Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لوكريشيوس يتساءل عن أسرار الوجود في كتابه الوحيد الذي يؤكد وجوده

"في طبيعة الأشياء" 7500 بيت من الشعر لولا فرجيل لاختفت في غياهب التاريخ

صورة يفترض أنها تمثل الشاعر الفيلسوف لوكريشيوس (موقع ويكيبيديا)

لا يشكك أي من مؤرخي الفكر بوجود حقيقي للشاعر اللاتيني #لوكريشيوس، بخاصة أن بين أيديهم جميعاً طبعات قد لا تكون متطابقة لكتابه الوحيد الذي وصل إلينا بعنوان يكون أحياناً "في الطبيعة" وأحياناً أخرى "في طبيعة الأشياء" وفي حالات أكثر ندرة "في طبيعة الوجود" علماً أن هذا العنوان الأخير هو الأقرب إلى المنطق، والأول يستخدم للاختصار مع أنه قد يضيع القارئ فيخيل إليه أنه #كتاب رومانطيقي يبحث في #شؤون_الطبيعة، أما "في طبيعة الأشياء" فإنه الأكثر تداولاً مع أنه ليس الأكثر دقة كما قد تفيدنا السطور السابقة. مهما يكن، سواء كان هذا أو ذلك أو ذاك هو الأصح فإن الكتاب موجود وليس ثمة شك في أن مؤلفه يدعى تيتوس لوكريشيوس كاروس وأنه بشكل أساسي ينتمي إلى الفكر الإبيقوري المرتبط بالمذهب الرواقي، لكن لوكريشيوس نفسه يفضل أن يعتبر إبيقورياً على اعتبار أن ينظر إلى الفيلسوف اليوناني إيبوقراط نظرته إلى أب له، بل حتى إلى إله خلال القرن الأخير قبل ولادة المسيحية. فلوكريشيوس الذي ثمة إجماع على أنه كان شاعراً وفيلسوفاً في الوقت نفسه عاش في الفترة المضطربة بين 99 – 94 قبل الميلاد، و55 – 54 قبل الميلاد أيضاً، لكنه أرهص بمجيء المسيحية من خلال إقراره على عكس كثر من الفلاسفة المجايلين له، بوجود إله بديل لآلهة اليونان وإله موسى، لكنه كان يسميه "الطبيعة" على غرار ما سيفعل سبينوزا بعد انشقاقه عن اليهودية لاحقاً، من دون أن نعرف بالطبع ما إذا كان سبينوزا قد قرأ لوكريشيوس وتأثر به.


حياة مجهولة لمفكر حقيقي

أما بالنسبة إلى لوكرشيوس نفسه فإننا في الحقيقة نكاد لا نعرف شيئاً عن حياته سوى تلك المعلومات التي ذكرناها. والحقيقة أنه كان من شأننا، حتى ولو طالعنا "في طبيعة الأشياء" de natura rerum أن نجهل كاتبه تماماً لو لم يتحدث عنه الشاعر اللاتيني فرجيل بكل ثقة وإعجاب لا متناه في ملحمته "الإنيادة" مكرساً له فقرات لا مراء في أنها تكشف معرفة عميقة به وبكتابات أخرى له فقدت تماماً في الأزمنة اللاحقة. وعلى أي حال فإن في كتاب "في طبيعة الأشياء" كثير من المبادئ والأفكار التي تعطي لوكريشيوس مكانة أساسية تجعل منه فيلسوفاً متفرداً في زمنه. وهو كتاب كان يدرس في زمن فرجيل كما يوحي لنا هذا الأخير الذي يطلق على أستاذه هذا لقب "لوكريشيوس السامي"، على غرار ما يطلقه لوكريشيوس نفسه على أستاذه إيبوقراط. ولعل من الأمور التي قربت بين هذا الرواقي الكبير واللاتيني الذي يعلن بوضوح انتماءه إليه فكرياً، أن الاثنين عاشا وبنفس الطريقة زمن انحطاط الدولة التي احتضنت كلاً منهما. فكما أن الأول انطلق في تأملاته من رصده لانهيار الديمقراطية "الجمهورية" ودولة الرفاه في زمنه فكانت كتاباته رداً على ذلك الانهيار، كذلك فعل الثاني في كتابه الذي نحن في صدده هنا، حيث عاش زمن انهيار "الجمهورية الرومانية" عبر انقلابات عسكرية وانهيارات اقتصادية وفساد أخلاقي راح يتأملها منطلقاً من دراسته لـ"طبيعة الأشياء" وصولاً إلى تساؤلاته عن كيف يكون الترياق. ويقيناً أن الترياق تمثل لديه أخلاقياً– سياسياً، أو هكذا يفيدنا في كتابه هذا. ويتألف "في طبيعة الأشياء" من ستة "كتب" أو أقسام يتكون كل منها من مئات الأبيات الشعرية ليصل مجموع أبيات الكتاب، في نسخه الأكثر اكتمالاً بالنسبة إلينا، إلى نحو 7500 بيت من الشعر يعالج فيها لوكريشيوس مجمل الشؤون التي كانت تشغل باله في تلك الأزمنة، وإن كان ثمة من المؤرخين من يعتقد أن الشاعر– الفيلسوف لم يتمكن من استكمال ما كان يريد لقصيدته هذه أن تكون في نهاية الأمر، فيما يعتقد آخرون أن ثمة أجزاء أخرى مفقودة. أما الأجزاء التي وصلت إلينا فتعتمد على مخطوطة وحيدة عثر عليها في عام 1417 في دير في ألمانيا على يد بودجيو براتشيوليني، لتنتشر منذ ذلك الحين وتنشر معها "المذهب الذري" الذي كان عماد فكر الجيل الأخير من الرواقيين وأحياه لوكريشيوس في قصيدته الطويلة هذه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


منظومة فلسفية متكاملة

والحقيقة أن ما نظمه شاعرنا الفيلسوف في عمله هذا لم يكن مجرد تأمل شاعري في أحوال الطبيعة كما قد يوحي الكتاب بعنوانه المختصر "في الطبيعة"، بل منظومة فلسفية متكاملة إلى حد كبير هدفها الأول، وهو هدف ينتمي إلى فكر إنسانوي لا مراء فيه، إنما هو تخليص العقل الإنساني من الغيبيات التي كانت سائدة لا سيما بعد انهيار الفكر الإغريقي. ومن هنا كان تبني لوكريشيوس للنزعة الذرية بشكل لا شك أنه سيكون له تأثير هائل على أصحاب هذا الفكر لاحقاً ومن أهمهم بيار غاسندي، ناهيك بأساطين الفكر التنويري الأوروبي في القرنين الـ17 والـ18 من الذين لم ينفصل إيمانهم بالنزعة التنويرية عن تبني معظمهم المذهب الذري، الذين راح كثر منهم يسعون إلى العثور على توجه مسيحي إنسانوي يخلص الإيمان من الخرافات. وهو التوجه الذي سيسير على هديه خلال النصف الثاني من القرن الـ19، على الأقل، عدد من كبار المفكرين النهضويين العرب وغير العرب من الذين راحوا يسعون إلى استعادة الألق الإنساني للإسلام. وقد يكون من المفيد هنا أن ننقل عن المفكر المصري عبدالرحمن بدوي في الجزء الثاني من "الموسوعة الفلسفية" ما يكتبه عن لوكريشيوس من أن "الهدف الرئيس من قصيدته إنما كان تحرير الناس من الخرافات وتعويدهم على فكرة أن الموت فناء تام للإنسان، وتخليصهم من فكرة تدخل آلهة (الأولمب) في شؤون الناس". صحيح أن لوكريشيوس كن يرى أن "أولئك الآلهة موجودون لكنهم كانوا مجرد كائنات أسمى من الناس، لكنهم يلقون الفساد والموت"، متابعاً أن تلك الآلهة "لا تحفل أبداً بأمور الإنسان أو بفنائه فالذرات هي وحدها السرمدية، ولا يطرأ عليها الفساد"، ومن هنا، طبعاً، تمسك لوكريشيوس بالمذهب الذري وسعيه لنشره في زمنه.

بعيداً من السياسة

مهما يكن، من الواضح أن لوكريشيوس، في كتابه يتحدث إلى زمنه وعن زمنه ولم يكتبه لمجرد أن يكون تذكاراً لفلاسفة سابقين. ولعل في هذا كان التدخل الوحيد لهذا الشاعر – الفيلسوف في أحوال ذلك الزمن رغم أنه ولد لعائلة كريمة ذات باع في شؤون روما العامة، وعلى رغم أنه هو قد تجول بفضل ثراء أهله بين عديد من المدن الإيطالية وصولاً طبعاً إلى صقلية التي أقام فيها فترة من الزمن لا بأس بطولها- التي نعرف أنها كانت ومنذ فجر الزمن الإغريقي أكثر تقدماً من الناحيتين الفكرية والعلمية من باقي المناطق والمدن الإيطالية - وتعرف على أحوال شعوبها وسياسات حكامها وأنظمة الحكم فيها، كما رغم أنه كان صديقاً مقرباً لأحد ألمع ساسيي زمنه، غايوس ميميوس، رغم ذلك كله لم يتدخل لوكريشيوس في السياسة بل آثر البقاء في عزلة فكرية أسعدته بالتأكيد، ساعياً فقط، من خلال استعادته ما أبدعه رواقيو اليونان وعلى رأسهم، بالنسبة إليه، إيبوقراط، من فكر كوني وإنساني يعيد الارتباط بين "الأشياء" وطبيعتها. ولا شك أنه قد نجح في ذلك ولو على مستوى نخب زمانه. أو هذا على الأقل ما أكده فرجيل، وعلى خطاه الشاعر اللاتيني الآخر هوراس، في تخليد ذكرى صاحب "في طبيعة الأشياء". وهنا قد يكون من المناسب أن نذكر أن لوكريشيوس، وفي ما يخص إيبوقراط، لم يبتعد في أي كتاب من "الكتب" التي يتألف منها كتابه، عن مخاطبته بتبجيل قل نظيره، قائلاً له في إحدى الفقرات، "إني أتبعك أنت يا نجم الجنس اليوناني اللامع، وفي آثارك العميقة أغرس قدمي، لا من أجل أن أنافسك، بل لرغبتي في أن أتشبه بك". ولعل هذا القدر من التبجيل يذكرنا بواحد من أجمل أبيات شاعر القرن الـ20 المصري أحمد شوقي حين قال في مدح النبي "مدحت المالكين فزدت قدراً/ وحين مدحتك اجتزت السحابا".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة