Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تحفة "نيماير" في طرابلس أول منشأة حداثية لبنانية على قائمة "يونيسكو"

"معرض رشيد كرامي الدولي" إنجاز معماري فريد أهملته الدولة وحوله المقاتلون إلى مخازن أسلحة في الحرب

مشهد من التحفة الهندسة في معرض رشيد كرامي (اندبندنت عربية)

بدا إعلان ضم منظمة يونيسكو العالمية معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس اللبنانية إلى قائمة التراث العالمي مبادرة مهمة جداً ولافتة، خصوصاً بعد مرور 10 سنوات على رحيل مصممه المعماري البرازيلي العالمي الشهير أوسكار نيماير. وهو أول تحفة معمارية لبنانية تنتمي إلى حقبة الحداثة، ومعه ارتفع عدد المواقع المصنفة عالمياً إلى ستة، بعد بعلبك وصور وعنجر وجبيل ووادي قاديشا - قنوبين المنتمي إلى فئة التراث الطبيعي. وليت هذا الإعلان العالمي يحث الدولة اللبنانية على الاعتناء بهذا المعلم الضخم المهمل والمهدد، وترميمه ومده بكل ما يحتاج إليه من مواد وعناصر، لتقيه "غدرات" الزمن اللبناني المتفلت اليوم من أي معايير وطنية. وكان المعرض خلال الحروب الأهلية المتعاقبة منذ عام 1975، بل خلال المعارك التي شهدتها طرابلس وضواحيها، قد أهمل تماماً ودمرت بعض أنحائه وحوله المسلحون إلى مخزن للأسلحة وساحة للتدريب العسكري.

في 6 ديسمبر (كانون الأول) 2012، رحل المعماري البرازيلي أوسكار نيماير Oscar Niemeyer، إلا أن إرثه لا يزال حاضراً في التفاصيل اليومية لملايين البشر من خلال 600 عمل هندسي، وواحد من إبداعاته تلك هو معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس اللبنانية. وفيه أطلق العنان لمخيلته، وبلغ أقصى مداركها، مستفيداً من إمكانات قوانين الهندسة والفيزياء، ليشيد مباني "معلقة" على شكل منحوتات من الباطون المسلح في الهواء الطلق. ترجم فلسفته السياسية الاجتماعية في المعرض، متجهاً إلى الأجسام الملساء والبسيطة بعيداً من استخدام الحجارة أو الزخارف المعهودة.

سيد المنحنيات

يؤكد المعماري اللبناني ابن طرابلس وسيم ناغي أن "نيماير هو سيد المنحنيات الأنثوية والقباب، لأنه يعتقد أن لا وجود للخطوط المستقيمة في الطبيعة، وإنما منحنيات نراها في الجبال والوديان والبحار". ويضيف "لقد اعتمد عنصر المفاجأة في عمله، من هنا يندهش زائر المعرض عند رؤية أي مجسم ومنشأة. فهو ينتمي إلى المدرسة القائلة بوجوب استفزاز العمارة للمشاعر". يشبه ناغي معرض رشيد كرامي الدولي وسائر أعمال نيماير بـ"أغاني" أم كلثوم، فهو يمتلك سحراً خاصاً، ويمتلك جمالية مستدامة، بحيث لا يمكن ترجمة جماليتها بالكلمات وإنما بالشهقات المندهشة والعيون البارقة.

هناك في قلب بساتين الليمون والفيحاء، نثر نيماير شيئاً من روحه وفلسفته، وعبر عن توق أبناء المدينة إلى العبور نحو الحداثة بأسلوبه الخاص، فقد عبر عن رؤيته الشرق من خلال أكبر منشأة حداثية في لبنان، تتألف من مجموعة عبارات وجمل، على شاكلة أقسام مبهرة ومنظومات متعددة: منظومة الغطاء الكبير وقاعة المعارض الكبرى بمساحة 48 ألف متر مربع، ومنظومة الواحة الثقافية والفنية المنتشرة حول المسطح المائي بمساحة 33 ألف متر مربع، وتضم الجناح اللبناني أي البلد الحاضن الفعاليات الدولية، إضافة إلى المسرح الاختباري أو منشأة القبة التي تتسع لـ1050 مقعداً، والمسرح المكشوف الملاصق للقوس العظيم بسعة 11280 مقعداً. ناهيك بمتحف الفضاء ومهبط الطائرات المروحية، وبرج خزان المياه وهو يعلوه مطعم نخبوي ومطل على أنحاء مختلفة من المعرض والمدينة لاستقبال 50 ضيفاً بمطل بانورامي، إلى جانب واحة الأطفال التي تتضمن حديثة والهرم الكبير. أما ثالثة المنظومات فهي منظومة السكن، التي تتضمن الفندق أي السكن الجماعي سابقاً، وبيت الضيافة وتشغله حالياً مبادرة منجرة، كما يتضمن منظومة خاصة بالاستقبال والمدخل، وأخرى بالإدارة.

يعكس التنظيم الدقيق للمعرض رغبة باطنية لدى المعماري، فهو يطالب الزائر بالتعامل معه كـ"شكل كلي" يمتلك وظيفة عملية ومتصلة بشكل منهجي، لا يمكن فهم أجزائه بصورة مستقلة بعضها عن بعض، إنها بمثابة اللحن الموسيقي المتداخل الأجزاء والمتكامل المعنى.

واتبع نيماير أسلوب تقليل الأعمدة من أجل إسباغ السحر على المنشأة، وخلف وراءه تحدياً للمهندسين المعاصرين من خلال مغامرته الرهيبة في معرض رشيد كرامي الدولي، فقد أقام قبة المسرح بقطر 64 متراً، وهي بمثابة "ورقة من الباطون المسلح بلغت أقصى طاقتها وبتقنيات عالية جداً" على حد وصف وسيم ناغي.

معرض رشيد كرامي والتراث العالمي

شكل المعرض صدمة إيجابية في المشهد المعماري والجمالي الطرابلسي، وأعاد النظر حتى في المفاهيم الهندسية ومعايير تصنيف التراث. فها هو ذا المبنى "الباطوني" يصنف تراثياً، في المدينة التي تزدحم فيها المباني الأثرية المبنية من الحجر الرملي، والعائدة إلى الحقبات العربية، المملوكية والعثمانية، وهي بدورها ما زالت تصبو إلى تصنيفها على لائحة التراث العالمي. وقد تحول مع الزمن إلى "أيقونة" للثراء والنظام، مشكلاً حجر أساس في كل خطط النهوض.

تكمن أهمية القرار في إخراجه المعرض من دائرة الصراع على معايير التصنيفات التراثية في لبنان، بين نصوص قانونية ظهرت إبان الانتداب، والمقصود هنا القرار 166/1933 المرعي الإجراء في لبنان، بحيث يعتبر أثراً قديماً كل شيء صنعته يد الإنسان قبل سنة 1700 ميلادي. وفي مقابل محاولات مديرية الآثار في وزارة الثقافة اللبنانية حماية أعداد كبيرة من المباني التراثية العائدة للفترة اللاحقة، وصولاً إلى حقبة الاستقلال من خلال قائمة الجرد العام، التي يمنع بموجبها التصرف بأي موقع تراثي من دون العودة إليها مباشرة، علماً بأن محاولاتها كانت تصطدم أحياناً بلجوء الأفراد إلى مجلس شورى الدولة لإبطال قراراتها بحجة تقييدها حق الملكية، المحمي بالدستور، يبرز موقف ثالث، هو موقف الأكاديميين ممن يطالبون بتوسيع نطاق التصنيف التراثي إلى كل مبنى يتمتع بقيمة جمالية ومعمارية فريدة، وقيمة حضارية نادرة، وقد شكل هؤلاء قوة داعمة لملف معرض رشيد كرامي لدى "يونيسكو". وينوه المعماري وسيم ناغي بالقانون الصادر في 2022، الذي منح حماية خاصة لمعرض رشيد كرامي الدولي، ووسع نطاق صلاحيات مجلس إدارته، كما أكد القانون وصاية وزارة الثقافة لمراقبة أي أعمال ترميم.

جهد طويل تكلل بالنجاح

جاء انضمام المعرض إلى قائمة التراث العالمي نتيجة جهود مجموعة من المعماريين، المتخصصين، والناشطين اللبنانيين. بدأت رحلة الحلم في عام 2012 مع وضع الخطوط العريضة للملف بغية الحفاظ على المنشأة المهددة. وفي عام 2018 وضع المعرض على اللائحة الأولية. يعتقد المهندس وسيم ناغي أن المعرض سيحصد ثمار وضعه على قائمة التراث العالمي، وسيشكل عاملاً إضافياً لحض المانحين من أجل تقديم الدعم لبدء أعمال التدعيم الضرورية للأجزاء المتصدعة. ويتطرق إلى "حالة الوعي العالمية لأهمية حماية حقبة الحداثة وإنجازات القرن العشرين التي جاءت عقب المرحلة الكولونيالية"، مؤكداً أن "لبنان كان أحد حقول تجارب الحداثة في المرحلة الواقعة بين 1945 و1975، ويعتبر المعرض أهم المنشآت الحداثية في لبنان بفعل التغييرات العميقة في العمارة، تحت وطأة التيارات الفكرية والاجتماعية، ولا بد من حفظ قيمتها واستمراريتها للأجيال".

ينبه ناغي إلى "حساسية" المباني الحداثية، فهي مبنية من الباطون، مما يجعل دورة حياتها قصيرة بحدود 200 سنة، على خلاف البنى الأثرية القديمة، أي تلك المصنوعة من الحجر الطبيعي، وتستمر لآلاف السنين من دون تأثير الزمن عليها أو خطر التحولات البيئية والمناخية. من هنا، تبرز أهمية العجلة في التعامل مع المنشآت الحداثية لإطالة أمد حياتها وتأمين ديمومتها.

ويضيف "في فرنسا مثلاً دخلت بعض المنشآت الحداثية ضمن نطاق التصنيف التراثي، نظراً إلى قيمتها خلال حقبة الستينيات والسبعينيات، أي قبل انتهاء تلك الحقبة، كما برزت خلال التسعينيات منظمات معنية بحماية التراث مثل دوكوموم ويونيسكو وإيكوموس وغيرها، للاستعجال في حمايتها ومنع هدمها على غرار ما جرى في بيروت، في المرحلة اللاحقة لانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، حين تم القضاء على عدد كبير من المباني الحداثية، ومن ضمنها عمل المعماري كارول ساير، والمقصود به فندق الكارلتون". ويلفت إلى أن "المعرض في طرابلس مهدد، ولا أحد يسأل، مع أنه أيقونة الحداثة في لبنان والشرق الأوسط، فأولوية المشرع في لبنان هي التطوير العقاري والاستثمار".    

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحولت الباحة الخارجية للمعرض إلى فضاء حر لطلاب الهندسة المعمارية والمواطنين الباحثين عن الاستجمام والهدوء في قلب المدينة. وهي تشهد على إهمال مزمن للمعرض عبر الزمان، إذ تنتشر في أكثر من ناحية لافتات تنبه الزائر إلى عدم ولوج بعض المنشآت بسبب التصدع وخطره على السلامة العامة. من هنا، يطالب وسيم ناغي بإجراءات سريعة وغير تقليدية لتدعيم "منشآت المعرض غير التقليدية من صفائح وأشكال صدفية". ولا بد من الاستعانة بخبرات عالية المهارة على المستوى الدولي، وقد يفرض المعرض جدلية حول آليات الترميم المكلفة من أجل الحفاظ على التصنيف على لائحة "يونيسكو".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة