Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عصر الباباوين... عن الصراعات السرية داخل مؤسسة الفاتيكان

في أي ظروف استقال البابا بنديكتوس، وهل كانت هناك مؤامرة "ماسونية" لاغتياله، وما حقيقة التنافر بينه وبين البابا فرنسيس؟

جنازة البابا بنديكتوس السادس عشر في الفاتيكان (أ.ف.ب)

تعرف الأديان بأنها مطلقات، وصراع المطلقات غير قابل للقسمة، إنه صراع وجود ينفي الآخر، لأنه يدور باسم الله وبادعاء الحقيقة المطلقة.

وعادة ما تدور في المؤسسات الدينية الكبيرة صراعات هائلة بعضها يؤدي إلى القتل والموت، أما الدسائس والمؤامرات فهي قائمة على الدوام.

بعد عدة أيام لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، من وفاة بابا الفاتيكان الفخري، بنديكتوس الـ16، فوجئ العالم كله، إلا الفاتيكان نفسه، بصدور كتاب يحتوي على أدق أسرار حياة الرجل، وبخاصة أن كاتبه هو تلميذ روحي، وسكرتير إداري للبابا المنتقل منذ 17 عاماً (2005-2022).

عنوان الكتاب "لا شيء سوى الحقيقة/ حياتي برفقة البابا بنديكتوس 16".

المؤلف هو رئيس الأساقفة جورج غانسوين الألماني الجنسية، الذي رافق الكاردينال راتزينغر (اسم البابا قبل تنصيبه) لزمن طويل.

لا يبدو الكتاب مقالات مدائح طوباوية في شخص بنديكتوس، رغم اعتباره في كثير من صفحات الكتاب بطلاً روحياً، يتوجب رفعه عما قريب إلى مصاف الملافنة (معلمي الكنيسة)، من جهة وقديس روحاني من جهة أخرى.

هدف الكتاب كما هو واضح، هو إعلان الحقيقة حول كثير من الافتراءات المدوية، والمناورات المظلمة، والألغاز والفضائح التي لطخت سمعة البابا، لا سيما تلك التي أدت إلى استقالته في نهاية الأمر.

لم يكن غانسوين مجرد سكرتير للبابا الراحل، بل كان حافظ أسراره وحاميه خصوصاً أثناء عزلته. كان بنديكتوس بالنسبة له بمثابة أب روحي، ويعتبره صاحب بصمة في التاريخ، ومنارة لاهوتية واضحة في الشؤون العقائدية، وفي الحكمة الدنيوية.

لا يبدو صدور الكتاب مفاجأة، فالجميع كان يتوقع الأمر، أما المفاجأة الحقيقية فتتمثل في سرعة وصوله وانتشاره وتحقيقه أعلى المبيعات، لا سيما أنه يفك شيفرات واحدة من الفترات البابوية المثيرة وربما غير المسبوقة في تاريخ الكرسي الرسولي، إذ وجد باباوان في الوقت نفسه وإن كان أحدهما متقاعداً.

حكايات البيت الداخلي

يتسم الكتاب الصادر عن دار "إديزيوني بيمي" الإيطالية والواقع في نحو 300 صفحة، باحتوائه على كثير من الوثائق السرية، وقد شارك في كتابته الصحافي "سافير جايتا".

يبلغ جورج غانسوين المؤلف، نحو 66 عاماً، ويعيش في مدينة الفاتيكان، وقد أطلق عليه الإعلام الأوروبي لقب "جورج الرائع"، بسبب ملامحه المحفورة، وقد لعب دورين مهمين في العقدين الأخيرين:

الأول: هو السكرتير الشخصي لبنديكتوس.

الثاني: مدير للأسرة البابوية، أي الجهة المسؤولة داخل الفاتيكان عن البابا والجماهير والاحتفالات.

تبدأ الخطوط الساخنة والمثيرة في الكتاب، من عند وصف غانسوين لبنديكتوس، كشخص غير مبال بنميمة الفاتيكان، يتحرك على مستوى روحي وفكري أرفع كثيراً من أقرانه من الكرادلة، ويتوق إلى التقاعد الهادئ بين كتب مكتبة الفاتيكان، ليكمل مسيرته الأكاديمية في البحث والتأليف.

حين اختار البابا يوحنا بولس الثاني الكاردينال راتزينغر عام 1981 ليكون المسؤول عما يعرف بـ"مجمع العقيدة والإيمان"، كان شرط الأخير هو أن يظل محتفظاً بقدرته على الكتابة والإنتاج اللاهوتي.

الدفع نحو الاستقالة

هل اختلف زراتزينغر مع يوحنا بولس الأول، وقبل أن تنفتح مسارب الخلافات مع فرنسيس؟

نعم حدث هذا، وهي إحدى مفاجآت الكتاب وكان ذلك عام 1986، حين دعا يوحنا بولس الثاني رؤساء الأديان والمذاهب من كل أنحاء العالم للقاء في مدينة أسيزي الإيطالية للصلاة معاً من أجل السلام في العالم.

كان من الواضح أن راتزينغر المحافظ، لا يميل للسير في هذا الاتجاه، الذي سيعززه البابا فرنسيس لاحقاً لأبعد حد ومد.

من أهم المشاهد التي لم يدر بها العالم، وضمنها غانسوين كتابه، قصة رفض راتزينغر للبابوية، وجاءت كلماته للكرادلة بعد جنازة يوحنا بولس الثاني، تفيد بأنه لا يرغب ولا يتطلع إلى هذا المنصب، مع علمه أن "الشفرة الحادة" أي اختياره خليفة بطرس الصياد، على حد تعبيره كانت قريبة جداً من رقبته.

هل لعب الكاردينال النمساوي المعروف "كريستوف شونبورن"، دوراً واضحاً في دفع راتزينغر للقبول؟

يبدو أن ذلك كذلك، وهو ما أشار إليه غانسوين في كتابه، الأمر الذي دعا لغضب شونبورن الأيام الماضية، وإن لم ينكر أنه دفع راتزينغر في طريق قبول المنصب الجديد، عبر الخطاب الذي عرف باسم "خطاب المقصلة".

تكاد تكون النقطة المهمة التي يتساءل كثيرون عنها، هي تلك المتعلقة باستقالة البابا بنديكتوس، كيف حدثت ولما حدثت على غير العادة.

تخبرنا صفحات غانسوين، أنه في يوليو (تموز) 2013، كان موعد اليوم العالمي للشباب في البرازيل يقترب، وبدا وكأن بنديكتوسيخشى من انهياره الجسماني، وعدم قدرته على الكلام بحرية من جراء مشكلات صحية في الرئة.

في 25 سبتمبر (أيلول) 2012، أبلغ بنديكتوسسكرتيره غانسوين، نيته إفساح المجال لبابا جديد، أصغر سناً وأكثر نشاطاً.

حاول السكرتير لفترة وجيزة إقناعه بالبقاء، لكنه أدرك أنه "غير مجد تماماً".

في خطاب التنازل عن الكرسي الرسولي، الذي تمت صياغته في سرية تامة، بدا بنديكتوسصوفياً زاهداً، يهتم بعلاقته مع الله وليس مع البشر.

ولعل كل من يطالع كتاب غانسوين يتساءل: هل الصور اللطيفة التي التقطتها عدسات الكاميرات لزيارات فرنسيس لسلفه، كانت تعبر بالفعل عن الشكل الحقيقي للعلاقة بين الرجلين، أم إن خلف الكواليس كانت هناك خلافات بعضها دفع غانسوين نفسه ثمناً لها؟

تبدو نقطة الخلاف الأول بين فرنسيس وبنديكتوسمن عند رفض الأول، وبعد انتخابه مباشرة، الإقامة في شقة القصر الرسولي المخصصة تقليدياً للبابوات، وهي تقريباً في نفس حجم السكن الذي اختاره فرنسيس في "بيت القديسة مرتا"، بجوار القصر الرسولي، مع العلم أن الفاتيكان سيظل يدفع كلفة الصيانة المستمرة للشقق البابوية.

القصة تطرح تساؤلاً غير بريء: هل كان فرنسيس متقشفاً حقيقياً أم دعائياً يكرس حقبة مغايرة لبنديكتوس؟

كان من الواضح أن هناك قدراً واضحاً من الاختلافات بين توجهات بنديكتوس المحافظة، ورؤى فرنسيس التي تميل إلى اليسار، وهو القادم من بلاد لاهوت التحرير.

تمثلت أهم النقاط الخلافية في رؤية فرنسيس للإجهاض ومنع الحمل، والمثلية الجنسية، إذ لم يرغب فرنسيس في أن يأخذ دور القاضي والجلاد، والعبارة المشهورة على لسانه "من أنا لكي أحاكم الآخرين؟".

أما نقطة الخلاف الكبرى فقد حدثت عام 2020، حين عقد ما عرف باسم "مجمع الأمازون"، الخاص بالكنائس الكاثوليكية في أميركا اللاتينية، الذي تردد فيه الحديث عن السماح بسيامة رجال متزوجين للكهنوت، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الكنيسة اللاتينية.

بين الحقائق "والثرثرة"

في ذلك التوقيت صدر كتاب عنوانه "من صميم القلب... الكهنوت، عزوبية الكهنة، وأزمة الكنيسة الكاثوليكية" كتبه الكاردينال روبرت ساره، الرئيس السابق لمجمع الليتورجيا والعبادة، بالشراكة مع البابا الفخري، ما جعل البابا فرنسيس يقيل غانسوين من مركزه كمدير للأسرة البابوية.

كان ذلك في يناير (كانون الثاني) 2020، ويصف غانسوين مشاعره في تلك الفترة بالقول "لقد كنت مصدوماً وعاجزاً عن الكلام لقرار فرنسيس الذي جاء شبه قصاص لي".

أما الجزئية الأكبر في الخلافات بين فرنسيس وبنديكتوس، فقد جرت بها المقادير عام 2016، حين أصدر الأول رسالته المعروفة باسم "أموريس ليتيتسيا"، أو "فرح الحب"، التي تسببت في صدمة شديدة  لبنديكتوسحول إعطاء المناولة المقدسة للمطلقين والمتزوجين من جديد خارج الكنيسة.

بدت السلطة الكهنوتية حاضرة في قراراتها الفوقية، بين فرنسيس وبنديكتوس، وقد كثر الحديث عما إذا كان هناك بابا حقيقي وآخر رديف في الفاتيكان.

على سبيل المثال، في مناسبات بعينها طلب فرنسيس من سلفه بنديكتوس عدم الانضمام إليه خلال بعض زياراته، مثل زيارته لجماعة "سانت إيجيديو"، في روما، الأمر الذي جعل بنديكتوس يشعر بشيء واضح من الإهانة.

مرة أخرى أبدى بنديكتوس امتعاضه من وصف فرنسيس له بأنه "الجد الحكيم"، مع الأخذ في عين الاعتبار أن الفارق العمري بينهما هو تسع سنوات فقط، يكبرها الأول عن الأخير، وقد رأى بنديكتوس أنه كان الأجدى أن يصفه بـ"الأخ الأكبر".

عبر صفحات الكتاب عينه نجد قصة أخرى تتصل بتسريب رسالة من بنديكتوس، يعرب فيها عن انزعاجه من تغيير فرنسيس قواعد صلوات القداس اللاتيني القديم، مما اعتبر من جانب التيار المحافظ في الفاتيكان توجهاً يسارياً جديداً يقوده فرنسيس داخل الكنيسة.

تصفية حسابات

هل مذكرات غانسوين تصفية حسابات قديمة مع الدوائر السرية في داخل الفاتيكان، وبالتحديد مع البابا فرنسيس؟

في أول خطاب لفرنسيس بعد جنازة بنديكتوس، كان من الواضح أن أخبار الكتاب قد راجت، ولهذا أرسل فرنسيس تحذيراً دقيقاً ولكن واضحاً قال فيه "الشيطان العظيم هو الشيطان، الذي يتجول دائماً في سرد الأشياء السيئة عن الآخرين، وإبعاد الإخوة والأخوات وليس إنشاء مجتمع".

يومها أضاف فرنسيس موجهاً حديثه لأحدهم بصيغة المجهول "أطلب منك أن تبذل جهداً حتى لا تثرثر، القيل والقال وباء أقبح وأسوأ من كورونا، دعونا نبذل جهداً لا نميمة".

 تعكس صفحات الكتاب صراعاً ضارياً جارياً في الداخل الفاتيكاني اليوم بين جبهتين.

يعبر غانسوين، وهو لاهوتي محافظ، عن استيائه من الطرق التي استغلت بها الفصائل التقليدية والتقدمية في الكنيسة البابوات.

يقول "إن المشكلة ليست حقيقية وجود اثنين من الأحبار على قيد الحياة، ولكن ولادة وتطور مجموعتين حزبيتين، لأنه بمرور الوقت أصبح من الواضح أن هناك رؤيتين متميزتين للكنيسة، وقد خلقت هاتان المجموعتان توتراً ردده الآخرون الذين لم يكونوا على دراية بالديناميات الكنسية".

التساؤل المهم للغاية: هل جاء غانسوين في مذكراته هذه على جميع القصص السرية التي دارت خلال 10 سنوات من استقالة بنديكتوس؟

لنبدأ في ما ورد في الكتاب، إذ يذكر غانسوين، أن الفكرة الأولية لبنديكتوس كانت تقديم الاستقالة في نهاية خطابه بمناسبة عيد الميلاد إلى الكوريا الرومانية (حكومة البابا)، في 21 ديسمبر (كانون الأول) 2012، وقد أراد إبلاغهم نية الاستقالة من البابوية في 25 يناير (كانون الثاني) 2013، بمناسبة عيد ارتداد القديس بولس.

يضيف غانسوين "عندما أخبرني بذلك في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) 2012، أجبته ’أيها الأب الأقدس، دعني أقول إنه إذا فعلت ذلك بهذه الطريقة، فلن يحتفل أحد بعيد الميلاد هذا العام، لا في الفاتيكان، ولا في أي مكان آخر، سيكون مثل الاستحمام البارد’... فهم بنديكتوس واختار في النهاية توقيت 11 فبراير (شباط) لإعلان خبر استقالته".

لكن هناك رواية أخرى على درجة عالية من الخطورة، لم يأت غانسوين على ذكرها، وإن كانت هناك تلميحات مخيفة ومثيرة في شأنها... ماذا عن ذلك؟

هل استقال بنديكتوس تحت تهديد الاغتيال الجسدي وليس المعنوي، لا سيما بعد الأزمة التي عرفت باسم "وثائق فاتيليكس"؟

 في منتصف ديسمبر من عام 2012، أي في نفس التوقيت الذي قال غانسوين أن بنديكتوس قد أراد الاستقالة فيه، قام ثلاثة كرادلة كبار، هم: هرانز، طومكو، دي جيورجي، بتسليم بنديكتوس ملف به نتائج البحث الذي طلبه منهم في شأن تسريبات الوثائق، التي نشرتها صحيفة "إل فاتو كوتيديانو" الإيطالية.

تبدو من توقعات نتائج التحقيقات أنه كانت هناك مخاطر حقيقية على حياة البابا بنديكتوس، وأنه تم اكتشاف أساقفة رفيعي المستوى في داخل الفاتيكان ينتمون للمحفل الماسوني الكنسي، ويتطلعون لقتل بنديكتوس المحافظ.

أصحاب الرواية يرون أن بنديكتوس لم يكن يخشى على نفسه، فقد عاش طويلاً، لكن خوفه كان من التأثيرات السلبية التي يمكن أن ترتد على الكنيسة نفسها إذا تمكنوا بالفعل من قتله، وموته بهذه الصورة سيتسبب في زلزال، ويثير صراعاً جهنمياً على السلطة، ومناورات مشبوهة ناشئة عن العداوات الداخلية في صفوف الإكليروس (رجال الدين)، في الفاتيكان، والمتعلقة بمسألة الخلافة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الرواية المتقدمة، خطرة ومثيرة، وليست مستحيلة، سيما وأن هناك حوادث سابقه مشابهة، ربما كان آخرها ما دار من لغط حول الطريقة التي توفي بها البابا يوحنا بولس الأول عام 1978، وهل تمت تصفيته بسبب رغبته في تنظيف بنوك الفاتيكان وتنظيم موارده المالية، الأمر الذي تقاطع مع جماعات مهيمنة في الداخل تعمل لصالحها وليس لصالح الكنيسة.

تفتح صفحات غانسوين التساؤل الأكثر إثارة: هل دخلت القوى الماسونية إلى قلب حاضرة الفاتيكان، وباتوا يعملون في المكان المفترض أنه موقع وموضع خليفة بطرس كبير الحواريين؟

ذات مرة، وفي مناسبة ما يعرف بعيد الرسل في 29 يونيو من عام 1972، قال البابا بولس السادس في عظته ذلك النهار "لقد دخل الشيطان من خلال شقوق الكنيسة".

وفي عام 1977، وقبل عام واحد من وصوله إلى كرسي البابوية، تحدث الكاردينال البولندي الأصل، كارول فوتيلا بالقول "نحن أمام المواجهة الأعظم في التاريخ، التي لم تشهد لها البشرية مثيلاً من قبل، نحن أمام سباق أخير بين الكنيسة والكنيسة المزيفة، بين الإنجيل والإنجيل المزيف، إن هذه المواجهة تقع ضمن خطط العناية الإلهية، وهي تشكل تحدياً وعلى الكنيسة أن تقبله".

أمر أخير، موصول بمستقبل بابوية فرنسيس، وهل يمكنه أن يكرر تجربة سلفه بنديكتوس في الاستقالة.

أخيراً أعلن فرنسيس أنه قد جهز استقالته بشكل مبكر، بل وسلمها للمسؤولين في الكوريا الرومانية بشكل رسمي، تحسباً لأي لحظة يتعرض فيها لعدم مقدرة على القيام بواجباته البابوية.

لكن فرنسيس يدرك جيداً أن هناك كثيرين من الرافضين لتوجهاته ذات الملامح والمعالم التحررية، والمصبوغة بصبغة يسارية، وسيكون من الصعب عليه مشاهدة محو تاريخه البابوي في حياته.

هنا تبدو المفارقة الكبرى التي لا يستطيع أحد التنبؤ بها، ما يجعل الفاتيكان في مواجهة مستقبل مليء بالتغيرات الجديرة بالمراقبة والتأمل، لحين إشعار آخر.

المزيد من كتب