Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موسيقى البلوز... بالوجع غزت المحتل

حررت الأفارقة من الاضطهاد بتأكيدها على أحقيتهم في الديمقراطية والحلم والعيش الكريم

تظل موسيقى البلوز تختزل في ذاكرتها تاريخاً طويلاً من الجراح بسبب المعاناة التي عاناها السود (مواقع التواصل)

تعد موسيقى البلوز إحدى أشهر الألوان الموسيقية البارزة في العالم، فعلى رغم عراقتها فإنها استطاعت منذ بدايات القرن الـ19 الصمود في وجه التحولات التي عرفتها الموسيقى، الحديثة منها والمعاصرة، بخاصة في بلد مثل أميركا، الذي شهد منذ بدايات القرن الـ20 ثورات جمالية عدة ألمت بالإنتاج الموسيقي.

ولأن هذه الموسيقى تقليدية الطابع وتعتمد على آلات موسيقية محددة، فإن ذلك جعلها موسيقى عريقة يعشقها الناس وينسجون معها علاقة آسرة قوامها العشق والإبداع.

وعلى رغم الأبعاد الجمالية التي حاول البيض أن يصبغونها عليها من خلال إدخال بعض الآلات المعاصرة والترويج لها داخل مهرجانات عالمية، تظل موسيقى البلوز تختزل في ذاكرتها تاريخاً طويلاً من الجرح، بسبب المعاناة التي عاناها السود في سبيل الاعتراف بهم وبتاريخهم وبأحقيتهم في الديمقراطية والحلم والعيش الكريم.

موسيقى تقليدية عريقة

على رغم كون البلوز أكثر الأنماط الموسيقية في العالم التي مزجت في تشكلاتها بين الثقافتين الأفريقية والأميركية، بحكم الخصائص الفنية والجمالية التي طبعت مسار هذه الموسيقى منذ القرن الـ19 إلى اليوم، تبقى الملامح الأفريقية طاغية على هذا اللون، بخاصة على مستوى الإيقاع الثقيل / البطيء، الذي يطبعه الارتجال في كل تنويعاته الموسيقية، لا سيما حين يتعلق الأمر بنغم مرتجل لا يتوافق مع إيقاع الآلة، بوصفها أهم عناصر وسمات الموسيقى الأفريقية.

ولا شك في أن وجود البلوز بين موسيقى الجاز والروك أند رول، لا ينفي عنهما مظاهر التأثير والتأثر، كونهما ظهرا خلال مراحل تاريخية متقاربة في الغرب الأميركي. وبسبب التحولات البطيئة التي عرفتها كل من الميسيسيبي ونيو أورلينز، كان لزاماً أن يعرفا نوعاً من المثاقفة التلقائية على مستوى الآلات الموسيقية والنظام الإيقاعي لكل لون موسيقي. ومع ذلك فقد اشتركا في خاصية كونهما ولدا داخل أجساد العبيد الأميركيين من الأصول الأفريقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول الباحث المصري ناصر أحمد سنة "تعتمد موسيقى البلوز على كلمات وأغاني وأناشيد وترانيم أفريقية روحانية وتقاليد شعبية. وعادة ما تدور كلماتها حول القصص المتعلقة بالفقر والفقد والحب والعنف والعلاقات الاجتماعية والعنصرية وغيرها من المعاني والمشكلات المتعلقة بالمجتمع الأميركي. وتتألف معظم كلمات أغاني البلوز من مقاطع شعرية يتكون كل منها من ثلاثة أسطر. ويكون السطر الثاني من كل مقطع تكراراً للسطر الأول، ويعبر السطر الثالث عن جواب السطرين الأولين. وتعكس معظم الكلمات الشعرية لموسيقى البلوز الوحدة والحزن، ويعكس بعضها الآخر ردود الفعل الساخرة والتحدي لمشكلات الحياة".

لا يعثر القارئ داخل الثقافة العربية على كتاب يشرح موسيقى البلوز والجاز وأثرهما على الفنون البصرية المعاصرة، بخاصة في التشكيل والسينما، فقد استطاعت هذه التعبيرات الفنية إقامة علاقة قوية مع موسيقى البلوز وعملها على استكناه جوهرها وثقافتها وذاكرتها وإيقاعها في ما يشبه سحراً يدفع المشاهد إلى تلمس هذه الموسيقى وأثرها في أعمال تشكيلية وفوتوغرافية وسينمائية.

إن النقد الموسيقى العربي (إن وجد فعلاً) يظل قاصراً عن تتبع هذه الارتسامات الجمالية النوعية وتأثيرها في فنون شعوب أخرى، على رغم أن "وظيفة" النقد الموسيقي المعاصر تتجاوز كونها عبارة عن عملية تفكيك البنى الإيقاعية والأنماط الموسيقية وجمالية كليباتها. فعدم الانفتاح على علوم أخرى لا يسهم في تطوير هذا النقد الموسيقي ويجعله لا ينظر بعين يقظة ومدركة لمختلف حدود التقاطع والتلاقي بين الموسيقى وبقية الفنون البصرية الأخرى.

 

يقول الموسيقي العراقي المعروف نصير شمة "النقد الموسيقي في أغلبه أيضاً لم يسع لوضع نظريات أو مفاهيم معينة تحدد عملية النقد، وتجعل الناقد أيضاً يقارب العمل الموسيقي ضمن مفاهيمها، وظل النقد الموسيقي طوال الوقت متأخراً بمراحل كبيرة عن النقد في الفنون الأخرى الأدبية أو التشكيلية أو غيرها من الفنون المختلفة. وهكذا ظلت الموسيقى في أغلب الأحيان تقارب نقدياً بشكل يكاد يكون سطحياً لا يتعمق بالمدارس بقدر ما يستخدم السطح المباشر للعمل الموسيقي ليتم توصيفه من خلاله. ويكتفي أغلب النقاد بدراسة الأغاني أو الموسيقى ضمن هذا الإطار، وقد يضيفون تعبيراً عاطفياً أو رومانسياً إلى قراءتهم للعمل".

وإذا كانت الأنثروبولوجيا الثقافية أكثر العلوم جرأة على اختراق موسيقى تقليدية عريقة ومركبة من نوع البلوز، فإن الأنثروبولوجيين العرب على قلتهم لم يعطوا أي اهتمام يذكر لما يسمى "أنثروبولوجيا الفن"، باعتبارها علماً قادراً بمناهجه التحليلية على فهم كيفية تشكل البلوز ودوافعه الأيديولوجية وعناصره الجمالية، وكيف استطاع التماهي مع سرديات التاريخ والانصهار مع ثقافات وعادات الميسيسيبي وإعادة طبعها موسيقياً بميسم أفريقي واضح المعالم والرؤى.

البلوز.. تاريخ الجرح

نشأت موسيقى البلوز على حدود الميسيسيبي، واعتبرت منذ ظهورها الجغرافيا الأميركية بمثابة رابط يربط الزنوج فيها بينهم، إذ لم تكن مجرد موسيقى يستمعون إليها من أجل الترفيه، بل لكونها وجود جديد بالنسبة إليهم يحررهم من الشقاء اليومي ويجعلهم يحلمون بمستقبل أفضل لهم ولعائلاتهم.

لذلك اتخذ عديد من العمال والفلاحين السود من موسيقى البلوز وسيلة للتواصل والاندماج داخل مواطنهم الجديد، لا سيما وأن موسيقى البلوز أسهمت في تحرير الزنوج من قبضة السلطة الأيديولوجية والقمعية التي تمارس عليهم، وذلك من خلال التعبير عن قلقهم ومآسيهم عبر آلات موسيقية مثل الغيتار والبيانو والهارمونيكا في ما بعد.

هكذا ظل البلوز لوناً موسيقياً يعزف على يد الفلاحين والعمال، كما أن رجال الدين اتخذوا بعضاً من موسيقاه على شكل أناشيد يومية تغنى وتعبر عن أحزانهم واضطهادهم وقهرهم منذ قرون طويلة. ونظراً إلى اتساع منطقة الميسيسيبي وأهميتها في تلك الأثناء، طور الزنوج برفقة المهاجرين أنماطهم الموسيقية الأفريقية وجعلوها في خدمة مصالحهم الذاتية والسياسية والأيديولوجية حتى أفرزوا في نهاية المطاف موسيقى غدت أشهر الأنماط شهرة في تاريخ الموسيقى الغربية، كونه يمزج بين الموسيقى والغناء، معتمداً بذلك على آلة الغيتار التي غدت رمزاً له في أميركا وخارجها، إذ يعتمد على نوتات قريبة من طريقة لعب الجاز.

 

يعد إعلان تاريخ إلغاء العبودية في أميركا بمثابة ميلاد جديد لموسيقى البلوز، وذلك بعد الإعلان الرئاسي الذي أصدره أبراهام لنكولن في الأول من يناير (كانون الثاني) 1863 بإلغاء العبودية وتحرير الناس وجعلهم يؤمنون بما يحلمون، إذ ثار الزنوج في شوارع المدن بحثاً عن وظائف جديدة تليق بتعليمهم وتفكيرهم.

وهكذا بدأت تتشكل في بعض المدن والمقاهي والحانات سهرات ليلية يعزف فيها البلوز ويغنيه الناس باعتباره ذاكرة موسيقية مضمخة بالجرح والنزف. وتم بعد ذلك تطوير هذا اللون الغنائي ومزجه بأنماط موسيقية أفريقية كمحاولة لإضفاء الشرعية عليه بعد الموجات الفنية الأميركية التي أرادت تحريف البلوز منذ مطلع القرن الـ20 والعمل على إفراغه من بعده الثوري وما يختزنه من أوجاع وأهوال.

لقد غدا البلوز اليوم موسيقى عالمية لا يحتفي بها الزنوج فقط، وإنما أيضاً سكان أميركا وأستراليا والعالم العربي، بعد نشوء كثير من الفرق الموسيقية الخاصة بإنتاجه، بما يجعلها تسهم ضمنياً في تدويله وجعله مشتركاً جمالياً بين الناس حول العالم.

يقول ناصر سنة "شهدت أواخر الستينيات ظهور موسيقيين بيض تجاوزوا موسيقي الروك أند رول إلى التخصص في موسيقى البلوز. وأول هذه المجموعة، وربما أفضلهم، هو جون مايال وفرقة بول باترفيلد. وفي إنجلترا انصرف عدد من الموسيقيين الشبان مثل إيريك كالبيتون (Eric Clapton) إلى عزف موسيقى البلوز بطريقة استحوذت على إعجاب الموسيقيين السود في شيكاغو، وأدركوا أن موسيقاهم بأكملها قد تجاوزت حدود أميركا وأصبحت جزءاً مهماً من التراث الموسيقي للإنسانية.

أفلام البلوز

بسبب شهرته وتمركزه في وجدان الناس، غدا البلوز ثقافة فنية يتم توظيفها خارج المجال الموسيقي، بخاصة داخل مجال الأفلام من خلال نمطين: الأول يعتمد البلوز كخلفية موسيقية قادرة على إنتاج مزيد من المعنى بالنسبة إلى عديد من المشاهد السينمائية التي يكون مرامها تصوير بعض لقطات الغرب الأميركي أو التعبير درامياً عن حدة ألم بعض شخصيات السود، بحيث تصبح هذه الموسيقى أكثر تعبيراً من الجانب البصري، لأنها قادرة على استيعاب تمثلات المشهد ومن ثم تكثيفه نفسياً بما يتضمن من إيحاءات ترتبط بالتاريخ والذاكرة.

أما النمط الثاني فموضوعه يتعلق بالبلوز بصفة عامة. إما عبر تسليط الضوء بشكل وثائقي على تطور صناعته بين الموسيقيين ومؤسسات الإنتاج، أو من خلال الاستعراض بشكل روائي متخيل سيرة بعض الأسماء الذين طبعوا موسيقى البلوز في العالم، كما الحال في فيلم "قاع ما ريني الأسود" للمخرج جورج وولف، الذي رصد فيه محنة بعض الموسيقيين الزنوج في أميركا عبر استثمار مختلف الأوصاف والنعوت والصور والأفكار التي عاناها السود في سبيل تحقيق إنتاجهم الفني، لذلك اتخذ جورج من سيرة ما ريني التي تعتبر تاريخياً "أم البلوز" مختبراً حقيقياً لتمرير مجموعة من الأفكار إلى تدين فداحة الاستعمار وكيف عمل على التضييق على الموسيقيين خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20.

تقول الكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم عن الفيلم "لا يستمتع المشاهد بأداء فيولا ديفيس الأيقوني فحسب، بل بشحنة التوتر التي ترافقه في أكثر من محور، وإن كانت التوترات الإثنية أبرزها، وكذلك التوتر بين ما ريني وصاحب شركة الإنتاج الأبيض، أو بينها وبين مدير أعمالها الأبيض كذلك، لكن توتراً من نوع آخر يعطي الفيلم عمقاً أكبر، وهو الحاصل بين أعضاء الفرقة أنفسهم. في هذا المحور، تبرز التوترات على صعد عدة، من بينها الجندري والجنسي وميزان القوى والصراع بين الأجيال. وتشكل النقاشات والحوارات بين أعضاء الفرقة واحدة من أهم ركائز الفيلم، من دون أن تأتي على حساب جماليات الصورة والماكياج والملابس وأداء الممثلين والموسيقى".

اقرأ المزيد

المزيد من فنون