Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

6 أبريل 1985: أسطورة منشأ ثورية

لم يستغرق انقلاب سوار الذهب غير أيام ليستغني عن الحكومة الانتقالية في حين صبر انقلاب البرهان نحو 3 أعوام

قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان يتحدث خلال المؤتمر الخامس للدول الأقل نمواً (LDC5) في الدوحة (أ ف ب)

ملخص

6 أبريل و11 منه أيقونتان في التقويم السياسي بل الروحي السوداني فهما يوما نجاح #الثورة_المدنية بكلفة فادحة في إسقاط نظامين ديكتاتوريين حكما نحو نصف قرن بيد من حديد

 رتبت قوى الحرية والتغيير (المركزي) للتوقيع على الوثيقة الخاتمة للاتفاق الإطاري الذي جرى توقيعه في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2022 مع العسكريين، ليكون التوقيع على الوثيقة في 6 أبريل (نيسان)، ثم يجري إعلان الوزارة الجديدة 11 منه.

واليومان، 6 أبريل و11 منه أيقونتان في التقويم السياسي، بل الروحي، السوداني، فهما يوما نجاح الثورة المدنية بكلفة فادحة في إسقاط نظامين ديكتاتوريين حكما نحو نصف قرن بيد من حديد. ففي 6 أبريل سقط نظام المشير أول جعفر نميري (1969-1985) بثورة سلمية حركت القيادة العامة للقوات المسلحة للاستجابة لها، فنزعت الحكم من متوليه بانقلاب عسكري.

أما 11 أبريل فهو يوم سقوط نظام الفريق الركن حسن أحمد البشير بثورة 18 ديسمبر 2018. وكان الثوار قد استلهموا نجدة القوات المسلحة لثورة 1985، فاقتحموا القيادة العامة في 6 أبريل 2019 واعتصموا بها حتى يرحل النظام. وتحركت القوات المسلحة في 11 أبريل بانقلاب كتب السطر الأخير في نظام ران على السودان لثلاثة عقود بالتمام والكمال.

لا شك أن هذه الأيام، 6 أبريل و11 أبريل، مما يسر خاطر الأمة التي طلبت الحرية غلاباً. ولكنهما مع ذلك مما يعرف بـ"أسطورة المنشأ". وهي التي تؤسس بها جماعة لوجودها، أو إشراق حادثة فيها، بمأثرة قد لا تكون وقعت كما تصوروها، أو اقتدوا بها.

لا غرو أن انقلاب الجيش على نميري في 6 أبريل 1985 هو الذي ألهم ثوار ديسمبر 2018 لاقتحام قيادة القوات المسلحة في 6 أبريل 2019 يسألونها الانحياز لصفها وخلع النظام، فقد ظلوا في الشارع لنحو أربعة أشهر يلقون من النظام الأمرين. وأرادوا باعتصامهم عالي الكلفة في القيادة أن يحملوا الجيش على استعادة سيناريو 1985 وينحاز لثورتهم بانقلاب مثل ما وقع في أبريل 1985.

سيدور فحص أسطورة منشأ 6 أبريل على مدار السؤال إن كان انقلاب الجيش في 1985، الذي استلهمه الثوار في 2019، انحيازاً للثورة أم أنه ضيق بها وإعمال للفرامل حتى لا تخرج عن اليد مرة واحدة. والانقلاب من هذه الشاكلة معروف بانقلاب "الفيتو"، أي إن الغرض منه هو تجميد الثورة عند نقطة ما مع تبييت النية للقعود لها كل مقعد لزعزعتها حتى تلفظ أنفاسها غير مأسوف عليها. فهذا التذرع بالانحياز لها في أحسن أحواله "سر الليل" الذي تتدارك به قيادة الجيش انقلابياً ثورة لو خرجت من يدهم بالكلية لحدث ما لا يحمد عقباه.

وخلافاً للقول إن انقلاب 1985 كان انحيازاً للشعب صح القول إنه لم يكن سوى مغادرة الجيش لسفينة نظام يغرق بعد استنفاد عمره الافتراضي. ولا أعرف وصفاً لانحياز المضطر ذلك كوصف فوزي بشرى، الإعلامي بقناة "الجزيرة"، الذي قال إن ثورة الشعب لم تترك للعسكريين خياراً غير الانحياز لها بانقلاب "وضع القدم" في الباب.

كان زعم انقلاب 1985 أنه انحياز للشعب شيئاً وواقعه شيئاً آخر. فلم ينجح ذلك الانقلاب في لجم الثورة دون غايتها في حكم مدني ديمقراطي بإرادتها فحسب، بل قضي عليها قضاءً مبرماً في بحر السنة التي قررها مدة للفترة الانتقالية العاقبة. فكأن أول ما شرع فيه هو إزاحة الشعب الذي انحاز له من مسرح السياسة بالكلية مما وثقت له الأكاديمية البريطانية ويلو بيردج في كتابها عن ثورتي 1964 و1985 (2015).

فلم يقبل الشعب الذي قام بالثورة في أبريل 1985، ممثلاً في التجمع النقابي، الذي بمثابة قوى الحرية والتغيير في ثورة 2018، بانقلاب الجيش الذي كون المجلس العسكري الانتقالي من طرف واحد. وأعلن التجمع مواصلة الإضراب العام، الذي كان أشهره بوجه نظام نميري، حتى يسلم العسكريون الحكم للمدنيين عن يد وهم صاغرين، ولكن القيادة العسكرية للانقلاب طلبت بفض الإضراب ملوحة بما سيتكبده الاقتصاد من جرائه. وأرسلت قوة عسكرية لإدارة الكهرباء لفك إضراب مستخدميها.

وكرد فعل رتب التجمع النقابي تظاهرة بمذكرة للقيادة العسكرية لتسلم مقاليد الحكم للمدنيين تهتف "لا بديل لحكم الشعب". ونقل عن اللواء عبدالرحمن سوار الذهب، القائد العام وقائد الانقلاب، إنه قال إن النقابات ناصبتنا العداء وطالبونا بالعودة للثكنات، ولكننا أخفناهم في اجتماع لنا بهم ففضوا الإضراب.

لم يكفِ التجمع النقابي مع ذلك من الاحتجاج على الانقلاب العسكري. فتقدمت نقابة الأطباء، رأس الرمح في الثورة واستحق نقيبها الجزولي دفع الله رئاسة الوزراء بهذه الصفة، بمذكرة للمجلس العسكري طالبت فيها بإلغاء حالة الطوارئ، وتكوين برلمان للثورة من النقابات، واستبدال الحكام العسكريين في المديريات بمدنيين، وإلغاء قوانين سبتمبر 1883 الإسلامية. ولم يسمعوا من المجلس.

من الجهة الأخرى سيرت نقابة البنوك تظاهرة تطالب بفصل مديري البنوك لدورهم في تخريب الاقتصاد والفساد. ففرقتها الشرطة. ولم تمر ثلاثة أيام على ذلك حتى أعلن العسكريون حظر التظاهر. ورفض المجلس، الذي لم يجرؤ على فصل أي مصرفي فاسد، مطلب إعادة من فصلهم نظام نميري للعمل.

وتدخل المجلس العسكري بلا اختصاص حتى في صورة ما ستكون عليه الفترة الانتقالية وصورة الديمقراطية للبرلمان القادم. فكان التجمع تنازل عن رأيه أن تكون الفترة الانتقالية خمس سنوات ليتفق مع الأحزاب على قصرها على ثلاث. ولم يقبل المجلس العسكري بذلك وقرر من طرف واحد أن تكون الانتقالية لمدة سنة واحدة.

من الجهة الأخرى رفض المجلس العسكري تصوراً للتجمع والأحزاب لديمقراطية توافقية تسمح للقطاعات الحديثة في المدن بتمثيل يوازن غلبة الريف الذي يعيد إنتاج برلمانات تهيمن عليها الأحزاب التقليدية. وهذا التصور لديمقراطية توافقية مستدامة قديم، كانت البذرة الأولى فيه بعد ثورة أكتوبر 1964. ولم يتحقق منه شيء. وتواضعت الأحزاب والتجمع في 1985 على تصور توافقي لا ننشغل هنا بتفاصيله، إلا أن المجلس العسكري الانتقالي رفضه، ولم يبقَ من التوافقية تلك فيه سوى دوائر مخصصة لخريجي الجامعات. وهي دوائر عرفت بـ"دوائر الخريجين" جرى اقتطاعها لخريجي المدارس العليا منذ أول انتخابات برلمانية تحت الاستعمار الإنجليزي في 1954 تمهيداً  للحكم الذاتي، فالاستقلال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهكذا عاد البرلمان التقليدي في انتخابات 1986 بمشكلته الأزلية، وهي تغلب القوى التقليدية بغزارة جمهورها على مقاعده. فتعتزله القوى الحديثة في المدينة لأنها لا ترى صورتها فيه. فتنقلب عليه لما بيدها من أدوات الدولة، وعلى رأسها القوات المسلحة.

ومن الجهة الأخرى بدأ المجلس الغزل مع الجبهة القومية الإسلامية، بقيادة المرحوم حسن الترابي، ممن عرفت وقتها بـ"السدنة" لمظاهرتها نميري منذ المصالحة الوطنية في 1977 حتى مغرب عهده في 1985. فاعتزلتها قوى الثورة كما تفعل اليوم مع أنصار الإنقاذ الذين تسميهم "الفلول". فتكونت هياكل الوزارة الانتقالية في 1985، وقد خلت من أي ممثل للجبهة القومية الإسلامية. ولم يتفق المجلس العسكري مع التجمع النقابي في عزل الإسلاميين. فأرسل طائرة خاصة لمدينة الأبيض بغرب السودان الأوسط لنقل حسن الترابي، الذي كان اعتقله نميري مع نفر آخر من رفاقه في أصيل نظامه، من الحبس الاحتياطي فيها إلى الخرطوم حراً طليقاً.

وكان أنصاره تظاهروا في 7 أبريل مؤيدين انقلاب سوار الذهب. وطالبوا المجلس العسكري بإنهاء الإضراب العام. واجتمع قادتهم بالعسكريين ليصرحوا بأنه لا الأحزاب مثل حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي ولا النقابات مأذونة للعمل السياسي. وخلت لجنة الدستور التي كونها المجلس من ممثل للتجمع النقابي الأصل في الثورة.

وذكرت أكاديمية بيردج أن العميد حسن أحمد البشير، الذي انقلب على النظام الديمقراطي في 1989، طرأ على اجتماع بين العسكريين والتجمع النقابي ليصف التجمع بأنه شلة شيوعيين بوسع الجيش أن يقطع دابرهم في أي وقت.

وانعقد التحالف بين الإسلاميين والمجلس الانتقالي على أشده بعد استئناف العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، للحرب، وإسقاطه لطائرة ركاب مدنية فوق سماء مدينة ملكال عاصمة ولاية أعالي النيل الجنوبية. فخرج الإسلاميون يظاهرون المجلس العسكري ويطالبون بالعمل العسكري للتصدي لقوات الحركة.

 ولا أعرف عبارة وثقت لكسب الإسلاميين من انقلاب سوار الذهب مثل كلمة عبدالوهاب الأفندي القائلة:

"ليس معلوماً دور الإخوان في انقلاب 1985، لكنهم لم يكونوا ليتمنوا واقعة أفضل لهم منها في أقصى أحلامهم شططاً".

ربما لا نحتاج إلى غير النظر في 6 أبريل كأسطورة منشأ، بالعلل المعروفة لهذه الأسطورة، لفهم كيف غلب العسكريون على المدنيين في قوى الحرية والتغيير بعد نحو ثلاث سنوات من قيام الثورة. فكانت هذه القوى استأمنت انقلاب 11 أبريل 2019 بعقيدتهم في انحياز الجيش لثورتهم المدنية بقدوة 6 أبريل 1985 واستنامت له. وواسطة عقد هذه الاستنامة نظرية روج لها عبدالله حمدوك، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية، شخصياً مفادها أن تحالف المكون المدني مع المكون العسكري حدث سوداني ثوري استثنائي. ولم ير حمدوك في انقلاب 11 أبريل انقلاب الفيتو الذي وصفناه ورأيناه مطبقاً بواسطة انقلاب سوار الذهب مستضعفاً الحكومة المدنية الانتقالية حتى صارت رسماً مجوفاً.

لم يستغرق انقلاب سوار الذهب غير أيام ليستغني عن الحكومة الانتقالية ويجردها من وظائفها في حين صبر انقلاب البرهان وصابر الحكومة الانتقالية لثورة ديسمبر نحو ثلاثة أعوام ليطيحها انقلاب أكتوبر 2021 بعد أن ظل يحفر لها ويكيد. والانتقالية، بعقيدتها في أسطورة انحياز الجيش للشعب في 6 أبريل ثم في 11 أبريل، غافلة عما يدبر لها حتى وقع المحظور وحدثت الندامة.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء