من الضحايا والمصابين الذين يقطنون قرب المواقع والقواعد العسكرية. غير أن الخرطوم ونسبة إلى تمركز القوات والمعدات العسكرية فقد اتخذت شكل "حرب المدن"، من هجوم وهجوم مضاد وتنقل الدوريات بين الأحياء السكنية واستهدافها بين المدنيين، وسقوط ضحايا داخل منازلهم.

حركة يوليو 76

قبل هذه المعركة شهدت الخرطوم أحداثاً كثيرة على وقع محاولات انقلابية فاشلة ومكتملة، ولكن وجه الشبه مع المواجهة الحالية هو تفاجؤ سكان الخرطوم خلال عقود سابقة بالمواجهات العسكرية، ومنها ما حدث في السبعينيات، وتحديداً بعد ظهر يوم الجمعة 2 يوليو (تموز) 1976 حين تحول نهار الخرطوم إلى ليل، إذ روع المواطنين دوي القنابل والرصاص، بعد أن تمكنت قوة مسلحة قادمة من ليبيا عبر الصحراء الكبرى بغرض قلب نظام الحكم من فرض سيطرتها على الخرطوم، وحاصرت مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، وقطعت عن المواطنين القابعين في منازلهم في عطلة نهاية الأسبوع الإرسال الإذاعي مما أحدث تعتيماً إضافياً حول ما هو كنه هذه القوة ومن أين أتت. استمر ما سماه الرئيس آنذاك جعفر النميري بـ"غزو المرتزقة" ثلاثة أيام، استجمعت خلالها القوات المسلحة قواها وواجهت القوة المهاجمة في معـركة أدت إلى تدمير مبنى "المؤسسة العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية" (دار الهاتف)، وأوقعت ما يزيد على 100 قتيل من الطرفين، ثم استعادت القوات المسلحة الإذاعة والتلفزيون، وبقية مواقعها الاستراتيجية، ودمرت بقية القوة التي كانت مرتكزة بأرض مطار الخرطوم الدولي. وأثناء ذلك تكشفت حقيقة الهجوم الذي نفذته "حركة الجبهة الوطنية" المكونة من أحزاب "الأمة" و"الاتحادي الديمقراطي" و"الحركة الإسلامية" لمواجهة "نظام مايو" بدعم من نظام معمر القذافي. ووضع خطة الحركة سياسيون وعسكريون، على رأسهم القيادي بالحزب "الاتحادي الديمقراطي" الشريف حسين الهندي الذي كان معارضاً بارزاً لنظام النميري، والعميد محمد نور سعد الذي تولى التدريب في المعسكرات وسميت الحركة باسمه.

وطالت المعارك بين القوة والجيش مواقع داخل العاصمة وأدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، وكتب عنها كثيرون، منهم المفكر والسياسي السوداني منصور خالد الذي ذكر "لم ينج النميري والوزراء المرافقون له، وكنت واحداً منهم، إلا لوصول طائرتنا قبل نصف ساعة من الموعد المقرر مما ضاعف من إيمان الرئيس بوسطائه السماويين. كان المتمردون قد استولوا قبل وصولنا على عديد من المواقع بسرعة فائقة كما حاصروا القوات الموجودة بالقيادة العامة للجيش". ومن أهم ما ذكر عن تلك المواجهة أن "الحماس الطاغي الذي أبداه الجيش في مجابهة حركة يوليو 76 إنما يعزى أساساً لتحدي مجموعة مدنية غير نظامية جيشاً نظامياً، كان الأمر بالنسبة إلى الجيش أمر كرامة وشرف عسكري أكثر منه تأكيداً للالتزام بالنظام القائم أو رئيسه".


غزوة أم درمان

وفي عهد الرئيس السابق عمر البشير، نفذت حركة "العدل والمساواة" المتمردة على النظام آنذاك، هجوماً على العاصمة الوطنية أم درمان، بدعم من النظام التشادي ورئيسه آنذاك إدريس ديبي، مستهدفة قاعدة وادي سيدنا الجوية الاستراتيجية العسكرية. فوجئ المواطنون في العاشر من مايو (أيار) 2008 بأرتال من السيارات العسكرية دخلت إلى المدينة من جهتها الغربية قادمة من دارفور. وبعد وصولها إلى قلب أم درمان تعالى صوت المروحيات التابعة للقوات المسلحة في سماء العاصمة تحاول رد الهجوم، وتم تبادل إطلاق النار ونيران المدفعية. وانقسمت الحركة إلى قوتين، الأولى توجهت نحو مبنى الإذاعة والتلفزيون، والثانية تحركت نحو جسر النيل الأبيض متوجهة إلى الخرطوم قاصدة القصر الرئاسي، ليتم صد الهجومين من قبل القوات الحكومية.
استمر القتال ليومين وخلف نحو 100 ضحية من القوات المسلحة والشرطة، و30 مدنياً وأكثر من 100 قتيل من حركة "العدل والمساواة". ودمر الجيش أكثر من 40 من سيارات الحركة واستولى على نحو 20 أخرى، بعدها استسلمت حركة "العدل والمساواة" معترفة بهزيمتها.
سميت تلك العملية "الذراع الطويلة" وتردد أنها كانت بإيعاز من حسن الترابي، وأن الحركة كانت تمثل الجناح العسكري لحزب "المؤتمر الشعبي" بعد الخلاف بينه وبين البشير، ثم المفاصلة الشهيرة في عام 1999. وقائدها هو خليل إبراهيم، شقيق وزير المالية الحالي، والذي تسلم قيادة الحركة بعد مقتل الأول في غارة جوية في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2011.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


ممرات آمنة

تمثل المعارك الحالية مسرح عمليات مغلقاً للخرطوم والتي في حال إغلاق الجسور على النيلين الأزرق والأبيض، والرابطة بين مدن العاصمة الثلاث، ستفصلها عن مدينتي أم درمان وبحري، وهو ما يضيق مساحة القتال ويزيد من معاناة المدنيين الذين يعيشون حالياً أوضاعاً إنسانية قاسية، بتقييد حركتهم، وإغلاق المحال التجارية ومراكز الخدمات، وغيرها مما توفر لهم مستلزمات الحياة.
وتحركت الأمم المتحدة إثر مناشدة وجهتها "لجنة الأطباء المركزية" لجميع القوات بضرورة فتح ممرات آمنة لخروج مرضى يعانون أمراضاً مزمنة ويحتاجون إلى رعاية أولية ومباشرة مثل مرضى الكلى في مركز غسيل الكلى الرئيس بالخرطوم بالقرب من القيادة العامة للقوات المسلحة، ومرضى السرطان بمستشفى الذرة في شارع القصر الجمهوري.
لا توجد بيئة أكثر تحدياً للقوات من الطرفين مثل مدينة الخرطوم المأهولة بالسكان، لذا يكون القتال مدمراً لكل شيء، الإنسان والبنى التحتية التي تضعضعت بفعل ما صاحب التظاهرات طوال الأعوام السابقة. من ناحية أخرى، يظهر استجلاب الجيش وقوات الدعم السريع قواتهما من خارج المدينة أنه لم يكن هناك تخطيط لإدارة المعركة، وإنما اضطرا إليها. وطبيعي ألا توضع تقديرات لاستخدام أي نوع من الأسلحة تناسب نوع السكن المتفاوت بين أحياء متقاربة تربطها طرق رئيسة، والأسلحة التي تناسب المباني العالية والعمارات السكنية بمرافقها الخاصة أو البيوت الشعبية بأزقتها الضيقة. وبين كل هذا وذاك لن يحد من إطلاق النار العشوائي، كل على مقار ومعدات خصمه، إلا وقفها قطعياً، لأن أي طلقة هي صائبة وبين أيدينا حصيلة ضحايا يومية من المدنيين على رغم اجتهادات اللوذ بعيداً قدر ما يستطيعون.


حرب المدن

بالنظر إلى وقائع حركة يوليو ثم غزوة أم درمان ومعارك الخرطوم اليوم ثم بالرجوع إلى حروب في مدن أخرى في أفريقيا والشرق الأوسط، يمكن القول بمثل ما جاء به رئيس وحدة حماية السكان المدنيين باللجنة الدولية للصليب الأحمر، ربيلار خيمينو سارسيادا، "ليست حرب المدن ظاهرة جديدة. ظهرت المدن كمرحلة للعنف منذ أن بدأ البشر في بنائها".
وعلى رغم ارتباط حرب المدن بالوسائل الحديثة التي تحاول تحييد المواطنين، وتفشل أخيراً، فإن القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يستخدم الأساليب التقليدية مثل المدفعية والقذائف وقد يتبعها بوسيلة أكثر تقليدية وهي الحصار، نظراً إلى الطبيعة الجغرافية للعاصمة السودانية. ويكون التفكير في هذه الحالة مسيطراً عليه من واقع القيمة الاستراتيجية للمدينة بوصفها أساس السلطة وعصب حياة الناس ومعاشهم ومحور تحركهم الاجتماعي. فتتعطل الخدمات متأثرة بطريقة مباشرة وغير مباشرة بالعنف. ومثلما ظهر خلال هذين اليومين فإن سكان مناطق عدة من العاصمة حرموا من الطعام والمياه والكهرباء والرعاية الصحية والعلاج. ولا تشكل هذه الحاجات أزمة لدى طرفي النزاع، ولا تهزم هذه النظرة إلا عندما تعظم التحديات الإنسانية والقانونية والعسكرية، فيتبارى الطرفان بالإعلان عن فتح ممرات آمنة محددة زمنياً من المفترض أن يتوقف خلالها النزاع، ولكن يصاحب ذلك شك في الالتزام بها أو بجدواها، أو بتجدد اتهام كل طرف للآخر بخرقها.
خلال مناقشة مفتوحة حول الحرب في المدن أمام مجلس الأمن في 25 يناير (كانون الثاني) 2022، تم إيجاز رؤية مفادها أن حرب المدن ستستمر في تدمير وقتل وتشويه المدنيين في جميع أنحاء العالم ما لم تعتمد الدول أدوات فعالة لعكس الاتجاه الحالي للإفلات من العقاب والتزام جميع الأطراف القانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة ضرورية في وقت يواجه فيه 50 مليون شخص حالياً العواقب الوخيمة لحرب المدن. فعند استخدام الأسلحة المتفجرة في المدن فإن 90 في المئة من المتضررين هم من المدنيين. ودعا الدول الأعضاء إلى إظهار الإرادة السياسية للتحقيق في جرائم الحرب المزعومة ومقاضاة مرتكبيها.

المزيد من تحلیل