Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجغرافيا القاتلة... تجلد الضحية والجلاد

من كاترينا العظيمة إلى فلاديمير بوتين... كيف أضحت روسيا تحت سطوة التداخلات السياسية لحدودها مع أوكرانيا والغرب؟

هل كانت الجغرافيا السبب الرئيس وراء قيام الحرب الروسية الأوكرانية؟ (غيتي)

ملخص

لو عاشت #كاترينا_قيصرة_روسيا العظيمة، زوجة #بطرس_الثالث 100 عام لأخضعت #أوروبا وضربت عنجهية #الصين وفتحت الباب أمام التجارة مع #الهند... لكن كاترينا ماتت قبل تحقيق حلمها، فهل يتولاه بوتين؟

ذات مرة تحدثت القيصرة الروسية كاترينا العظيمة زوجة بطرس الثالث بالقول "لو عشت 100 سنة لأخضعت أوروبا، وضربت عنجهية الصين، وفتحت الباب واسعاً أمام التجارة مع الهند".

أما الزعيم الفرنسي الأشهر شارل ديغول فصاح مرة أخرى قائلاً "لا توجد استراتيجية ناجعة من دون سند جغرافي".

من هذه التصريحات وغيرها الكثير، يخلص المرء إلى أن الشؤون العالمية لا تزال تحكمها في النهاية الحقائق الثابتة للجغرافيا، من جبال ومحيطات وأنهار وموارد و... جيران.

وفي ذكرى مرور عام على العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا يتساءل المرء: هل كانت الجغرافيا السبب الرئيس وراء قيام تلك الحرب؟

تعرف الموسوعات العالمية جغرافيا الحرب أو الجغرافيا الحربية بأنها فرع الجغرافيا الموسوم بالسياسة، الذي يهتم في الأساس بالدور الحيوي الذي تلعبه العوامل المكانية والجغرافية في الحروب والنزاعات المسلحة.

كذلك ارتقاء فن الحرب، بحسب صن تزو، للتمكن من قيادة جيش، رهن بمعرفة أساسات الجغرافيا ومحددات طبيعة المكان، فعلاقة الجغرافيا بالحرب مبنية على الحكمة لإحراز النصر العسكري وتحقيق مغانم السياسة والاقتصاد.

في أوائل الشهر الحالي، كان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، يعلن عن فشل خطط الغرب لعزل روسيا وتطويقها. ويؤكد أن موسكو ماضية قدماً في تعزيز علاقات الصداقة مع معظم دول العالم، رغم ما سماه "الرقص الوثني الذي يمارسه الغرب".

هل كانت حرب أوكرانيا واحدة من الحروب التي أوجدتها حقائق الجغرافيا ومهدت لها صراعات التاريخ؟

عن مخططات الـ"ناتو" الجغرافية

ظلت روسيا كتلة جغرافية سياسية على مدى القرون الغابرة، وعلى أبوابها تحطم جيش نابليون، وخسر النازي حربه، حتى وإن تكبد الروس ملايين القتلى دفاعاً عن أراضيهم.

ظلت الأعين على روسيا حتى وهي نائمة أو تائهة، وقد بدا أخيراً أن هناك مشروعاً يسعى لتفكيك روسيا الاتحادية بالضبط كما حدث مع الاتحاد السوفياتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

هل من قراءات بعينها يمكنها أن تقودنا في هذا السياق؟

خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر، الورقة البحثية التي نشرها "زبيغينو بريجنسكي"، مستشار أميركا للأمن القومي، والرجل الذي أسهم في التخطيط لتوريط الاتحاد السوفياتي في المستنقع الأفغاني، في مجلة "فورين أفيرز"، عدد سبتمبر (أيلول)- أكتوبر (تشرين الأول) 1997، وهو العام الذي بلور فيه المحافظون الجدد رؤيتهم للقرن الأميركي... فما الذي جاء في تلك الدراسة؟

"إن أولوية روسيا الأولى يجب أن تكون في تحديث نفسها بدلاً من الانخراط في جهد عقيم لاستعادة منزلتها كقوة عالمية. وبالنظر إلى حجم البلد وتنوعه، فإن نظاماً سياسياً لا مركزياً واقتصاد السوق الحرة من المرجح أن يكونا الأكثر قدرة على إطلاق العنان للإمكانات الإبداعية للشعب الروسي، وموارد روسيا الطبيعية الهائلة".

لا يتوقف بريجنسكي عند ما تقدم بل يضيف كلمات يستشف منها نوايا الـ"ناتو" المقبلة "إن روسيا كونفيدرالية فضفاضة، مكونة من روسيا- أوروبية، وجمهورية سيبيرية، وجمهورية الشرق الأقصى، ستجد أن من الأسهل عليها أن تبني علاقات اقتصادية أوثق مع جيرانها".

بريجنسكي يتحدث عن تلك الكيانات التي ستكون قادرة على الاستفادة من إمكاناتها الإبداعية المحلية، التي يعتبر أن موسكو البيروقراطية بثقلها قد قيدتها على مدى عقود، وفي المقابل فإن روسيا اللامركزية ستكون أقل عرضة لتعبئة ذاتها إمبراطورياً.

لم يكن بوتين بعد في مركز القيادة، لكنه كان قريباً بما يكفي ليدرك أن الأيادي الخفية التي فككت الاتحاد السوفياتي جغرافياً وسياسياً وقانونياً من قبل، هي عينها الساعية لتكرار الحدث نفسه مع روسيا المعاصرة.

من هنا يفهم المرء لماذا يصر الرئيس الروسي على القول، إن الخطأ الأكبر الذي ارتكب في القرن الـ20 هو تفكيك الاتحاد السوفياتي، وعلى النحو المهين الذي جرت به المقادير، وأنه لن يسمح بتكرار الأمر مع روسيا الاتحادية مرة أخرى.

جغرافيا التمدد الغربي شرقاً

حين انهار الحزب الشيوعي الحاكم، وانفلتت القبضة السوفياتية الحاكمة في جمهوريات الاتحاد الذي دام نحو سبعة عقود، وعد الـ"ناتو" بأنه لن يسعى للتلاعب جغرافياً بروسيا، بمعنى عدم مناوئتها أو مناوشتها جغرافياً وتعهد عدم الاقتراب من حدودها.

كان ذلك هو المعلن، لكن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد بات "انتقام الجغرافيا" بحسب المنظر الأميركي الشهير روبرت كابلان، حاضراً ولهذا سعت الولايات المتحدة للاقتراب حثيثاً من روسيا شرقاً.

ليس سراً أن روسيا كانت تعاني حالة واضحة من الضعف والمهانة، ولهذا كان من الطبيعي جداً أن تقوم ألمانيا الغربية بضم نصفها الآخر أي ألمانيا الشرقية، وخلال بضع سنوات وقبل أن ينصرم العقد الأخير من القرن الـ20، كانت بولندا والمجر والتشيك، الدول الثلاث التي لطالما اعتبرها الاتحاد السوفياتي أطرافاً استراتيجية له، منضمة إلى حلف الـ"ناتو".

لم تتوقف مساعي الـ"ناتو" للامتداد جغرافياً نحو قلب روسيا، فقضمت دولاً أبعد قليلاً عن روسيا، لكنها كانت بشكل أو آخر تدور في فلك أو تتأثر بالمد الشيوعي، مثل ألبانيا، كرواتيا، جمهورية الجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية.

غير أن ما رسخ لدى بوتين من نوايا الـ"ناتو"، تمت ترجمته سريعاً من خلال الثورات الملونة، في جورجيا وأوكرانيا، بدءاً من عام 2008، ولولا التدخل الروسي العسكري السريع والمباشر، لكانت جورجيا اليوم قاعدة متقدمة للناتو على حدود روسيا.

 حين كان ديمتري ميدفيديف رئيساً لروسيا، خطب في الجنوب الروسي قرب الحدود الجورجية، وذلك بحسب وكالة "رويترز"، في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 قائلاً "إن العملية العسكرية الروسية في جورجيا عام 2008، هي التي منعت توسع الـ"ناتو" ضمن حدود الجغرافيا السوفياتية".

بدت المسلمات الجغرافية لروسيا خلال العقود الثلاثة الماضية، مهددة بالفعل من جراء خطط الـ"ناتو" التوسعية، واكتشف بوتين وجماعة السيلوفيكي المحيطة به أن المصالح الجغرافية الاستراتيجية لبلاده، التي لا يمكن التنازل عنها أبداً باتت بالفعل مهددة، وأن "المحيط المباشر" أو "محيط أمن روسيا"، الذي يشكل عماد كيان الأمن القومي الروسي، في خطر محدق.

عرف الـ"ناتو" كيف يلعب على مشاعر الشعوب الأوروبية والشرقية تحديداً منها، تلك التي رسفت في أغلال السوفيات طويلاً، ومن هنا جاء ما يعرف باسم "مبادرة الشراكة من أجل السلام".

لم يكن هناك في حقيقة الأمر ما يهدد السلام الأوروبي ولا الأميركي، فقد زال الاتحاد السوفياتي الذي مثل الخطر الأحمر الداهم وقتها، فيما كان المخطط الأبعد هو استلاب التخوم من المركز، وضم الدول الأوروبية المحايدة التي لم تكن من قبل عضواً في الـ"ناتو" مثل فنلندا والنمسا وسويسرا.

بدت الجغرافيا السياسية من حول روسيا وكأنها عادت بالانتقام بعد عطلة من التاريخ، عرفت باسم فترة ما بعد الحرب الباردة.

لاحقاً تملكت روسيا قناعة بأن خطر الـ"ناتو"، لن يقل عما قريب عن خطر النازي، فقد كانت قناعة أدولف هتلر بأن مصير ألمانيا يكمن في الشرق، وهذا ما امتلك عقل واضعي الاستراتيجية الأميركية الجديدة عام 2010، "الاستدارة نحو آسيا"، إذ اعتبروا أن الشرق لا بد له من التراجع وألا يصحو مرة أخرى من رقاده.

أوكرانيا كعب أخيل جغرافياً

هل كانت أوكرانيا "كعب أخيل" روسيا الجغرافي، الذي كان اختراقه سيقضي على بقية الجسد الروسي، ويمكن أتباع "بريجينسكي" من تحقيق رؤيته الخاصة بتفكيك روسيا الاتحادية، وكأن المأساة السيزيفية ممتدة عبر التاريخ؟

المؤكد أنه لم يكن ليغيب عن أعين واشنطن النوايا الغربية لجهة أوكرانيا، لا سيما أنها البطن الرخو بالنسبة لروسيا، فهي بالضبط مثل جورجيا، بمعنى أنه إذا جرى السيطرة عليها من قبل قوات الـ"ناتو"، ستصبح بلا شك المنصة التي يمكن الانطلاق منها إلى قلب روسيا الاتحادية، لا سيما أن طبيعتها الجغرافية توجد فيها جبال أو ما يسمح بالانطلاق مباشرة من كييف إلى موسكو، وهذا ما قاله بوتين بالفعل لواشنطن وبروكسل "لا يحتاج أي صاروخ باليستي أو فرط صوتي لأكثر من دقيقتين إلى ثلاث دقائق ليضحى في قلب موسكو إذا انطلق من كييف".

تبلغ الحدود الجغرافية لأوكرانيا مع روسيا نحو 1576 كيلومتراً، فيما الشريط الفاصل بين الحدود الأوكرانية- وكازاخستان عبر القوقاز يبلغ 600 كيلومتر فقط مما يسهم في خلق ثغرة أخرى لموسكو في حال خسرت سيطرتها على القوقاز.

منذ مطلع الألفية الثالثة، والروس يضعون أعينهم على أوكرانيا، ويدركون المطامع الغربية فيها... لماذا؟

باختصار غير مخل لأنها الرقعة الجغرافية الفاصلة بين روسيا والـ"ناتو" بشكله الممتد والمتسع، الذي ضم بولندا إليه عام 1990، تلك التي كانت منطقة نفوذ غير مسبوقة للاتحاد السوفياتي، وها هي قاب قوسين أو أدنى من أن تكون منصة صواريخ لـ"ناتو تطال موسكو، وإن هددت الأخيرة بضربها في الحال.

لم تقدم موسكو على أي إجراء عسكري ضد أوكرانيا قبل عام 2014، وذلك بسبب وجود الرئيس "فيكتور يانوكوفيتش" الموالي لروسيا، غير أنه بعد ذلك العام الذي انهار فيه نظام أوكرانيا، لم يقدر لروسيا أن تدعم حليفها السابق، بسبب أوضاعها الاقتصادية في ذلك الوقت.

غير أن المخاوف الروسية من مزيد من تدهور المشهد في الداخل الأوكراني، أدت إلى التدخل العسكري الروسي مباشرة، وضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها لضمان مستقبلها الجغرافي.

يعرف الدارسون للجغرافيا السياسية الروسية أن حلم روسيا القديم من زمن بطرس الأكبر ومروراً بكاترينا العظيمة وصولاً إلى فلاديمير بوتين، كان الوصول إلى المياه الدافئة في المتوسط. من هنا كان القرار الروسي منطلقاً من جغرافيا سياسية، تضمن من خلالها إطلالها على البحر الأسود، مسارها ومساقها الوحيد إلى المياه الدافئة.

استمرت روسيا في مناشدة الدوائر الغربية الابتعاد عن أوكرانيا أو محاولة ضمها للناتو عن طريق الاحتيال والتلاعب، واستمر المشهد عدة سنوات كانت فيها روسيا من الذكاء تمهيداً للدفاع عن مسلماتها الجيوسياسية والدبلوماسية... ماذا عن هذا؟

عن ثوابت روسيا الجغرافية

يمكن للمرء أن يختلف مع قرارات روسيا - بوتين الخاصة بالعملية العسكرية في أوكرانيا، غير أن هناك كثيراً من المراقبين الدوليين الذين يحترمون رؤيته لصيانة مقدرات بلاده الجغرافية تاريخياً.

لم يقدم بوتين على العملية الحربية إلا بعد عدة مراحل، كان في مقدمها تهيئة بلاده اقتصادياً، لا سيما في ظل العقوبات المفروضة عليها سابقاً، التي ستفرض عليها لاحقاً، عطفاً على تنشيط الدبلوماسية الروسية حول العالم، ومد جسور العلاقات مع الكيانات الجغرافية الناشئة التي يتوقع لها أن تكون في المدى الزمني القريب تجمعات فاعلة على صعيد القوى الدولية، وفي مقدمها منظمة شنغهاي، وتجمع دول البريكس، ودول الآسيان، ناهيك بالعودة الروسية جغرافياً إلى ثلاث مناطق ذات أبعاد جغرافية، يمكن للحضور الروسي فيها أن يكون ناشطاً ومناوئاً للناتو وقواعده التقليدية.

الأولى: منطقة شمال البحر الأبيض المتوسط، حيث عودة للعلاقات مع مصر وليبيا والعلاقات المتميزة مع الجزائر.

الثانية: منطقة الخليج العربي، وهناك تلعب روسيا على المتناقضات، لا سيما العلاقة مع إيران والتعاون الكبير الذي جرى خلال الحرب الأوكرانية.

الثالثة: القارة الأفريقية، حيث الملعب الأممي الواسع والفسيح، وفيه صراع جيوسياسي متسع مع الولايات المتحدة والصين.

كانت روسيا ولا تزال حريصة أولاً وقبل كل شيء كل الحرص على فكرة "مركزية الأرض" بمعنى أن تظل موسكو هي النقطة الرابطة والقابضة بقوة على جميع مناطق الجوار الروسي بوسائل شتى أمنية وسياسية، ناهيك بالمساعدات الاقتصادية ومن غير إهمال للبعد الروحي الديني الذي لعبت فيه الأرثوذكسية الروسية مداراً جغرافياً روحياً من حولها إن جاز التعبير.

حين سقط السور الحديدي السابق للاتحاد السوفياتي لم تهمل موسكو فكرة وجود حاجز جغرافي بينها وبين أوروبا الغربية. قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت موسكو قد نجحت في التوسع جغرافياً في اتجاه أوروبا الغربية، غير أن ما أصابها جعلها تتراجع إلى الوراء لتفقد مناطق عازلة مهمة وحيوية لأمنها القومي، ومن هنا تبدت الأهمية الكبرى لأوكرانيا.

عام على حرب أوكرانيا
في 24 فبراير 2022، شنت روسيا هجوماً عسكرياً واسعاً على أوكرانيا، لمواجهة خطط توسع حلف شمال الأطلسي. بعد مرور عام، العالم بأسره يعاني من تداعيات الحرب فيما لا تلوح في الأفق أية نهاية قريبة للنزاع.
Enter
keywords

 

أوكرانيا قلب المثلث الجغرافي

في مارس (آذار) 2022 وبعد أيام قلائل من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كتب الإعلامي البريطاني المعروف تيموثي مارشال مقالة مهمة عنوانها "لماذا روسيا أسيرة الجغرافيا؟"، في قراراته، أوضح مارشال الخلفية التاريخية والجغرافية التي دفعت بوتين للإقدام على ما يعتبره البعض مغامرة، فيما الحسابات الروسية تقطع بأن المشهد كان إجراء احترازياً واجب الوجود، تزخمه حقائق التاريخ منذ العصور الوسطى، إذ إن انكشاف روسيا من عند حدودها الغربية المفتوحة على سهول شمال أوروبا، تسبب لها في كثير من المطامع على مر التاريخ، تلك السهول التي تضيق في مستوى بحر البلطيق وسلسلة الكاربات حيث موقع بولندا التي تشكل خط الحماية الأخير لروسيا، ومن هنا حرصها الدائم على استتباعها.

هل عمل بوتين بالفعل لإحياء المثلث التاريخي الجغرافي الروسي؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك، إذ إنه وفيما أعاد للعنقاء الروسية الكبرى حياتها من الرماد، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وإذ قدر له تطويع بيلاروس بطرائق عدة منها الدعم المالي والمجتمعي، والمساندة الاستخباراتية وبالقوة المسلحة والعتاد، لم يتبق إذن أمامه سوى أوكرانيا كي تكتمل الأضلاع الجغرافية لإحياء روسيا التاريخية الكبرى، ولهذا تحدث القيصر بوتين أكثر من مرة مشيراً إلى الجذور الروسية التاريخية لأوكرانيا.

اعتبر بوتين أن أسلافه الذين نظروا إلى أوكرانيا كعمق استراتيجي جغرافي لروسيا كانوا حسني النية، وأنه في زمن أطماع الـ"ناتو"، لا يتوجب الاستمرار طويلاً في هذا المسار سيما أن أوكرانيا على هذا النحو أصبحت موقعاً جغرافيا، يكاد يضحى بؤرة مهددة للأمن القومي الروسي، ولهذا كانت الجغرافيا السياسية هي من فرض مجرى الأحداث، حيث كانت روسيا مضطرة في تقدير رجالاتها لخوض الحرب دفاعاً عن مستقبلها ودرءاً لسيناريوهات الحرب الأهلية التي تحاك لها.

المناطق الأربع وجغرافيا جديدة

يملك علم الجغرافيا كثيراً للمساهمة في فهم الحروب، فالجغرافيا تمثل للحرب عمقاً أساسياً لكل التحركات العسكرية وسير العمليات الحربية، إذ إنه من المستحيل فصل العمليات العسكرية عن ظروف البيئة الجغرافية، حيث تمثل الأرض بواقعها الطبيعي والبشري مسرحاً للعمليات العسكرية.

هل يدفعنا هذا المفهوم لإدراك لماذا صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبسرعة شديدة على انضمام مناطق الدونباس (دونيتسك ولوغانسك وزابورجيا وخيرسون)، لروسيا الاتحادية، بعد الاستفتاءات التي أقامتها الإدارات الموالية لموسكو فيها؟

بضمها تلك المناطق الأربع تحوز روسيا نحو 40 ألف ميل مربع شرق وجنوب أوكرانيا أي نحو 15 في المئة من إجمالي مساحة الدولة الأوكرانية أو ما يعادل حجم البرتغال أو صربيا.

تتجلى القيمة الجغرافية في تلك المناطق الأربع من كونها رقعة متصلة من الأراضي التي تربط جنوب غربي روسيا بموانئ المياه الدافئة في البحر الأسود.

أما منطقتي لوغانسك ودونيتسك، اللتان تعرفان بإقليم الدونباس، ويبلغ عدد سكانهما قبل الحرب مجتمعين نحو ستة ملايين شخص، فيظلان حدوداً جغرافية في غاية الأهمية لروسيا سيما لوغانسك التي تطل على حدود روسيا من ثلاث جهات.

فيما منطقة خيرسون التي كان عدد سكانها قبل الحرب يصل نحو مليون نسمة، فتقع شمال شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا، وعليه فإنها نقطة ارتكاز جوهرية، ويمكن لها أن تكون داعماً عسكرياً حال فكر الأوكرانيون في العودة من جديد إلى شبه الجزيرة التي تعد منفذ بلادهم نحو العالم من خلال ميناء سيفستوبول.

كان ضم القرم لروسيا جغرافياً، تجربة سياسية تم وضع الغرب فيها في موضع الاختبار والتجربة، وعرف الروس والعالم أنه ليس من رغبة لدى الـ"ناتو" في الدخول في مواجهة عسكرية مسلحة، يمكن أن تقود إلى مواجهة نووية.

وبالنسبة لروسيا، تعلمت موسكو كيف تتأقلم مع العقوبات الغربية التي تبعت ذلك، ولهذا بدت غير مبالية بتبعات مثل هذه القرارات التي فجرت الغضب عند كييف والغرب، وأن توقف المشهد عند حدود الغضب ليس أكثر.

ذات مرة من عام 2014، قال فلاديمير بوتين: "إنهم يحاولون باستمرار حشرنا في الزاوية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مستقبل روسيا الجغرافي

أدرك الجغرافيون أن الحروب لا تحدث عشوائياً حول العالم، حيث تلعب المسافة دوراً مهماً في معظم الصراعات المسلحة عبر التاريخ، إذ إن الدول المتجاورة أكثر عرضة للتحارب، وقد طرح الجغرافيون السياسيون عدة مناهج لتحليل الحروب.

يذهب المحلل السياسي الروسي ألكسندر دوتشاك، إلى أن روسيا بعد انضمام المناطق الأربع لن تخرج من الحرب الدائرة في أوكرانيا إلا بتحقيق أعلى سقف من النتائج الجيوسياسية، كما ستواصل مسلسل تجميع أوراق القوة بانتظار تحولات داخل أوكرانيا، وفي السياسة الغربية تصب في صالحها.

هل يعني ذلك أن الحرب الأوكرانية ستستمر إلى أن يتم الأخذ بعين الاعتبار مخاوف روسيا الجغرافية من قبل الـ"ناتو"؟

بالعودة إلى تاريخ روسيا، منذ زمن القياصرة، ثم البلاشفة، وصولاً إلى روسيا الاتحادية، نجد أن روسيا وباختلاف الأيديولوجيات الحاكمة، قد حافظت على نمط واضح من محددات الجغرافيا السياسية الآمنة للبلاد.

معنى ذلك أن مغامرة بوتين الجغرافية قائمة وقادمة، إلى أن يعي الـ"ناتو"، ومن وراءه أوكرانيا هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس.

هل سيتوقف مشهد المواجهة الجغرافية الروسية في أوكرانيا عند هذا الحد أم أن معركة الربيع المقبل يمكنها أن تغير الأوضاع وتبدل الطباع بصورة كلية وجوهرية؟

الجغرافيا حبلى بالمفاجآت.

المزيد من تقارير