Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفيلسوف باسكال وجد في العقل عظمة الإنسان وشقاءه

 فرنسا تحتفل به في ذكراه المئوية الرابعة وبفلسفته التي امتزج فيها وجع الذات بالعالم ومديحه المعرفة الحدسية والقلبية

الفيلسوف باسكال تحتفل فرنسا بذكراه المئوية الرابعة (مؤسسة باسكال)

ملخص

تحتفل #فرنسا بالمئوية الرابعة لولادة #الفيلسوف والعالِم الفرنسي بليز باسكال المولود عام 1623، الذي مزج في فلسفته وجع الذات بالعالم ومدح #المعرفة الحدسية والقلبية

تحتفل فرنسا هذا العام بالمئوية الرابعة لولادة الفيلسوف والعالِم الفرنسي بليز باسكال المولود في مدينة كليرمون- فرّان عام 1623، وتم الاعلان عن مجموعة من المؤتمرات الجامعية والندوات والمحاضرات العامة والحفلات الموسيقية والمسرحيات والمعارض الاستعادية لحياته واختراعاته وكتاباته. ولعل هذه المناسبة المئوية فرصة للتذكير بالمكانة التي يستحقها هذا العبقري المتميز في عمله في مجال الأدب والفلسفة والعلوم.

بليز باسكال الذي غيبه الموت في 39 من عمره عام 1662، هو أول من اخترع آلة كانت في أصل الآلات الحاسبة وأجهزة الكمبيوتر، وهو أول من أتقن حساب الاحتمالات والتفاضل، واستخلص نظرية التساوي بين قائمتي المثلث وزواياه، ومعادلة منحني الدائرة الدوارة. وأدت أبحاثه وتجاربه على الفراغ والسوائل والضغط الجوي، إلى اختراع البارومتر وبعض معدات الأرصاد الجوية، ومقياس الارتفاع، وأولى حافلات النقل العام في باريس. وإن ننس فلا ننس كتابه الأشهر "الخواطر" الذي نُشر للمرة الأولى عام 1670 وهو عبارة عن شذرات أو تأملات في الفلسفة والدين وزعها على وريقات علقها بخيط رفيع من دون أن يكون ثمة ترابط بينها، وقد نقلها ببراعة إلى اللغة العربية في السبعينيات من القرن المنصرم إدوار البستاني ونشرت في سلسلة "مجموعة الروائع الإنسانية". فضلاً عن "الرسائل الإقليمية" الشهيرة التي ارتبطت بأحداث القرن السابع عشر في باريس والصراع العنيف الذي قام بين اليسوعيين الموالين للسلطة وجماعة بور رويال معلمي باسكال وعلى رأسهم أنطوان آرنو.

الغرض من هذه المناسبة ليس إذاً إحياء ذكرى ولادة الفيلسوف فحسب، بل إعادة ربط ما قام به بتاريخ الأمكنة التي عاش فيها، لا سيّما مدينة كليرمون- فرّان وباريس، وتسليط الضوء على أعماله وأبحاثه المهمة التي ما زال تأثيرها قائماً حتى اليوم. 

بليز باسكال الذي فقد أمه وهو في الثالثة من عمره والذي عانى من أمراض شتىّ، تمكن بفضل والده إتيان المهتّم بالعلوم وصديق كبار علماء الفيزياء والرياضيات في عصره، وبفضل حنان شقيقتيه جيلبرت وجاكلين، وشغفه بالمعرفة، من متابعة دراسته وأبحاثه العلمية واختلاطه على صغر سنّه، بأهم العلماء والفلاسفة وعلى رأسهم ديكارت الذي استقبله في باريس مرتين وعالم الرياضيات اللامع بيار دو فيرمات.

 استشعار القلب

غير أن اهتمام باسكال بالفلسفة والعلوم لم يمنعه من الإيمان بالله، حتى لكأنه شعر برؤية الحضرة الربانية. فكرسّ العديد من كتاباته للدفاع عن الإيمان، وهو عنده "استشعار الله بالقلب لا بالعقل" ودخل في جدالات عقائدية عديدة قامت بين اليسوعيين وجماعة بور رويال التي انتمى إليها. ولعل نتاجه الفلسفي الذي تناول مواضيع امتزج فيها وجع الذات بالعالم ببراعة وبلاغة فريدة، لا سيّما على مستوى الفعل الإنساني أو ما يعرف فلسفياً بالأخلاق والمنظومات القيمية، يطرح علينا سؤال راهينته وكيفية قراءته اليوم. إذ أن الغموض والابهام ما زال يلف بعض فكره الذي عبّر عنه في نثار "خواطره" المفككة وغير المكتملة والتي لا تزال تعتبر من كلاسيكيات الكتب الفلسفية، علماً أن ناشره الأول أسقط من هذا الكتاب بعض الشذرات بناءً على نصائح مريدي باسكال وأصدقائه، لا سيّما تلك التي تحمل بعداً شكيّاً أو التي تعلقت بالجدال القائم بين جماعة بور رويال والسلطتين السياسية والكنسيّة.

 لكن هذا الكتاب على صعوبته، إن لناحية مبناه أو لناحية معناه، ما زال يأسر القارئ بعمق أفكاره ولو بقيت معظم إشكالياته على غوامضها معلقة، لم تجد لها حلاً. ولئن تحرّك باسكال فوق رقعة واسعة من الموضوعات، فإن قراءته الممتعة التي تثير حماسة القارئ وتحمل معانيَ كثيرة، سمحت بتعدد تأويلات فقراته المبعثرة على وريقات هنا ومن دون تلاحم بينها. وقد جاء بعضها تاماً في وضوحه وروعته، وبعضها الآخر قلق التركيب مضطرباً. غير أن هذه التأويلات على كثرتها ترافقت دوماً مع القلق المتعلق بالمعاني المعطاة لكلمات الفيلسوف ولتجميع شذراته المقتضبة حيناً والمستفيضة أحياناً، والتي ما زال الدارسون منذ قرون يدافعون عن أطروحاتهم المتعلقة في كيفية ترتيبها وتقسيمها بما يتوافق مع ما أراده المؤلف. ولعل ليون برنشفيك الذي راجت طبعته في النصف الأول من القرن العشرين، بعد طبعة فيكتور كوزان في القرن التاسع عشر التي نشرت النصّ الأصلي كله، لم يقحم نفسه في هذه الجدالات، بل اكتفى بتصنيفها وفق المسائل التي تثيرها، بحيث يتمكن الدارس من الوصول إلى بعض الخلاصات التي يمكن التنسيق بينها بطريقة منطقية.

 من هذه الخلاصات تمسك باسكال الصادق بإيمانه، ولو عارض فهمه للدين والتفاسير المعتمدة من قبل اللاهوتيين والعلماء، هو المشهور برِهانِه الذي أكد فيه ضرورة الإيمان بالله. ومنها أيضاً تفكّره في تحديد ماهية اليقين والحقيقة من خلال مساهمته في التفكير في فلسفة الرياضيات في كتاب بعنوان "في روح الهندسة وفن الاستمالة"، الذي لم ينشر إلا بعد قرن من وفاته.

بين الفلسفة والهندسة

في هذا الكتاب تأملّ باسكال في قدرة الإنسان على الوصول إلى الحقيقة من خلال الدفاع عن أطروحةٍ مفادها ضرورة الانطلاق في العلم الهندسي، من مسلمات تمّ إثبات حقيقتها بالفعل. غير أنه سرعان ما أكد أن هذا الانطلاق شبه مستحيلٍ. ذلك أنه لإثبات هذه المسلمات والتعريفات والاستدلال على صحتها، يجب على المرء الاعتماد على مسلمات أخرى. وهذا ما يعني بالضرورة استحالة الوصول إلى المبادئ الأولى. إن المسار المتبع في الهندسة من وجهة نظر باسكال هو إذاً مسار مثالي قدر الإمكان، لأن المبادئ التي ينطلق منها عالِم الرياضيات ليست كلها مبرهنة، غير أنه انطلاقاً منها يستطيع استنتاج مسلمات أخرى، مؤكداً بالتالي استحالة معرفة ما إذا كانت المبادئ والبديهيات الأولى صحيحة.

ما قاله باسكال في هذا الصدد يتوافق مع ما سبق ودافع عنه مونتاني في أن الوصول إلى اليقين بشأن المسلمات والبديهيات والاستنتاجات المتعلقة بها من خلال الطرائق والإمكانيات الفكرية البشرية أمر مستحيل. فالإنسان "بما يملكه من الكينونة يحجب عنه معرفة المبادئ الأولى المولودة من العدم، واليسير الذي يملكه منها يستر عنه منظر اللانهاية". لذا نرى الفيلسوف يدافع عن فكرة أن هذه المبادئ لا يمكن فهمها من قبل الإنسان المحدود في كل شيء، إلا عن طريق الحدس أو القلب. ما يعني أن الحقيقة العلمية تؤكد ضرورة الخضوع لله في البحث عن الحقيقة وبأن الإنسان من دون الله في شقاء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن الخلاصات البسكالية المهمة على الصعيد الفلسفي تحديده للإنسان" هذا العدم تجاه اللانهاية"، والتأمل في ماهيته بوصفه "عود قصب، وأوهن ما في الطبيعة". لكن هذا العود يتميز بالعقل، أي أنه يتمتع بقدرات فكرية وطاقات خلاّقة. لكنه يملك بالإضافة إلى العقل جسداً فانياً وانفعالات شديدة. فهو قادر على أسمى الأفكار وأدنى الأحاسيس. غير أن العقل من وجهة نظر باسكال هو في الوقت عينه سرّ عظمة الإنسان وشقائه. فهو "عاجز عن المعرفة الأكيدة وعن الجهل المطلق. ما إن ينتهي إلى مستقرّ ويحسب أنه تمسك به ورسى حتى يهتز وينهزم". من هذه الزاوية كان دفاع الفيلسوف عن الشعور "لأن العقل برأيه، يعمل ببطء وهو دائم الاستطلال على مبادئ يجب أن تكون حاضرة أبداً، وهي من الكثرة بحيث أنه يخمد ويضل لقصوره عن استحضارها جميعاً. أما الشعور فشأنه غير هذا، إنه يعمل فوراً، وهو أبداً على أهبة العمل، فيجب إذاً أن نضع إيماننا في الشعور". ذلك أن "للقلب حججه التي لا يعرفها العقل". من هنا كان اهتمامه أيضاً بالتفكير في ماهية المخيلة "هذا الجزء الخلاّب في الإنسان"، في زمن العقلانية، ومحاولة نبذه للحرب قائلاً: "لماذا تريد أن تقتلني، عجباً! ألا تقطن في الضفة الأخرى؟ لو كنت تقطن في ضفتي لكنتُ سفاحاً ولكان قتلك على هذه الصورة عملاً ظالماً. لكن، بما أنك تقيم في الضفة الأخرى لذلك أنا مقدام وعملي عادل".

لا شك أن كتابات باسكال الأدبية والفلسفية والعلمية تعدّ واحدة من الروائع والمعالم في الفكر والأدب الفرنسيين والعالميين، ولعلها بحسب الناقد سانت بوف من أفضل ما كتب في اللغة الفرنسية. هي انتفاضة في وجه العقلانية المتشددة والمادية المطلقة والورع الأعمى. ولعلها على غوامضها ما زالت تخاطب عقول كثيرين وقلوبهم، ليس فقط على الصعيد النظري، بل على الصعيد العملي، إذ لم يكتفِ الفيلسوف بالحديث عن أفكاره ومبادئه، بل عاشها حتى الثمالة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة