Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عائلات ضحايا النظام الشيوعي في ألبانيا ما زالت تبحث عن رفات أبنائها بعد 3 عقود

تجري إليانور مايرز الفائزة بجائزة روبرت كورنويل للصحافة بنسختها الرابعة مقابلات مع أقارب لأشخاص من بين آلاف يعتقد بأنهم أعدموا، يحدثونها عن معاناتهم في سبيل العثور على أحبائهم- ودفنهم بكرامة

زيف ندوج يحمل صورة لشقيقه الذي وجد رفاته بعد أكثر من 20 عاماً (إليانور مايرز)

ملخص

قتل أو توفي أكثر من 6 آلاف شخص في معسكرات #النظام_الشيوعي الألباني ولا يزال مكان دفن كثيرين غير معروف. عائلات عدة لا تزال تبحث عن رفات أبنائها. #ألبانيا

سكن طيب خوجة في صغره تلال منطقة لبيريا في جنوب غربي ألبانيا، حيث عاش في قرية تضم نحو 100 عائلة. كان من تقاليد لبيريا أن تشارك القرية كلها في دفن أي شخص توافيه المنية. لكن عندما توفيت جدته إيلينا عام 1980، لم يشارك في جنازتها سوى أربعة أشخاص هم طيب ووالدته وإخوته، إذ فضلت كل عائلات القرية- أي 500 شخص تقريباً- تفادي الحضور.  

لم تكن قلة الحضور في جنازة إيلينا لذنب اقترفته السيدة: بل السبب الذي جعل جيرانها ينفرون من المناسبة هو أن نجلها كان معارضاً للنظام الشيوعي في البلاد. كانت جريمة والد طيب أنه فر من ألبانيا عام 1945، مع اقتراب تأسيس الحكم الشيوعي. وعاد بعد سنوات عدة، فقبض عليه جهاز الشرطة السرية، سيغوريمي.  

بعد مرور زهاء 40 عاماً على الحدث، ظل أفراد عائلته يعتبرون أعداء للدولة. ولذلك كان أي مظهر حداد على شخص مثل إيلينا يشكل مخاطرة كبيرة. "لم يتجرأ أحد على ذلك"، كما يقول طيب الذي أتم اليوم عامه الـ77.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يعد والد طيب واحداً من بين أكثر من 6 آلاف ألباني يقدر بأنهم قتلوا أو توفوا أثناء فترة اعتقالهم لدى الدولة بين عامي 1945 و1991، تاريخ انهيار النظام الشيوعي. ولا يزال عدد كبير منهم في عداد المفقودين.

ومع أن النظام انتهى منذ ثلاثة عقود، لم تبذل الحكومات الألبانية المتعاقبة جهداً كبيراً لمحاولة العثور على رفاتهم وإعادتها إلى أقاربهم. أقرت قوانين كثيرة لمساعدة الضحايا لكنها لم تستتبع بخطوات عملية: كتبت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين أن عدداً من الحكومات الألبانية "فعلت القليل في سبيل تقديم المساعدة لعائلات المفقودين… مما أعاق تخطي المجتمع الألباني لإرث ماضيه الاستبدادي".

تزعم النظام الشيوعي الديكتاتور أنور خوجة (لا صلة قرابة بينه وطيب). واعتبر من أكثر الأنظمة وحشية في تاريخ أوروبا، وأطلق عليه اسم "كوريا الشمالية الأوروبية". كان أنور خوجة يكن احتراماً كبيراً لستالين، وقطع عام 1948 العلاقات الدبلوماسية مع يوغوسلافيا، أقرب جيران ألبانيا التي كانت واقعة تحت حكم جوزيف بروز تيتو لأن الأخير تحدى الزعيم الروسي. ثم قام بعدها بقطع العلاقات مع الاتحاد السوفياتي نفسه عام 1961، أي في عز حملة اجتثاث الستالينية التي أطلقها نيكيتا خروتشوف. ومن الدول القليلة التي حافظت ألبانيا على علاقاتها الدبلوماسية المنتظمة معها، الصين التي واجهت مشكلاتها الخاصة مع السوفيات. لكن مع الوقت، خاب أمل خوجة في بكين كذلك، مما أدخل ألبانيا في حال عزلة شبه تامة عن العالم الخارجي.

لم يعرف طيب أباه يوماً، إذ كان صغيراً جداً في العمر عندما أعدم. لكن الرابط العائلي كان كافياً لكي تعتبر العائلة بأسرها عدوة للنظام. وأخرجوا بالقوة من منزلهم ثم أرسلوا للعيش في قرية تقع في الطرف المقابل من ألبانيا حيث عزلوا عن بقية المجتمع: انتاب الناس خوفاً كبيراً من ربطهم بـ"معادي الشيوعية" المفترضين، لدرجة أنهم تجنبوا حتى أن تطأ أقدامهم أرضهم. بحسب تعبير طيب "كان جهاز سيغوريمي يسمينا 'جراء الأميركيين' وأطفال العدو".

عندما بلغ أحمد، شقيق طيب، الـ18 من عمره، اعتقل بشكل تعسفي وحكم عليه بالسجن 20 عاماً. ويقول طيب "حكم على أخي بالسجن لفترة أطول من عمره على الأرض آنذاك". وبعد محاولته الهرب، أرسل إلى مخيم سباك، أسوأ معسكرات الأشغال سمعة في ألبانيا، وصمم على شاكلة معسكرات الغولاغ الستالينية. وافتتح المعسكر عام 1968 في موقع منجم نحاس وبيريت في منطقة جبلية نائية بوسط البلاد. 

كان سباك واحداً من معسكرات كثيرة، لكنه ضم من اعتبر أنهم يشكلون الخطر الأكبر على النظام. وفي ذلك المكان، أعدم أحمد. كان يبلغ من العمر 39 سنة. وقضى كامل حياته كشخص بالغ معتقلاً لأنه ابن والده ليس إلا. لكن جثمانه لم يعد يوماً.

التقى طيب بالجلادين الذين نفذوا حكم الإعدام بأخيه. لكنهم لم يخبروه شيئاً لأن لا شيء يجبرهم على ذلك. "أسوأ ما في الأمر هو أن 31 عاماً مرت منذ 1991 [تاريخ سقوط الشيوعية] وما زلت أبحث".

 

يعتقد معظم الذين لا يزالون يبحثون عن جثامين أقاربهم بأن السبيل الوحيد لاسترجاعهم هو أن يدفعوا بأنفسهم مقابل أعمال البحث والتنقيب الخاصة. ومن بين هؤلاء زيف ندوج. يعيش زيف، 60 سنة، في قرية صغيرة خارج مدينة إشقودرة في شمال ألبانيا. يتحدث فيما يجلس في غرفة معيشته ويدخن، وينجذب نظره أثناء كلامه إلى صورة شاب داخل إطار مذهب. تعود الصورة لشقيقه تومي الذي أعدم في سجن كافي باري سيئ السمعة- ويبعد نحو 60 ميلاً (96.5 كلم) عن إشقودرة- عام 1979 لاتهامه بالإرهاب. وعلم الرجل، عندما طلبت منه السلطات التوجه إلى السجن بأن شقيقه توفي. ويقول "أعطونا ثيابه. شعرنا بأننا محظوظون لحصولنا على ثيابه".

عندما سقط النظام الشيوعي، بدأ زيف رحلة البحث عن جثمان أخيه. التمس المساعدة من السلطات لكنه يقول إنه لم يتلق أي إجابة عن طلبه. أخبره مهندس يعمل في المنطقة أنه يظن بأنه يعلم مكان إعدام أخيه، في منطقة كوش التي تبعد مئات الأميال. أحياناً، كان السجناء يقتادون مسافات طويلة بعيداً من مكان اعتقالهم من أجل قتلهم. وهكذا بدأ زيف يحفر. ويحفر. ظل يحفر على امتداد أكثر من ستة أيام، وعمل طوال ما مجموعه 156 ساعة. لكنه لم يجد أخاه. إنما تمكن، خلال عمليات الحفر، من العثور على 11 جثماناً في المكان. قالت المزاعم إن أشخاصاً كثيرين من الذين أعدموا دفنت معهم زجاجة داخلها ورقة تحمل اسمهم: والجثامين التي وجدها زيف كانت فيها هذه الورقة.    

"كان جهاز سيغوريمي يسمينا 'جراء الأميركيين' وأطفال العدو". طيب خوجة

أحياناً، يعزى عدم الرغبة في نبش المقابر الجماعية إلى الاعتقاد بأنه سيكون من المستحيل التعرف إلى الضحايا. ومع أنه من الواجب دائماً اللجوء إلى الفحوصات الجنائية في عملية التعرف إلى الجثث من أجل قطع الشك باليقين، فإن وجود الأسماء في الزجاجات يمكن أن يسرع عملية التعرف إليها بالطبع. رداً على سؤاله إن كان تواصل مع الدولة في شأن الجثامين الأخرى التي وجدها، يجيب زيف "أي دولة؟ لا يهمهم الأمر". تواصل الرجل بنفسه مع العائلات.

عام 2012، بدأ زيف يحفر في موقع جديد اعتقد بأن أخيه ربما يكون مدفوناً فيه: وهو مكان قاعدة عسكرية سابقة في المنطقة المحيطة بكوش. ويقول إنه في اليوم الذي أخذ فيه يحفر من جديد، جاءه مسؤول حكومي كبير وأخبره بالموقع المحدد الذي دفن فيه أخوه: كان في تلك القاعدة العسكرية فعلاً. ويقول "كانوا يعلمون مكانه [دفنه] كل ذلك الوقت".

استغرق العثور على جثمان تومي نحو 22 عاماً: قضى زيف ثلث عمره في التفتيش عن أخيه. وعندما أعاده إلى المنزل، دفنه في المقبرة المحلية القريبة من قريته. وبلغت الكلف الإجمالية لعملية البحث أكثر من 25 ألف يورو (22300 جنيه استرليني).

 

هذا مبلغ ضخم في بلد يتقاضى فيه العامل العادي، حتى في أيامنا هذه، نحو 260 يورو شهرياً. قدم زيف طلب تعويض مالي من الدولة بعد إنهائه أعمال البحث بفترة قصيرة. ويقول إنه لم يتلق أي مبلغ منها بعد تعويضاً عن الكلف التي تكبدها أثناء بحثه عن أخيه. وهي كلف كانت لتكون أقل بكثير لو أطلع على مكان دفن أخيه عندما بدأ بالسؤال عن الموضوع منذ 20 عاماً. ويضيف زيف "كان بإمكانهم أن يخبروني. قضيت سنوات طويلة وأنا أبحث".  

يتلقى زيف بالفعل تعويضاً عن اعتقال أخيه: سوف يحصل على مبلغ قدره 15 ألف يورو إجمالاً خلال فترة حياته، وهو أقل بكثير من المبلغ الذي دفعه من أجل العثور على جثمان أخيه. أما التعويض الذي يتلقاه، فلقاء فترة اعتقال أخيه فقط، لكن ليس إعدامه. ويقول زيف إن عائلات الأشخاص الذين أعدموا بتهم إرهاب - خلافاً لغيرها من التهم- لا يمنحون تعويضاً عن وفاتهم لأنها غير مشمولة في قانون التعويضات.  

حتى القضايا التي تتصدر العناوين لا تفضي بالضرورة إلى نتيجة. يبحث ألدو ريناتو توسي، المواطن الإيطالي الذي قتل والده الألباني على يد النظام، عن جثمان أبيه منذ 30 عاماً. اعتقل والده في سجن بوريل الذي يبعد نحو 40 ميلاً إلى شمال العاصمة تيرانا، في وسط ألبانيا. حددت شهادات بعض السجناء السابقين مكاناً يحتمل أن يكون قبراً جماعياً. لكنه لم ينبش.  

وفي وقت لاحق، كتب رسالة حول تجربته جاء فيها "أتساءل عن سبب صعوبة التدخل في تلك المساحة، الواقعة بين السياجين المحيطين بالسجن. إنها أرض جرداء مربعة تناهز مساحتها حجم ملعب كرة قدم". وتقول الرسالة إنه على رغم الضجة الإعلامية الكبيرة و"وعود التدخل من… الدولة ووزارة العدل الألبانية، لا تزال رفاة أولئك الرجال ترقد في التربة الباردة لذلك البلد سيئ السمعة".

شعرنا بأننا محظوظون لأنهم أعادوا لنا ثيابه بعد إعدامه.   زيف ندوج

لا شك في أن نبش كل القبور الجماعية في ألبانيا يشكل مهمة جسيمة لكن يمكن البدء بها من أماكن واضحة: عشرات معسكرات الاعتقال السابقة في البلاد. حتى الأراضي المجاورة لعدد من معسكرات السجن والاعتقال هذه- وهي عادة ما تكون مواقع دفن للأشخاص الذين أعدموا هناك- لم تنبش. لا تبعد بعض المعسكرات السابقة سوى ساعتين بالسيارة من تيرانا.  

ويعتقد الأشخاص الذين يبحثون عن جثامين بأنه لن يكون من الصعب تحديد موقع هذه القبور: إذ لا يزال بعض السجناء السابقين على قيد الحياة، وهم قادرون على تحديد مكان القبور- وفعلوا ذلك حقاً.

يقع أحد هذه الأماكن في تيبيلينا Tepelena، جنوب ألبانيا. كان معسكر اعتقال سيئ السمعة مخصصاً للفارين من العدالة والهاربين من الجيش، وظل مفتوحاً بين عامي 1949 و1954. ولم يكشف عن أن تيبيلينا استخدم كمعسكر اعتقال مات فيه كثيرون سوى عام 2017. نشأ كيلفين زيفلا الذي يعمل في مؤسسة كويتو الألبانية التي تجمع ذكريات عن الضحايا، على بعد 20 قدماً (سبعة أمتار) من أنقاض المعسكر. ويقول "كنا نعتقد بأنها قاعدة عسكرية سابقة". اعتاد أن يلعب كرة القدم مع أصدقائه في المكان، من دون أن يعلموا بتاريخه.

يعتقد بأن 600 سجين من أصل 4 آلاف هناك توفوا، ونصفهم أطفال تحت عمر الخامسة. أرسل فتاح حماتا الذي يبلغ من العمر الآن 80 سنة، إلى هناك في عمر صغير لأن والده حاول مغادرة ألبانيا.

ترتعش يداه وهو يتكلم عن ذلك الوقت: أحياناً، كان 30 طفلاً يتوفون خلال يوم واحد بسبب سوء التغذية والإسهال والإنهاك جراء الأعمال الشاقة. ولشدة سوء الأوضاع في تيبيلينا، وصلت أخبار المعتقل إلى الحكومة في الولايات المتحدة. ويروي فتاح إحدى ذكريات طفولته الباكرة: أوثقت سيدة إلى عمود وسط المعسكر وأرغم الأطفال على ضربها بعصي. شارك هو في العملية. وجريمتها كانت رمي قطعة خشب صغيرة. يقول فتاح "كنت بعمر السابعة أو الثامنة عندها. أتذكر صراخها وهي تتعرض للضرب".   

عادت السيدة نفسها إلى تيبيلينا منذ عامين للمشاركة في فعالية تسلط الضوء على الجرائم التي وقعت داخل المعسكر. في البداية، لم يتعرف إليها. نظرت إلى الغابة التي كانوا يجمعون منها الحطب وقالت له "أتيت إلى هنا في السابق". وعندما أخذت تحدثه عن معاناتها، أدرك فتاح من تكون. وعندما أخبرها بهويته، قالت إنها سامحته.

ربما تحتوي الأراضي المحيطة بتيبيلينا مقابر لأطفال وبالغين توفوا هناك: يقول فتاح إنه عمل في موقع بناء هناك خلال أيام النظام الأخيرة. ووجدوا علبة فيها عظام أطفال. ويروي فتاح أن مدير الموقع طلب منهم التخلص منها. بعد مرور 30 عاماً على سقوط النظام، لا يبدو أن أي جهد بذل من أجل البحث في المناطق المحيطة بتيبيلينا.

 

وتشكل هذه الجثامين التي تنتظر من يجدها حتى اليوم دلالة على مشكلة أكبر: لم تواجه ألبانيا بعد أي جانب من ماضيها الشيوعي تقريباً. وإن أخذنا في الاعتبار وحشية النظام والروايات التي عرضت هنا، من الواضح أن كثيرين لم يجدوا بعد العدالة التي يصبون إليها. يمكن التوصل إلى هذه العدالة الانتقالية، كما تسمى، عندما يسعى بلد إلى التصالح مع ماضيه، بعد مرور فترة طويلة على انتهاء نظام معين. ويعتبر تحقيقها بالغ الأهمية لكي تتمكن البلدان من تخطي المرحلة. ويمكن أن تأتي على أشكال عدة، من المحاكمات، إلى التثقيف في شأن الجرائم المرتكبة. وتتيح هذه العملية تعلم الدروس من أخطاء الماضي.

أجريت بعض المحاكمات لأفراد من النخبة الشيوعية السابقة في ألبانيا: دين رامز علياء الذي خلف أنور خوجة بتهم الفساد عام 1994. وحكم عليه بالسجن تسع سنوات، قبل تخفيف حكمه بعد استئنافه مرات عدة. لم يبق في السجن سوى سنة واحدة فقط لكنه اعتقل مجدداً عام 1996، ووجهت إليه هذه المرة تهم ارتكاب إبادة جماعية. وجاء في تقرير لوزارة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت أن "السلطات اتهمته باعتقال وسجن آلاف المواطنين في معسكرات اعتقال في ظل الحكم الشيوعي… وإصدار أوامر بقتل أشخاص حاولوا مغادرة البلاد". أسقطت المحكمة لاحقاً تهم الإبادة الجماعية عنه.

كما اعتقلت أيضاً زوجة أنور خوجة، نجمية. لكن الجرائم التي دينت بسببها كانت مالية إجمالاً: اختلاس أموال واستغلال سلطة الدولة. كانت شخصية سياسية بحد ذاتها، وازداد نفوذها مع تدهور صحة أنور. وأكسبها تورطها في أكثر جوانب النظام وحشية لقب "لايدي ماكبث" عند بعضهم.

حكم على نجمية بالسجن 11 عاماً، لكنها لم تقض سوى أربعة منها في السجن. بينما قضت أيامها المتبقية من دون إدانة ولا عزلة، في منزل مريح في تيرانا. إنما خلافاً للايدي ماكبث، لم يبد على نجمية أي شعور بالذنب: عام 2008، ردت على سؤال مراسل لوكالة الأنباء الفرنسية بقولها "ما الذي قد يدعوني إلى الخجل؟".

أسست الحكومات المتعاقبة فريقي عمل مهمتهما التعامل مع قضية نبش الضحايا. لكن، في الرسالة التي كتبها عن تجربته مع الحكومة، زعم ألدو ريناتو توسي الذي دفن والده بالقرب من سجن بوريل أن أحد المسؤولين قال له إنهم لا يعلمون ما الذي وقع في بوريل. وكتب "كيف من الممكن ألا يكون عضو في الحكومة مطلعاً على تاريخ بلاده؟".  

يرى كثيرون ممن لا يزالون يبحثون عن أقاربهم أن ضعف المبادرات بهذا الصدد في ظل عدد من الحكومات الألبانية يعود لتفضيل المسؤولين عدم نبش هياكل الماضي الشيوعي (حرفياً). كما ولد تقاعس الحكومات المتعاقبة الصمت. وغالباً ما يذكر الأشخاص الذين تعرضوا للاضطهاد في السابق قلة الكلام عن النظام الشيوعي في ألبانيا ما بعد الشيوعية، إذ يفضل الناس تناسي الماضي بدل مواجهته، لكي يتمكنوا من الاستمرار بحياتهم. لكن هذا ربما يتسبب بألم بالغ لدى الأشخاص الذين ضحى أقاربهم بحياتهم في خضم الصراع الطويل من أجل الديمقراطية.

والماضي موضوع مطروح دائماً بالنسبة إلى دين دين، 80 سنة، وليك تاسي، المسنين اللذين يلتقيان لتناول القهوة يومياً في تيرانا. وتجمع الرجلان المعاناة التي مرا بها.

يتحدث ليك تاسي، وهو في أواخر التسعينيات من عمره، عن عائلته التي كان كل أفرادها على وشك أن يرسلوا إلى معسكرات الاعتقال- بسبب مغادرة والده البلاد متجهاً إلى اليونان، ثم عودته لاحقاً. حكم على عمه بقضاء 17 سنة في سجن بوريل وتوفي هناك. كما حكم على أخيه الشاب بالسجن 21 عاماً، وقضى محكوميته. يقول ليك إنه نجا من السجن لأنه كان ماهراً في العزف على آلة التشيلو ولم يكن من الممكن استبداله بأحد آخر في الأوركسترا التي عزف فيها.

أما دين، فقد سجن بعمر السادسة في معسكر اعتقال لأنه ولد لعائلة من الأرستقراطيين السابقين. حدث ذلك عام 1946. ولم يغادر دين نظام المعسكرات سوى عند انهيار الشيوعية عام 1991، مما يعني أنه قضى نحو 50 عاماً من حياته في الاعتقال بسبب اسم عائلته، ليس إلا. يقول إنه منح فرصة التعاون مع جهاز الشرطة السرية، سيغوريمي، ونيل حريته عام 1980. ويشرح "عرض علي جهاز سيغوريمي امتيازات لقاء تعاوني معه. لكني رفضت- وأخبروني بأن البديل الوحيد بالنسبة إلي هو قضاء مزيد من الوقت في السجن".  

يمنح ليك ودين تعويضاً من الحكومة بسبب المعاناة التي مرا بها هما وعائلتيهما- وتحتسب قيمة التعويض وفقاً لنوع الجريمة التي دين المرء أو أحد أفراد عائلته بارتكابها وعدد سنوات السجن. ويختلف الرجلان في مسألة اعتبار المبلغ الذي يتلقيانه عادلاً من عدمه. يذكر ليك صديقاً له استطاع أن يحقق حلم حياته- بحضور عرض لفرقة باليه روسية- بسبب حصوله على مبلغ التعويض. 

لكنهما يتفقان على أنهما لم يتلقيا أي تعويض معنوي. وما يعنيانه بتعبير التعويض المعنوي هو أنهما يريدان للمجتمع الإقرار بمعاناتهما وبالجرائم التي ارتكبها المسؤولون. لكن قلة من الناجين تتحدث عن رغبتها في مقاضاة المسؤولين، أياً كان نوعها. بعد 30 عاماً، أصبح ذلك غير عملي وغير مرجح. 

لكن يمكن تحقيق الاعتراف بالمعاناة من دون ذلك: أحد الأمثلة على هذا هو نيكولين كورتي الذي تعقب أثر المدعي العام والقاضي اللذين حكما على عمه- دوم شتيفين كورتي- بالموت. بعد اجتماعه بهما، وقع الاثنان على رسائل يقران فيها بذنبهما، ووافقا أن تنشر بعد وفاتهما. قال نيكولين إن المدعي العام طلب منه عدم الإعلان عنها طالما لا يزال "مسناً ومتعباً ومريضاً" و"غير قادر على الدخول في النقاش الذي ستفتحه وسائل الإعلام حول الموضوع".

لكن هذه الحالات نادرة الحدوث- وتتطلب من المرء أن يقر بجرائمه ويكشف عنها بكامل إرادته. وفي غياب أي تدخل للدولة أو المؤسسات، سوف يستمر كثيرون بإخفاء ماضيهم.  

يعتقد كيلفين زيفلا، من مؤسسة كويتو Kujto التي تساعد الضحايا، بأن شبح السياسات الشيوعية يخيم على المشهد السياسي إلى اليوم: ويؤثر عدم معالجة ألبانيا للموضوع في العلن حتى الآن في مشاعر الشعب تجاه السياسة في الحقبة الحالية. ويقول "لا يؤمن الشعب بأن النظام السياسي قادر على إحداث تغيير أو تحسين وضع هذا البلد. منذ البداية، افتقرت السياسة إلى الصدق لأنهم اختاروا ألا يكونوا صادقين في شأن الماضي". 

ليس من الصعب إيجاد دلائل على الاستياء من طريقة إدارة البلاد. كما يدرك أي شخص يقرأ صحيفة بريطانية، تهجر نسبة كبيرة من شباب ألبانيا بحثاً عن فرص في مكان آخر. فيما يتحدث كثيرون من بين الذين لم يغادروا ألبانيا بعد عن رغبتهم في ذلك. إن أخذنا في الاعتبار نقطة انطلاق البلاد من مكان تسوده مستويات عالية من الفقر والعزلة عن العالم عام 1991، نجد أن التغيير الذي حصل فيها كبير.  

ومن غير المرجح أن يرغب بلد مثل ألبانيا يصب كامل اهتمامه على التنمية، في التركيز على ماضيه. لكن زيفلا لا يرى أي تناقض في هذين الهدفين "لست بحاجة إلى تناسي الماضي لكي تتخطاه وتسير قدماً". من المهم بالنسبة إلى أي بلد أن يكون واعياً بتاريخه، كما توضح مقولة لحنا أرندت نقشت داخل متحف المراقبة السرية في ألبانيا، ومقره في تيرانا "إن عدم وعينا بتاريخنا يحتم علينا بأن نعيشه كما لو كان قدراً خاصاً".

لا أحد من بين المطالبين بالاعتراف بالماضي الشيوعي يعتقد بأنه من الممكن لألبانيا العودة إلى حقبة الاستبداد. بل هم مؤمنون بأهمية التاريخ وبضرورة التعاطي معه على هذا الأساس. علمتنا الأعوام الخمسة الماضية أن الغرب ربما يغالي في إيمانه بثبات الديمقراطية. بينما هي ليست شأناً يجب اعتباره من المسلمات.

سوف يظل إحقاق العدالة في أعقاب الديكتاتورية أمراً صعباً. لكن إخراج رفاة من قتلوا على يد النظام دلالة على احترام كل من تعذب. والسماح بدفن هذه الجثامين بالطريقة التي تليق بها هو اعتراف بالفظائع التي وضعتها تحت التراب.  

مع مرور كل عام إضافي، تتناقص فرص تحقيق العدالة. يجيل فتاح حماتا بصره في الضباب الذي يلف الوادي المحيط بتيبيلينا، ويعترف بأنه فقد الأمل. "أنا كبير في السن، وأوشك أن أفقد بصري. لا يمكنني الاستمرار بهذا النضال".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات