Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مؤرخ الفن الكبير في قبضة الاستخبارات البريطانية والفضيحة أكبر من أن تحتمل

أنتوني بلانت مستشار الملكة وحافظ كنوز قصورها وعضو رابع في حلقة كيم فيلبي

 أنتوني بلانت مع الملكة إليزابيث الثانية (غيتي)

ملخص

 تضاءلت صورة #بلانت كمؤرخ للفن لتحل محلها صورته كعميل #للسوفيات وتبين أنه تعرف حين كان في جامعة #"كامبريدج" على غي بارغس

حتى عام 1979 كان جميع الباحثين والمؤرخين المتحدثين عن "حلقة كامبريدج" يقولون إن ملفاتهم لن تكتمل قبل العثور على اسم العضو الرابع في الحلقة، وبعد أن تمكنوا من العثور على الاسم الرابع راحوا يبحثون عن اسم الخامس لكن ذلك موضوع آخر، إذ في العام المذكور كان المطلوب معرفة من هو المثقف الجامعي زميل غي بارغس وكيم فيلبي ودونالد ماكلين وشريكهم في جريمة الخيانة العظمى، أي العمل لمصلحة الاستخبارات السوفياتية، والحال أن مسألة "حلقة كامبريدج" شغلت وستظل تشغل بال الطبقة السياسية والثقافية الإنجليزية انطلاقاً من اعتبارها "عاراً أحاط ببريطانيا، لا سيما بنخبتها الثقافية". والفضيحة كانت وصلت إلى ذروة اندلاعها أوائل العشرية السابعة من القرن الـ 20 حين انكشف أمر كيم فيلبي، لكنه تمكن من الهرب من بيروت إلى موسكو على متن باخرة سوفياتية أرسلت إلى مياه العاصمة اللبنانية في ذلك الحين لهذه الغاية.

 

 

أكبر الفضائح

المهم أن الفضيحة وصلت إلى ذروة أخرى عام 1979 حين أعلن اسم رابع أفراد العصابة، فإذا به مؤرخ الفن الشهير وحافظ كنوز الملكة الفنية السير أنتوني بلانت المؤتمن على كل ما يملكه التاج البريطاني من تحف ولوحات وعتائق، مما يجعله على اتصال يومي بالملكة والأسرة المالكة، ويا له من خبر صاعق، عميل بريطاني في قصر باكنغهام وبقية قصور بريطانيا، والأدهى من ذلك أن العميل يعتبر واحداً من أكبر مؤرخي الفن في العالم عند أواسط القرن الـ 20 بل يعتبر أكبر خبير في لغة وليام شكسبير بفنون فرنسا، وربما المرجع الأساس في العالم بالنسبة إلى فن نيكولا بوسان الفرنسي الذي عاش وعمل في روما مشاركاً في نهضتها الفنية، ومن هنا حين أعلن الاسم فغر الإنجليز أفواههم دهشة وخفضوا نظراتهم خجلاً، وكانوا يتصورون أي شيء إلا أن يكون شخص له تلك المكانة وتلك المسؤوليات وتلك المعرفة الفنية الاستثنائية، ناهيك بذلك المركز في تراتبية موظفي القصر الملكي، ضالعاً في التجسس لحساب المخابرات السوفياتية، ومع ذلك كان رد الفعل مدهشاً، لا شيء تقريباً سوى تنحيته عن منصبه والتحقيق معه، ولا شيء أكثر من ذلك.

 

 

أما ملكة بريطانيا فقد كان صمتها المشوب بحزن شديد صمتاً معبراً وهي التي كانت تعيش في تلك الأعوام بالتحديد، وعلى الصعيد العائلي "عاماً رهيباً" كما سوف تصرح بعد ذلك لمناسبة أخرى، وهي على أية حال لم تكن في حاجة إلى أن تقدم له أي دعم أو تبدي تجاهه أي لوم، فالرجل له حصانته ومكانته وبريطانيا لا يمكنها أن تعاقبه، وهو على أي حال يعيش أعوام حياته الأخيرة، فالواقع أن أنتوني بلانت رحل بعد ذلك بأقل من أربعة أعوام، أي يوم الـ 26 من مارس (آذار) 1983، وحين رحل عادت الفضيحة لتكون مثار أحاديث الناس من جديد، ولكن على الطريقة الإنجليزية بمعنى "اذكروا محاسن موتاكم".

مبادئ لا منافع شخصية

ومن الواضح أن ما أدى إلى ذلك التسامح بعد الصدمة الأولى هو إدراك الرأي عام أن بلانت في ما أقدم عليه لم يكن "جاسوساً رخيصاً" على شاكلة بعض رفاقه في الحلقة، كما أن التحقيقات أثبتت أنه كان قد توقف عن نشاطاته منذ دخل وظيفته في خدمة الملكة، وحتى خلال سنوات ذروة تعامله مع السوفيات كان يتعاون لدوافع أيديولوجية تتعلق بمواقفه السياسية الشيوعية التي تبناها باكراً، من دون أن يكون في أي من الخدمات التي قدمها للمخابرات السوفياتية ما يضر بريطانيا عسكرياً أو أمنياً، كما لم يثبت أنه كان يتقاضى بدل أتعاب من معلميه في شرق أوروبا.

كان بمعنى من المعاني "رجل مبادئ" و "مثقفاً تقدمياً" أغراه اندفاع السوفيات نحو الفنون الكلاسيكية، وتبنى تماماً اندفاعهم لنشر كتب الفنون في طبعات توفرت لعموم الناس حتى من دون أن يتساءل عن واقع أن المؤسسات السوفياتية كانت تتغاضى عن دفع حقوق المؤلفين، والطريف أن هذا كان واحداً من المآخذ الأميركية عليه، وبالتالي لم يعامل كما عومل كيم فيلبي أو ماكلين وكرينكراوس وبارغس من رفاقه في الخلية نفسها.

غضب باكر

ومهما يكن فإن التحقيقات الأكثر جدية والأشد توسعاً أثبتت أن أنتوني بلانت الذي ولد عام 1907 كان شاباً يافعاً في الثلاثينيات حين راح يدرس تاريخ الفن في كلية "ترينيتي" التابعة لجامعة "كامبريدج"، إذ خضع لتأثير أستاذ ماركسي لتاريخ الفن هو فردريك أنتال، وهكذا بتأثير هذا الأخير وبالاتصال مع عملاء الاستخبارات السوفياتية ممن تمكنوا من اجتذاب عدد من رفاق بلانت في الجامعة نفسها، من أمثال بارغس وفيلبي وماكلين، راحت أفكار بلانت الماركسية تنضج وتتركز حتى ولو أن كثراً من المعنيين سيقولون في معرض اللوم "لكن هذا شيء وتحول صاحبنا عميلاً للاستخبارات البريطانية شيء آخر تماماً"، وهو ما حصل بالفعل إذ ها نحن نراه في خلال الحرب العالمية الثانية عميلاً لقسم "م-15" التابع للاستخبارات البريطانية في وقت سيعمل لمصلحة الاستخبارات السوفياتية، غير أن هذا الأمر الأخير لن يعرف هو الآخر إلا عام 1979.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قبل ذلك وطوال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ظل السير أنتوني يعتبر واحداً من كبار المؤرخين الفنيين في بريطانيا كما أسلفنا، وكان بلانت قد أبدى اهتماماً جدياً بالفنون وتاريخها، لا سيما بفنون عصر النهضة، منذ كان في الجامعة وخلال الأعوام الـ 30 قام بجولة على عدد من البلدان لتنمية معارفه الفنية، فعاد بعدها ليضع كتاباً ومرجعاً عن الرسام الفرنسي نيكولا بوسان، وبعد ذلك أصدر كتاباً عن "فن عصر النهضة الفرنسي" نشرته موسوعة "بيليكان" لتاريخ الفنون، وهو إضافة إلى ذلك وضع مؤلفات عدة حول فن وليام بليك وبيكاسو وفن الباروك المعماري، وكل هذه المؤلفات جعلت له مكانة أساساً بين مؤرخي الفن في بريطانيا، وهي التي قادته إلى القصور الملكية إذ أضحى المسؤول الرسمي عن الكنوز الفنية التي يملكها العرش البريطاني الذي منح بلانت عام 1956 لقب فارس، كما منحته الحكومة الفرنسية بسبب أدائه الفني وسام جوقة الشرف عام 1958.

عميل مزدوج؟

لكن كل هذا التكريم كان قبل افتضاح أمره، إذ عند هذا الافتضاح تضاءلت صورة بلانت كمؤرخ للفن لتحل محلها صورته كعميل للسوفيات، وتبين أن بلانت تعرّف حين كان في جامعة "كامبريدج" على غي بارغس الذي نقل إليه إيمانه بالماركسية من ناحية وتبرمه بالمجتمع البريطاني وأخلاقياته الجامدة من ناحية أخرى، وكان ذلك في وقت كانت الأزمة الاقتصادية الأميركية قد كشفت عن هشاشة وجمود النظام الاقتصادي الرأسمالي، وهكذا اعتنق بلانت الماركسية وكان ذلك طريقه للعمل مع السوفيات، لا سيما خلال الحرب العالمية الثانية حين قيض له أن ينخرط في العمل مع الاستخبارات البريطانية بالتوازي مع ذلك.

ومهما يكن فإن عمل بلانت كعميل مزدوج انتهى تماماً عام 1954، غير أنه حافظ على ارتباطه بأصدقائه القدامى ومنهم بارغس الذي كان في ذلك الحين منتمياً إلى السلك الديبلوماسي البريطاني من ناحية وإلى الاستخبارات السوفياتية من ناحية ثانية.

وفي عام 1951 ساعد بلانت صديقيه بارغس وماكلين على الهرب حين انكشف أمرهما، غير أن الشكوك التي حامت حوله هو شخصياً لم توصل إلى كشف أمره، وبعد ذلك حين هرب كيم فيلبي، وبدوره بعد انفضاح أمره سارع بلانت للاعتراف سرا لأجهزة الأمن البريطانية بكل ما فعله، لكن تلك الأجهزة سكتت عن الموضوع لـ "غياب الأدلة" وظلت لبلانت مكانته في مقابل اعترافه الكامل المسجل وهذا السر ظل محفوظاً طوال 15 سنة، حتى صدر كتاب للمؤرخ ليونارد بويل بعنوان "مناخ الخيانة" كشف الموضوع كله فسارع بلانت إلى الاعتراف العلني قائلاً إنه أخطأ وهو شاب في اختياراته السياسية، فاكتفت الحكومة البريطانية بسحب لقب "فارس" منه وإن كانت قد سمحت له بأن يعيش بقية أيامه في عزلة لا يزعجه فيها أحد.

المزيد من ثقافة