Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرسام الطبيب علاء بشير يجسد آلام الذاكرة العراقية

معرضه الجديد "نسيان" يسترجع رمز الغراب والنسوة الحزينات وضحايا الحروب

الغراب الذي ينقر عين امراة (خدمة المعرض)

في معرض جديد له سماه "#نسيان" يقدم الطبيب الجراح، والفنان والرسام والنحات، والكاتب العراقي المثير للجدل علاء بشير (مواليد 1939) رؤية جديدة تزاوج بين #الرسم والنحت، ويستجير كعادته بصورة "#الغراب" الذي يلاحق أعماله ومعارضه منذ زمن، وكأنه الشاهد على ما عاشه هو ورآه يوم كان يشاهد كيف يموت الناس في وطنه. لا أحد يعرف ما يدور برأس علاء بشير، حين يقص حكايته للآخرين باقتضاب وحذر شديدين، وتقسيط متعب، ولمن يمني النفس أن يأخذ منه حديثاً، أو يطمع باستدراجه.

فموضوع ما شاهده الفنان وعايشه إبان عمله نحاتاً ورساماً وطبيباً للرئيس العراقي السابق صدام حسين، دخل عالم الاهتمامات، من دون رغبة والده الذي طالبه أن يتوارى بجلباب الطبيب، كي لا يساير الحكومة، كما حالت أمه دون سفره للابتعاث خارج البلاد لأنه وحيدها.

فبعد أن كان مؤهلاً للابتعاث كأقرانه المتفوقين، في مدينته خانقين غرب العراق، وباستجابته لتمنيات والده، الذي أدخله كلية الطب من دون رغبة منه، وغبطة أمه في البقاء إلى جانبها، ظل علاء بشير الموهوب يكره الطب ويهوى الهندسة المعمارية، إلا أنه أجبر عليه، متحدياً ذاته وهو لا يعرف أيضاً لماذا؟ فهو يقول إنه لا يعرف من أين جاءته موهبة الرسم، ولا يدري كيف تملكته منذ صغره، ولا أحد من عائلته يمارس الرسم قبله.

 
يستذكر خمسين سنة من عمره كفنان، عند مراجعة عقود البحث عن كنه الوجود الإنساني والرحيل صوب خبايا روحه التواقة إلى وطن يرقد فيه، لكنه أضحى منغمساً في عوالم لوحاته التي يقول عنها إنها تمثله، لأنها "وقدة أولى"، مرسومة مسبقاً في مخيلته، ومتمثلة قبل رسمها صورة وألواناً وبالحجم أيضاً، كما يعبر، معلناً أنه يكره النحت لأنه يتأخر كثيراً في التحضير فيه، ويحب الطين لأنه أسرع في التعبير عما يجيش في مخيلته وأسرع في الاستجابة عما يدور في ذهنه، وأكثر تعبيراً عما يتصوره مجسداً قبل أن يلامس حاجاته إلى التعبير الفوري الذي يعوقه النحت الذي بزغ فيه.
 
"نسيان" معرضه الجديد
 
وعلى هامش معرضه بمؤسسة العويس الثقافية في دبي يجيبنا عن سؤال حول مغزى تمسكه برسم الغراب وفلسفة الوجود التي يتبناها، بحيث يرى أن الغراب هو أول من علم الإنسان الحكمة ومواراة سوأته، حين شاهده قابيل فتعلم منه كيف يدفن شقيقه هابيل، فكان الغراب الشاهد الأول في التاريخ على أول جريمة ارتكبها الإنسان، وقد كرم الله الغراب بذكره في سور من القرآن.
يعتقد علاء بشير أن الغراب لم يكن نذير شؤم كما يتخيل العوام، لكنه الحكيم، الذي تفضل على الإنسان بتعليمه، كيف يدفن الإنسان القتيل بأمر الله، ويظن أنه يستحق الاحتفاء به وتذكير الناس بفضله على البشرية. هكذا يسوغ علاء بشير تكرار الغراب في أعماله.
 لكنه يظن أن هنالك معضلة إنسانية تكمن في فهم الفن وقيمته في الحياة، فهو ليس كما يتصوره كثيرون مجرد سطح ناتج جراء ملامسة الخطوط والألوان وإنما العمق الذي يمثله، والجذور التي لا نراها ظاهرة.
لام كثيرون من العراقيين علاء بشير على كتاب نسب إليه، بعد احتلال العراق بعنوان "كنت طبيباً لصدام حسين"، وهو منزعج من عدم فهم الناس، لظروف إصداره، لأنه من تأليف كاتب نرويجي. وأعلن أنه يتبرأ من ذلك الكتاب الذي نشر من دون موافقته في النرويج، بواسطة لارس سولاني وترجم إلى العربية عن الألمانية.
 
 
 
 
يقول علاء بشير إن يومياته التي كان يدونها منذ عقود اختفت بعد الاحتلال، وكانت تتضمن اعترافات ويوميات كتبها عن مرضاه، وسرقت لحظة الاحتلال، لكنه ظل يعاني تكرار عتب كثيرين عليه وكأنه هو من يشي في الكتاب المذكور، بأسرار مرضاه. فالقراء لم يصدقوا روايته التي يؤكد فيها أنه ليس كتابه، وتبريره ترجمة الكتاب بسرعة إلى خمس لغات من بينها العربية، مما يفتح باب الشك بالنوايا المبيتة. ويتنصل أيضاً من أن يكون شاهد إثبات عما جرى داخل أسوار السلطة في بلاده، التي كانت تئن من طغيان الحكم وجور الحاكم.
 هكذا تولد في ذاكرته سؤال دائم عن حجم الألم الذي عاشه، خصوصاً أن الأمر حدث ويحدث في وطنه. فمنذ كان طالباً في الكلية الطبية عام 1958 عاش الانقلاب الذي تسبب بمقتل العائلة المالكة ورأى كيف يسحل الانقلابيون جثث الأمراء والملوك في شوارع بغداد، مما ولد لديه أسئلة مؤلمة لا أجوبة لها. وابتلى الشعب بعد ذلك بالقتل والحروب والانقلابات المستمرة، وشاعت الكراهية وطغت ظواهر الانتقام وتدحرجت لتكبر وتكون سمة المجتمع العراقي.
لا يجد علاء بشير الأسباب الكامنة وراء هذه الأعمال كلها، ولا يتمكن من فهم لماذا يقتتل الناس في أرض الرافدين، وهي تنعم بكل تلك الخيرات وترتع في طبيعة لا تنضب من العطاء. بات حزيناً كما يقول "صرت لا أثق بالشارع العراقي على الإطلاق، لأن ناسه مكبلون بانفعالات شخصية، ويقرؤون التاريخ بلا وثائق".
 
ظل علاء بشير يدلي باعترافات عما شاهده وهو صغير ثم لاحقاً، لكنه يرويها بجزع وبلا دمع، وكأن عينيه تحجرتا من الألم. فالزمن كان زمن الخشية من البوح بما رآه يوم كان مقرباً من السلطة، وصديقاً لها، يثق رجالها به ويسلمونه أرواحهم للتعافي. وبعد أن انطبعت في ذاكرته مشاهد الموت التي ترسخت في روحه جعلته حزيناً يكرر رسم ثلاثة مشاهد في أعماله وذاكرته المشحونة بالوجع: الصراخ الصادر عن القمع من خلف شق الجدار، والغراب الأسود الذي ينقر مقلة شخوصه، والنساء اللاتي يسكنهن حزن أبدي.
 
 الفنان والسلطة
 
هل كان علاء بشير مرغماً على أن يجامل السلطة، ولا أقول يحابيها، حين اختارته واحداً من عشرين طبيباً خاصاً لمعالجة الرئيس العراقي السابق وعائلته والمقربين من أركان حكمه؟
 تلك التجربة جعلته كما يقول يتمادى في الانغماس في مشهد الموت وتخطي عقدة الخوف، التي ما عادت تغريه، أو تثنيه عن الاستمرار في حواره مع السلطة من داخلها، حتى وإن اختارته وكرمته وأغدقت عليه في وقت يعرف فيه أنه ليس منها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"كنت أرسم وأتأمل في الطين... وأتذكر الجثث التي قطعتها أدوات الحرب وصور الضحايا وهم مفتوحو الأعين، ينظرون في الفراغ إلى الأعلى، ليعودوا إلى الطين الذي خلقوا منه في باطن الأرض". قد تكون رغبة الفنان في الهرب من عالم الموت، الذي اعتاد عليه طبيباً غارقاً في دماء الجرحى القادمين إليه على نقالات الإسعاف، من الجبهات طيلة ثمانينيات القرن الماضي، حافزاً لممارسة يومية اعتادها في ترميم وترقيع الأجساد المتهالكة بفعل الحرب.

وعن الألم الذي تسببت به تلك الحرب للبسطاء من أهله يقول "حين وقفت مرة أثناء الحرب أمام أكثر من مئتي قتيل مفتوحي الأعين يحدقون في المجهول، فاغرين أفواههم وعيونهم مسمرة نحوي من دون أن يروني قطعاً، أدركت كم هي قاسية خسائر الشعب وضحايا الخنادق أثناء المعارك، وكم موجع أن يكون الناس في الوطن وفي الجبهات يعيشون الحلم بين رصاصة وأخرى تكاد تخرق أجسادهم". كان عليه أن يعيد إليهم جمال الجسد بلمسة الرسام وقلب الفنان، بعد أن توافدوا إليه من الجبهات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة