من النظريات التي اختصت فيها الفلسفة الإسلامية، ولم تكن مطروقة من ذي قبل هي "نظرية النبوة"، التي كانت لها أسبابها الفكرية والعقلية والحياتية. إذ خلال القرن الثالث الهجري تصاعد تيار إلحادي مخالف للعقيدة الإسلامية، خصوصاً تجاه النبوة والقرآن. لكن في القرن الثالث عشر الهجري بمستهل عصر النهضة للفكر العربي أُعيد إحياء هذه النظرية، والبحث فيها وفي أبعادها العقلية والإيمانية.
وفي هذه الدراسة أودّ العودة لطرح هذه النظرية جراء السلبيات الفتاكة والتدهور المتواصل لما يُعرف اليوم بـ"الإسلام السياسي"، سواء مع الجماعات والحركات المرتبطة أو المتفرعة من الإخوان المسلمين، أو الأحزاب والجماعات المسلحة المرتبطة بالمشروع الإيراني الطائفي، وما أفرزته في تنظيم القاعدة وداعش وغيرهما، مما سبّبته من تدمير وإرهاب طال العديد من الدول والبلدان شرقاً وغرباً، علاوة على تسببها بعودة ظاهرة الإلحاد بين الشباب، سيما في إيران والعراق، جراء الفساد المالي والإداري والأخلاقي لدى الأحزاب الدينية السياسية المهيمنة على السلطة وعلى الشؤون الحياتية والاجتماعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نبذة أولية
انتشر تيار الإلحاد في المجتمع الإسلامي، وبلغ ذروته في قطبين يُعدّان من أكبر زعماء الفكر الإلحادي في تاريخ الإسلام، هما ابن الراوندي وأبو بكر الرازي. بالنسبة إلى أبي الحسين أحمد بن يحيى بن إسحق الراوندي (210-250 ه/824-864 م)، وينحدر من قرية راوند في خراسان، وكان والده يهودياً، درس في الري، وتعرّف على الاعتزال في البصرة، ثم ذاع صيته في بغداد، وكان طيب السيرة في بادئ أمره، محافظاً على فرائض الدين، لكنه انحرف، فغضب منه المعتزلة وطردوه من مجالسهم، وراح يتنقل من مذهبٍ إلى آخر، حتى انتهى به الحال إلى فرقة الزندقة والإلحاد، بعد أن أثر عليه كثيراً أبو عيسى الورّاق بالفكر اللاديني، ومات طريداً مستخفياً بين اليهود؛ هذا ما اجتمع عليه أغلب العلماء والمؤرخين، أمثال: الذهبي والقاضي عبد الجبار وابن الجوزي والعسقلاني وابن كثير وابن تغري والنديم والكعبي وآخرين غيرهم.
وضع ابن الراوندي العديد من المؤلفات، التي تعكس أفكاره وآراءه بحسب الفترة الزمنية من حياته، فمن مناصرته للمعتزلة إلى ضدهم، ومن التشيع إلى البراهمة والدهريين والزنادقة، ولم يصلنا شيء من كتاباته إلا ما تم جمعه، كما في كتاب "الزمرد"، الذي هاجم فيه الدين ونقد القرآن وشكك في النبوة، إذ يقول: "إنه قد ثبت عندنا وعند خصومنا أن العقل أعظم نِعم الله سبحانه على خلقه، وإنه هو الذي يُعرف به الرب ونِعَمُه، ومن أجل صحَّ الأمر والنهي والترغيب والترهيب. فإذا كان الرسول يأتي مؤكداً لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر، فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته، إذ قد غُنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ. وإذا كان (ما يأتي به الرسول) بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق والحظر، فحينئذٍ يسقط عنا الإقرار بنبوّته".
فحسب رأي ابن الراوندي، "أن الهداية تقترن بالعقل وحده، وليس بالأديان والأنبياء والرُسل، فتلك الأمور نوافل، وكل نافلة كفانا الله إياها. وأما ما يقال عن بلاغة القرآن وإعجازه فليس بالأمر الخارق العادة، لأنه لا يمنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل كلها، وتكون عدة من تلك القبيلة أفصح من [بقية] تلك القبيلة، ويكون واحد من تلك العدة أفصح من [سائر أفراد] تلك العدة".
وذهب ابن الراوندي في نقده بُعداً شمل فيه قضية التوحيد، والتشكيك في صفات الله، حتى أنكر وجود الله، وأزلية العالم. ولقد ألف كتاب "التاج"، إذ يتفق فيه مع الدهريين في مقولتهم بِقدم العالم وأزليته. أمَّا كتاب "الدامغ" فقد خصصه في معارضة القرآن، والردّ عليه. وفي كتاب "البصيرة"، الذي ألفه لليهود مقابل حفنة دراهم، إذ يحتج لهم في إبطال النبوة والرسالة السماوية التي أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا لم يصدر أمر قضائي بحق ابن الراوندي، أو التعرض له كونه ينشر عقيدة الإلحاد بين المسلمين، فذلك يعود لجملة من الأسباب منها، إنه يطرح آراءه ضمن الجدل الكلامي والفلسفي، فضلاً عن الحرية الفكرية السائدة في بغداد وقتذاك. لكن هذا لا يمنع من القول، أن ابن الراوندي قد اتخذ من الكتابة والمناظرة مسلكاً يبث من خلاله أفكاره وآراءه المضادة للإسلام جملةً وتفصيلاً.
وحسب تصوّري، لا أستبعد اندساس ابن الراوندي بين المسلمين، فاليهود والفرس الزنادقة قد دسوا عناصر كثيرة لتفكيك قوة الإسلام من الداخل. ولقد كشف الإمام الغزالي دور "الباطنية التعليمية" في هذا الصدد، وكذلك ابن سينا في كتابه الوحيد بالفارسية، الذي يردّ فيه على الزنادقة الفرس.
كيفما كان الأمر، فإن أبا بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي (250-311 ه/864-923 م)، لا يقلّ شأناً عن ابن الراوندي في النهج الإلحادي، ففي كتابه "الطب الروحاني"، يؤكد دور وأهمية "فضل العقل"، الذي هو المرجع في كل شيء يتعلق بأمور الدين، ومسائل الألوهية، وقضايا الدنيا والحياة.
وكما جاء في الفصل الأول، من كتابه السالف الذكر، "فإن البارئ إنما أعطانا العقل لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهر مِثلنا نيله وبلوغه. بالعقل أدركنا جميع ما ينفعنا ويحسن ويطيب به عيشنا، وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا، الخفية المستورة عنا، وبه وصلنا إلى معرفة البارئ".
فالعقل "إذا كان هذا مقدارَهُ ومحلَّه وخطره وجلالته، فحقيق علينا ألا نحطه عن رتبته، ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله، وهو الحاكم، محكوماً عليه، ولا مزموماً، ولا تابعاً، بل نرجع الأمور إليه، ونعتبرها به، ونعتمد فيها عليه، فنُمضيها على إمضائه ونقفها على إيقافه".
وهكذا، فلا سلطة دينية أو نبوية أو لاهوتية تعلو فوق سلطة العقل، حسب رأي الرازي. وفي كتابه" مخاريق الأنبياء" ينصّ الرازي على أن الأديان تناقض بعضها بعضاً، فكيف يصح الإيمان بها، إذ "زعم عيسى أنه ابن الله، وزعم موسى أنه لا ابن له، وزعم محمد أنه مخلوق كسائر الناس". وكذلك "زعم محمد أن المسيح لم يُقتل، واليهود والنصارى تنكر ذلك وتزعم أنه قُتل وصُلب". وهذا التناقض يدلُّ على بطلان النبوة، وإلا نسبنا إلى الله التناقض والاضطراب.
ولذلك يؤكد الرازي في إحدى مناظراته، أن الأديان مدعاة إلى الشقاق والتنازع والحروب والخصومات، إذ يقول: "من أين أوجبتم أن الله اختص قوماً بالنبوة دون قوم وفضلهم على الناس، وجعلهم أدلة لهم وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك ويشلي بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات ويكثر المحاربات ويهلك بذلك الناس؟".
رغم أن الرازي يلتقي مع ابن الراوندي في موجة الإلحاد، التي طغت ردحاً من الزمن، بيد أن الرازي قدّسَ العقل أيما تقديس، ورفض وجود أي معرفة تقع خارج عنه، لذلك تجده يُلمح حيناً، ويُصرح حيناً آخر تجاه إنكاره إلى النبوة والدين، بينما ابن الراوندي يسعى متعمداً في إلحاده لمعاداة المذاهب الإسلامية برمتها، والخروج عن العقيدة الإسلامية بشكل عام.
نظرية الفارابي
أول ردّ فعل فلسفي قائم على أُسس عقلية يدحض فيها ركائز التيار الإلحادي داخل المجتمع الإسلامي، جاء على يد أبي نصر محمد الفارابي (257-339 ه/870-950 م)، إذ تصدى له، وجابهه بقوة عقلية خالصة، من دون أن يعتمد على نصوص النقل من آيات القرآن أو الأحاديث النبوية، وبذلك كان عمله بمستوى الحجة، التي استند إليها جماعة الملاحدة في جدالهم وأفكارهم.
وفي نظريته التوفيقية بين الدين والفلسفة، يرى الفارابي أن النبوة ليست أمراً خارقاً يعلو فوق الطبيعة العاديّة، وإنما هي مجرّد ظاهرة مثل باقي الظواهر الطبيعيَّة الأخرى. فالنبي إنسان بلغت قوته المتخيلة درجة الكمال ليس إلا.
وفي كتابه "المدينة الفاضلة"، يشير الفارابي إلى أن "القوة المتخيلة" إذا كانت في إنسان مّا قويَّة كاملة، وكانت المحسوسات، التي ترد عليها من خارج لا يستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها، ولا تسخرها للقوة الناطقة وحدها، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضاً أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحلّلها منهما في وقت النوم – أقول: إذا حصل ذلك لإنسان مّا، في قوتيه الناطقة والمتخيّلة، كان هذا الإنسان هو الذي يُوحى إليه بواسطة العقل الفعّال، إذ يتلقى صاحبها في يقظته الجزئيات الحاضرة والمستقبليَّة، أو محاكياتها من المحسوسات، ويتلقى محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة في العالم الأعلى، ويراها معاينة فيكون له بما تلقى من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية، وإنذار بما سيكون وإخبار بما هو كائن من الجزئيات. فهذه هي أكمل المراتب، التي تنتهي إليها القوة المتخيّلة، وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة.
ويمكننا أن نوجز مراحل هذه النظرية على الشكل التالي:
1- مخيّلة الإنسان، التي تكون في قوة كاملة لاستقبال الوحي.
2- تتصل القوة أعلاه بالعقل الفعّال (وهو كرة القمر حيث الفيض الفردي للعقول عبر الفيض الإلهي لها)، فتنعكس عليها صوّر كماليَّة.
3- تعود تلك الصوّر الكماليَّة لترتسم في الحواس الخمس المشتركة.
4- يمكن للقوة الباصرة، بعد ذلك، من مشاهدة الصوّر الإلهية والوحي على حالتها الراقية وحقائقها الشريفة من دون فاصل أو حجاب.
5- إرجاع عكسي لهذه الصوّر العلويَّة لترتسم في القوة الباصرة، ثم انعكاسها على الحاسّة المشتركة، ومنها إلى القوة المتخيّلة.
6- وبهذه القوى، المتصلة مع بعضها البعض، يكون هناك انشدادٌ كليٌ نحو العقل الفعّال، فيكون استقبال الوحي السماوي.
هكذا هو رأي الفارابي الفلسفي في تفسير النبوة. فالنبي إنسان، وهبه الله وخصه في مخيلة ذات قوة هائلة لكي يكون بمقدوره الاطلاع على مّا في الّلوح المحفوظ، وأن تكون له صله بالعالم العلوي، في مختلف الظروف والأوقات.
فالإنسان، كما جاء في كتابه "السياسة المدنية"، إنما يوحى إليه إذا كان لم يبق بينه وبين العقل الفعّال واسطة، فإن العقل المنّفعل يكون شبه المادة والموضوع للعقل المستفاد، والعقل المستفاد شبه المادة والموضوع للعقل الفعّال، فحينئذ يفيض من العقل الفعّال على العقل المنّفعل القوة، التي بها يمكن أن يقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السعادة. فهذه الإفاضة من العقل الفعّال إلى العقل المنّفعل بتوسط العقل المستفاد ثم إلى القوة المتخيّلة هو الوحي، الذي مّا يفيض منه إلى العقل المنّفعل يكون حكيماً فيلسوفاً ومتعقلاً على التمام، وبما يفيض منه إلى القوة المتخيّلة يكون نبياً منذراً بما سيكون، ومخبراً بما هو كائن الآن من الجزئيات. وهذا الإنسان هو في أكمل المراتب الإنسانية وفي أعلى درجات السعادة.
معنى هذا، أن مصدر المعرفة هو واحد لكل من النبي والفيلسوف، إذ كلاهما يتلقى معارفه من "العقل الفعّال". بيد أن الفرق فيما بينهما، أن النبي يتلقى الحقائق عبر قوته المتخيّلة، بينما الفيلسوف يستلم معرفته باعتبارها حقائق خالية عن قوة متخيّلة. وحسب رأي الفارابي، أن الفيلسوف لا يحتاج إلى القوة المتخيّلة، لأنه يسعى ويكافح بالعقل الفردي له، لكي يكشف سبر غور المعارف. أمَّا النبي فيحتاج لها نظراً لمخاطبته إلى العامة من الناس، وهؤلاء يستهويهم الاستعارات والتشبيه من خلال الصوّر الماديَّة المحسّوسة.
صحيح أن الفارابي أقرَّ بمنزلة النبي، كونها أعلى وأكمل من منزلة الفيلسوف، إلا أن تفسيره العقلي الذي أرضى به الفلسفة، لا يُرضي الدين، لأنه قد جعل النبوة مقتبسة لإنسان مّا أكثر من كونها اصطفاء إلهي خاص. وهذا التقريب أو التوفيق بين الدين والفلسفة، التي امتازت بها الفلسفة الإسلامية تأثراً بالأفلاطونية المحدثة. لكن هذا لا يمنع من القول، أن الفارابي تناول مسألة معقدة وحساسة، ألا وهي نظرية النبوة، التي لم يتطرق إليها أي فيلسوف من قَبله. بل أن هذه النظرية، التي جاءت رداً قوياً على التيار الإلحادي، تُعدّ أجمل عرض عقلي لأكبر فلاسفة الإسلام قاطبة.