ملخص
أثارت استضافة #الثقافة_السعودية الشاعر السوري #أدونيس كثيراً من الجدل، أخذ نواح إيجابية وسلبية لجهة دلالاته الفكرية والسياسية
أثارت استضافة الثقافة السعودية الشاعر السوري أدونيس كثيراً من الجدل، أخذ نواح إيجابية وسلبية لجهة دلالاته الفكرية والسياسية، في وقت لا تزال آراء الضيف السلبية ضد المستضيف حية في الأذهان وتشهد البلاد إصلاحات وتحولات غير مسبوقة في تاريخها.
لكن عند النظر إلى تاريخ السعودية والمثقفين العرب بمن فيهم أدونيس، يجد المتابعون أن انفتاح الرياض السياسي على أطروحاتهم كان "الثابت"، فيما ظلت مشارب أولئك المثقفين الأيديولوجية، "المتحول" الذي يروح ويغدو متردداً بين أهواء السياسة والطمع.
وفي وقت مبكر من تشكيل الدولة، كان ذائع الصيت أمين الريحاني واحداً من أوائل الكتاب الذين سجلوا هذا المنحى بين ما يقال عن الرياض وما هي عليه في الحقيقة، لدرجة كاد معها يتأثر بما يسمع من الطعن والقدح، إلا أنه قاومها والتقى الملك عبدالعزيز وأصبح بين أقرب أصدقائه المثقفين، ويخلد فيه شهادته التاريخية في كتابه "ملوك العرب".
ويقول بعد أول لقاء "ها قد قابلت أمراء العرب كلهم فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل. لست مجازفاً أو مبالغاً في ما أقول، فهو حقاً كبير، كبير في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته، وفي ضربه الأرض بعصاه. يفصح في أول جلسة عن فكره ولا يخشى أحداً من الناس، بل يفشي سره، وما أشرف السر! سر رجل يعرف نفسه، ويثق بعد الله بنفسه. "حنا العرب!" إن الرجل فيه أكبر من السلطان، وقد ساد قومه ولا شك بالمكارم لا بالألقاب".
قافلة الشعراء
لكن على النقيض من صراحة الريحاني، كان أدونيس شديد التحفظ حتى وهو في المطار، حين استقبله مندوب الثقافة بحفاوة، ما إن هم بالرد عليها حتى نكزته ابنته تشير إلى الصحافة، فقال "ليس أمام الإعلام"، لكأنه قدم مشحوناً يحاذر أن يقع في فخ منصوب هناك، قبل أن ينطلق بأريحية أكثر في المناسبات التي أحياها في جدة والطائف والرياض، حيث استذكر حنين الطفولة واللغة ومضاربها الأولى في ربوع امرئ القيس وأسلافه الشعراء.
ويضيف "سعدت كثيراً بهذه المفاجأة فقد أيقظت داخلي طفولتي الأولى وأيقظت مخيلتي وكذلك أحلامي التي جبلتني ونامت، سعدت على الأخص لأنني وليد أبوة متعددة الرموز، كانت لهذه الأبوة ثلاثة تجليات، الأبوة الرمزية والأبوة المتخيلة الشعرية الثقافية والأبوة الطبيعية وهي جميعاً تتوحد بالنسبة لي وتتجسد في اللغة العربية، ووليد لأمّين الأم الطبيعية والأم القصيدة، فأنا عشت الطفولة لا في الدواوين الشعرية وحدها وإنما في أماكن الشعراء في الحجاز والطائف ونجد ومكة والمدينة وعكاظ، عشت مع شعراء الجزيرة العربية مع امرئ القيس وطرفة بن العبد وعمر بن أبي ربيعة وذي الرمة".
ومع أن زيارة أدونيس جاءت قطرة في بحر تحولات كبرى تعيشها السعودية ثقافياً واجتماعياً، إلا أن إبداعاته لم تكن جديدة على الساحة التي لطالما غمزها بالرجعية والانغلاق، حتى وهو يكتب في واحدة من أهم صحفها "الحياة" مداراته التقدمية لأعوام عدة، قبل أن يعود الشيخ لصباه مجدداً ويصطف مع اليسار العربي الذي اعتاد هجاء الخليج الذي لا يرى فيه غير أثرياء حدثاء النعمة وبدو أصبحوا في غفلة من الزمان يتطاولون على أهل الحضارة النبلاء!
يأتي ذلك في حين اصطف مع ثورة الخميني التي أخذ بها أول الأمر كما يقول، ويساوي بين الضحية والجلاد في سوريا مع أنه كان جرب قبل ذلك بطش النظام الذي فر هارباً منه إلى بيروت ثم إلى فرنسا حيث يقيم حتى اليوم، ويومئذ كما يروي لـ"بي بي سي" استيقن أن "الانسان العربي لا كرامة له ولا يساوي شيئاً" وأنه في حال من الموت المستمر، فقومه "أموات يحكمهم أموات"، كناية عن تأثرهم بالتراث الفقهي والتاريخي، وأنهم أسارى له.
سيل الآراء الفكرية والسياسية والشعرية التي ظل أدونيس يسوقها بجرأة في حق الأموات والأحياء سواء، دفعت أحد المثقفين السعوديين إلى سؤاله في الطائف عما إذا كان راجع نفسه أو طور شيئاً منها، فكان ملخص رده المتحفظ أن "شيئاً من ذلك لم يحدث"، مع أن بنية كتابه "الثابت والمتحول"، إنما جاءت لنقد الجمود وإضفاء التقديس على الأشخاص والنصوص.
على رغم ذلك يرى مثقفون مثل جعفر عمران أن إحياء أدونيس ندوات ثقافية في الرياض شكل ذروة الانفتاح الثقافي والإصلاحات التي تشهدها السعودية وله دلالة رمزية كبيرة، خصوصاً لأولئك العرب الذين لم يراقبوا الحراك في معارض الكتاب على سبيل المثال عن قرب.
مساءلة النص
من الجوانب التي جعلت لحضور علي إسبر معنى أكبر، هو أنه كما سبقت الإشارة، ليس شاعراً يلقي قصائده الحرة مهما كانت جريئة ويمضي، ولكنه أيضاً مفكر له آراؤه السياسية التي يسقطها على الدول والنظم السياسية، ناهيك عن النقدية الحادة للتراث، بما في ذلك ما ينظر إليه من بعض حتى فقهاء المسلمين المعتدلين بأنه "ثوابت"، يظل يطالب بتوجيه الأسئلة إليها.
وفي إحدى مقابلاته الكثيرة يروي أن حواراً جمعه بمحمد أركون الذي يهتم بالأمر نفسه، فسأله "لماذا لا يوجه أسئلته إلى النص الديني نفسه"، وليس فقط فهمه أو تأويله، فأجابه أركون "أنت تريد أن تقتلني".
ومع أن الأفكار من هذا النوع تستفز المحافظين في المجتمعات العربية بما فيها السعودية، إلا أن الرياض حتى في عهد سطوة المتشددين الذين يحاولون فرض وصايتهم على العناوين التي تعرض ويطالبون الجهات المنظمة في معارض الكتاب بمصادرة ما يغضبهم منها، لم تكن تستسلم لهذا الصوت المتشنج، إذ حضر ندواتها كل أقطاب الفكر العربي، خصوصاً في مهرجان "الجنادرية" الشهير من اليمين إلى اليسار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما أولئك الذين لم يحضروا بسبب مواقفهم السياسية، فدارت الأيام وصاروا من رواد تلك الندوات، وأشهرهم كان المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري الذي دافع المثقفون السعوديون بشراسة عن مشروعه "مدخل إلى القرآن الكريم" الذي قال فيه ما لا يقال، حين ناقش مسألة "النقصان والزيادة في القرآن"، مؤكداً بعد نقاش مستفيض خلاصة هي أنه "ليست ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن، كما هو في المصحف بين أيدي الناس منذ أن جمعه عثمان"، مما استدعى صدور فتاوى تحريضية ضده، لكنه في نهاية المطاف لم يمنع من إحياء ندوته في معرض كتاب الرياض.
بل إن الإعلامي السعودي المخضرم محمد رضا نصرالله روى كيف أن فكرة تأليف الكتاب إنما نشأت على أثر حوار له مع الجابري الذي كان له موقف يساري بالغ السوء من غزو العراق الكويت، إلا أن السعوديين نقضوا نظرية ناقد العقل العربي الذي عاد معتذراً وفتحت له "المجلة" و "الشرق الأوسط" و قناة "العربية" أبوابها، ورحل وهو ينظر إلى الرياض بغير عينه اليسارية الأولى.
هيكل وبشارة
وكانت حرب الخليج واحدة من النقاط الفاصلة، الكاشفة لنظرة عدد من أنظمة الحكم والتيارات الإسلامية واليسارية للخليج، خصوصاً السعودية التي حملت على عاتقها عبء تحرير الكويت، بينما كان المفاجئ لقادة الرأي في تلك المرحلة أن المثقف العربي لم يكن بأحسن حال، إذ غرق في لجة ذلك البحر وتماهى مع الباغي هو الآخر.
وسجل المثقف السعودي الراحل غازي القصيبي في مقالاته عن تلك المرحلة كيف أن محمد حسنين هيكل الذي سماه "حبر الصحافة العربي الأعظم"، لم يكن استثناء بين أولئك المتلونين، حين دعا إلى إنشاء هيئة للمنتفعين من النفط العربي، معتبراً الصراع الذي دار "من أجل ملكية البترول"، وقائلاً بكل بجاحة إن "الخليج لا يستحق نفطه" قبل أن يتدارك في ما بعد أن الغزو لن ينجح، فحاول تبرير موقفه على نحو لم يقنع الخليجيين، لكن قبلوا منه.
ولا تنتهي القائمة عند هذا الحد، إذ يروي الكاتب نجم عبدالكريم جانباً من تناقضات المثقفين العرب تجاه السعودية، في واحدة من تجلياتها "الفاقعة" حسب رأيه، في شخص عزمي بشارة، إذ يقول "هذا الرجل يحيرني أمره، التقيته في لندن في أواسط تسعينيات القرن الماضي على مائدة عشاء أعدت خصيصاً للتفاوض معه كي ينضم إلى كتاب "المجلة" التي كنت أحد كتابها، وفي اليوم التالي عندما التقيته منفرداً أخبرني أن هذه المجلة سعودية المصدر، بالتالي أنا لا أريد أن أمسح تاريخي النضالي بالعمل في مجلة سعودية". ومع أنه صار من كتاب المجلة اللندنية إلا أن نجم يرى الأغرب من ذلك أن "الرجل الليبرالي العلماني (المسيحي) يتباكى بدم على الإخوان المسلمين"، ولا يرى في ذلك غضاضة!
وفي سلسلة المقالات التي أخرجتها دار "جداول" في كتاب باسم زاوية القصيبي "في عين العاصفة" إبان الغزو 1990م في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، يخلص الكاتب بعد "البحث عن المثقف"، إلى أنه "كأنموذج مثالي... لا يوجد إلا في الخيال، خيال المثقفين أنفسهم أو خيال الباحثين عن مثقفين نماذج"، وهو بذلك يعبر في مقالة ساخرة عن خيبة أمله من انسياق حتى المثقفين خلف دعاية تتناقض مع قيم الإنسانية والثقافة والتجرد.
اثنان أهل الأرض
ومن بين آراء أدونيس التي أخذت حظاً كبيراً من النقاش والتقدير بين الباحثين، هي تلك التي أودعها كتابه الضخم "الثابت والمتحول"، ويناقش فيه الاتباع والإبداع عند العرب، انطلاقاً من محاججته بأن المسلمين الأوائل بنوا حياتهم على "إيمانهم بأن الدين الإسلامي أساس ومقياس للنظرة إلى الغيب والحياة الإنسانية معاً، وقد ربطوا ربطاً عضوياً بين الدين وتنظيم الحياة، وبين اللغة والشعر والفكر"، وهكذا يعرض في الجزء الثاني من الكتاب "تأصيل الأصول" لما سماه "الصراع بين العقل والدين، إضافة إلى الانقلاب المعرفي الجذري المتمثل في الحركة الصوفية بمختلف مستوياته وأبعاده في الثقافة العربية".
ولا يخفي أدونيس في هذا الصدد دفاعه عن فصل الدين عن السياسة والإبداع، حتى إنه كثيراً ما يستشهد في مقابلاته عندما يسأل عن موقفه من الدين، ببيت شعر لمثله الأكبر أبي العلاء المعري، فيروي عنه قوله "اِثنانِ أَهلُ الأَرضِ ذو عَقلٍ بِلا دينٍ...وَآخَرُ دَيِّنٌ لا عَقلَ لَهُ".