Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سياقات متعرجة حكمت العلاقات الإسلامية مع المؤسسة الفاتيكانية

رؤية تاريخية لمسارات طويلة بدأت بالحروب وانتهت بالحوار منذ عهد البابا يوحنا الثالث والعشرون إلى البابا بولس السادس وبعده البابا فرنسيس

كانت معلومات البابا يوحنا الثالث والعشرون عن الإسلام أكثر من مجرد تصورات (أرشيف الفاتيكان)

تأتي زيارة البابا فرنسيس إلى البحرين اليوم الخميس الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني)، ومشاركته في فعاليات ملتقى البحرين، الذي ينعقد تحت عنوان "حوار الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني"، لتطرح علامة استفهام تاريخية حول علاقة المؤسسة الفاتيكانية في العالم الإسلامي عبر قرون طويلة خلت، وقد امتلأت تلك الصفحات بموجات من الصراعات غير أنه من حسن طالع الأجيال المعاصرة، سيما منذ منتصف القرن الماضي، بدا المشهد ينحو لجهة  أكثر إنسانية، حيث انفتحت أبواب الحوار، وها هو الحبر الروماني يعود مرة ثانية زائراً إلى منطقة الخليج العربي.

كيف سارت تلك العلاقات، وما أهم المحطات التاريخية التي توقفت عندها، وماذا عن الشخوص الذين مثلوا الجسور مرة أخرى بين الدائرتين؟ هذا ما نحاول فهمه في هذه السطور

عن البابا العجوز يوحنا الـ 23

 إذا قرر لنا أن نقوم بقفزة واسعة من القرون الوسطى إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا سنجد مساحة واسعة من العمل المشترك بين الفاتيكان والإسلام، عمل تجذر عبر علاقات دبلوماسية في زمن البابا بيوس الثاني عشر، إلى أن توثق بقوة في عهد خلفه البابا يوحنا الثالث والعشرين.

في مؤلفه الشائق "بين روما ومكة... البابوات والإسلام" يخبرنا المؤلف الألماني الأصل هاينز يواكيم فيشر، أنه عندما توفي البابا بيوس الثاني عشر في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 1958 في المقر البابوي الريفي في كاستيل جاندولفو، أصبحت مشاركة وفود عربية وإسلامية بمحافل العزاء في ساحة القديس بطرس في روما أمراً عادياً، يتفق مع العلاقات الدبلوماسية التي أرساها البابا المنتقل، وبينما كان العالم كله ينظر متلهفاً إلى انتخاب البابا الجديد، فإن البلدان الإسلامية كانت تتذكر التطور الذي بدأ تحت قيادة بيوس الثاني عشر، وهي تأمل أن يتواصل ذلك أيضاً تحت قيادة البابا الجديد، والسؤال لماذا؟

الثابت أن بيوس الثاني عشر أظهر قدراً روحانياً كبيراً تجاه العالم، ومد بذكاء كبير جسور التواصل مع العالم الإسلامي، وقد جاء من بعده البابا يوحنا الثالث والعشرون، الذي يجمع المتابعون لسيرته على أنه كان مثل طيف طيب مر بالإنسانية، متجاوزاً ما هو أبعد من حدود معتقده الديني، وحدود الأديان، وشاملاً كل ما هو إنساني، ولهذا أطلق عليه لقب "بابا بونو"، أي البابا الطيب، كما نعته المسلمون بهذا الوصف أيضاً.

كان انتخاب يوحنا الثالث والعشرين في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، حبراً رومانياً كاثوليكياً، إيذاناً بفتح صفحة جديدة، وربما مفاجئة في العلاقة بين البابوات والإسلام.

عمل يوحنا الثالث والعشرون خلال حبريته القصيرة التي لا تتجاوز خمس سنوات (1958 – 1963) على انفتاح الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تبدو قلعة قوية ثابتة ذات حدود تفصلها عن الآخرين وعن المجتمع البشري الحديث، وكذا عن الكنائس والطوائف المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية وعن اليهود والأديان العالمية الأخرى وفي المقدمة منها الإسلام الجار الجغرافي والديموغرافي الأقرب.

كانت معلومات يوحنا الثالث والعشرين عن الإسلام والمسلمين أكثر من مجرد تصورات، وكان على نحو رئيس وخلافاً لما كان عليه سابقوه من الباباوات الإيطاليين، على إلمام بما هو أكثر سعة من الإطلالة على أوساط العالم الكاثوليكي وحده، وإدراك المحيط الخاص بالكثلكة بوصفه مجتمعاً موازياً.

قبل ذلك بنصف قرن، أي في عام 1906، كان البابا في سن الخامسة والعشرين، فشغل في ذلك الوقت منصب سكرتير أسقف في الأرض المقدسة، أي في فلسطين التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية.

بدأ أنجيلو جوزيبي رونكالي (اسم البابا قبل تنصيبه) كارهاً للعنف، فقد عرف ويلات الحرب عبر الصراع الكوني الأول، ولم يكن يرى أن الأمم هي التي تتقاتل بل الشعوب، وقدر له لاحقاً أن يخدم في تركيا لتزداد رؤيته للعالم الإسلامي.

استطاع يوحنا الثالث والعشرون، الذي زعم بأنه انتخب بابا انتقالياً أن يجتاز بكل تأكيد فترة انتقالية، حيث نصب جسراً للعبور من داخل الكنيسة وفي اتجاه الخارج وصوب الإسلام أيضاً، فقد قام من خلال دعوته لعقد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، بإطلاق ثورة ثقافية حقيقية داخل الكنيسة الكاثوليكية وصلت تأثيراتها إلى بؤرة العالم الإسلامي، بل أكثر من ذلك أنه سيقدر لهذا المجمع أن يصدر أول وثيقة رسمية تجاه العالم الإسلامي، تقر بأن المسلمين يعبدون الله الواحد الأحد.

لقد أصبح المبدأ الأسمى الذي أطلقه البابا الجديد مفهوماً في كل مكان، وهو المتضمن أولوية الإنسانية والإنسان على الدين وما هو ديني، فبرنامجه كان شعاره السعي نحو الحاضر، أي توجيه الكنيسة للتلاؤم مع متطلبات الزمن الجديد، ومتطلبات الإنسان المعاصر، كان يسري عليها فقط، ولكن التلاؤم في نطاق هذا البرنامج صار ينطبق على كل دين وعلى الإسلام كما يبدو بخاصة.

 

بولس السادس ووثيقة "في حاضرات أيامنا"

رحل البابا الطيب، والمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني باسطاً أوراقه، وأساقفة الكنيسة مجتمعون في روما من قارات الأرض الست، والانتظار لحين وصول بابا جديد هو سيد الموقف.

كان يوحنا الثالث والعشرون قد فتح الأبواب لثورة إنسانية للتواصل مع الآخر، الأمر الذي جعل خليفته جيوفاني باتيستا مونتيني، الذي سيتخذ اسم البابا بولس السادس، يشعر بشيء من القلق تجاه الأبواب والنوافذ التي فتحت على مصاريعها فهبت من خلالها نسائم عليلة.

في ذلك الوقت دخل زوار أجانب ومنهم مسلمون كانت تدفعهم رغبة حب الاستطلاع، وهم يتمشون في حصون أمة الإيمان الرومانية، كما أن الكاثوليك كانوا قد أخذوا يتحركون مبتهجين في مجالات دنيوية، وفي حقول الأديان والأيديولوجيات الأخرى.

كان الانفتاح والتماس مع العالم الإسلامي قادماً لا محالة، فحينما زار البابا بولس السادس مدينة القدس في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 1964، وجد نفسه بين المسلمين في القسم الشرقي منها، الذي كان في ذلك الوقت جزءاً من الأردن، وقد أصبحت لصورته رمزية هناك وفي سيره على طريق الآلام داخل المدينة العتيقة بدا كأن الجماهير التي احتشدت تطبق عليه، ما دعاه لأن يتجاوز مخاوفه الشخصية من التماس مع الآخرين وظهر أمام الجميع بوصفه بابا، أمام الغرباء الأردنيين المسلمين والإسرائيليين اليهود، كما استقبل بطريرك القسطنطينية الأرثوذكسي بالأحضان.

أنهى بولس السادس صفحة من الانغلاق التاريخي للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فالمعروف أن البابوات السابقين حافظوا قروناً زمنية طويلة على ما يفصلهم عن اليهود والمسلمين والمسيحيين الآخرين.

في الثاني والعشرين من أكتوبر 1965، كان المجمع الذي شارك فيه في قاعدة القديس بطرس للاجتماعات سبعة بطاركة، و80 كاردينالاً، و1619 راعياً أبرشياً، و975 أسقفاً مساعداً، و97 مسؤولاً بطريقة رهبانية، يصدر بياناً حول العلاقة مع الأديان غير المسيحية، وكان البيان الذي يعد أقصر ما صدر عن المجمع باباً جديداً للعلاقة مع الإسلام والمسلمين في قارات الأرض، وجاء تحت عنوان "في حاضرات أيامنا" NOSTRA AETATE  نسبة إلى الكلمات الأولى التي يبدأ بها باللغة اللاتينية، بعد أن أقره المجمع بأغلبية 2221 عضواً صوتوا لصالحه مقابل 88 عضواً صوتوا ضده، وقد كان نصه كالتالي:

"إن الكنيسة تنظر إلى المسلمين أيضاً باحترام عظيم، فهم يعبدون الله الواحد الحي الموجود بذاته، الرحيم القادر خالق السموات والأرض، الذي علم البشر أنهم يسعون أيضاً بروح تامة إلى إسلام أنفسهم لمشيئتة الخفية، مثل إبراهيم الذي أسلم نفسه لله، والذي تستشهد العقيدة الإسلامية به عن طيب خاطر، وعلى رغم أنهم لا يعترفون بيسوع إلهاً فإنهم يعدونه نبياً، كما يحترمون أمه مريم العذراء، وينادونها أحياناً في دعواتهم بورع، وإضافة إلى ذلك فإنهم ينتظرون يوم الدين، اليوم الذي يبعث الله فيه جميع البشر من الموت ويحاسبهم.

لهذا فإنهم يولون قيمة للسلوك الأخلاقي في الحياة، ويعبدون الله على نحو خاص من خلال الصلاة والزكاة والصوم، إلا أنه نتيجة حدوث بعض الخلافات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين عبر القرون الزمنية، فإن المجمع المقدس ينبه الجميع إلى ترك ما مضى جانباً، والسعي بصدق إلى فهم متبادل، والوقوف من أجل صيانة العدالة الاجتماعية وتشجيعها ورعاية القيم الأخلاقية، وأخيراً وليس آخراً من أجل صيانة السلام والحرية لصالح جميع البشر".

كان المجمع الفاتيكاني الثاني لا يزال مرحلة فاصلة في تاريخ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وأصبح بعض المتخصصين في هذا الشأن يؤرخون لما قبل وما بعد المجمع، فقد جلب الأساقفة خبراتهم من جميع القارات، وشهدوا في روما وحدة البشرية، مثلما عبروا عن ذلك في بيان لهم جاء فيه، "إن هنالك إذاً حقيقة معروفة وهي أن جميع الشعوب تتقارب باستمرار لتشكيل وحدة، وإن علاقات الشعوب ذات الثقافات والديانات المختلفة تتوثق أكثر فأكثر، وإن الوعي بالمسؤولية الذاتية أخذ يتنامى كذلك، ومن أجل إقامة علاقات سلام ووئام بين البشر وتوطيدها، فإن من المطلوب أن تحظى الحرية الدينية بحماية قانونية فاعلة في كل مكان على الأرض، وأن تراعى الواجبات والحقوق العليا للناس وهي المتعلقة بحريتهم في تشكيل حياتهم الدينية داخل المجتمع".

أحد الأسئلة المهمة التي كان لابد لنا من التوقف أمامها، هل كان الوصول إلى بيان "في حاضرات أيامنا" مسألة يسيرة أم أمراً تطلب مجهودات مضنية للتوصل إليه؟

 

قنواتي المصري... جسر من المعرفة

 الجواب نجده طي رواية الأب جان جاك بيرنيز مدير معهد الآباء الدومنيكان بالقاهرة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، التي تضمنها كتاب "دفاتر فلسفية" الصادر عن كرسي "اليونسكو" للفلسفة فرع جامعة الزقازيق في مصر، تحت عنوان "د. جورج قنواتي" فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية.

ينظر للأب قنواتي في واقع الأمر بوصفه الصانع الحقيقي والمحرك الفعلي لنص أو بيان "في حاضرات أيامنا"، على رغم أنه لم يُدعَ سوى بصفة خبير في الكنائس الشرقية، وقد وصل إلى هناك في يوليو (تموز) عام 1963، بين الجلسة الأولى والثانية في اللحظة التي كان يناقش فيها النص اليهودي الذي كان يتمسك به البابا بولس السادس ونائبه الكاردينال الألماني الأصل بيا بشدة.

كان القصد من النص اليهودي وضع نهاية لحالة عداء المسيحيين للسامية، أما الإسلام فلم يُتطَرق له على الإطلاق، ولا حتى في الخمسة عشر ألف صفحة من النصوص التحضيرية، ولهذا فإن عديداً من الأساقفة الشرقيين، بخاصة البطريرك مكسيموس الرابع، بطريرك الروم الكاثوليك، لفتوا النظر إلى مخاطرة إصدار تصريح حول الديانة اليهودية من دون تناول الإسلام، لأن ذلك سيجعل العرب والمسلمين في الشرقين الأوسط والأدنى يعتقدون أن الكنيسة الكاثوليكية اختارت حقلها، ألا وهو إسرائيل.

في هذه الأوقات دخل الأب قنواتي في لوبي حقيقي، وكان من أهم ما فعله في هذا الشأن المحاضرة الكبيرة التي ألقاها يوم 29 نوفمبر عام 1963، في الإنجيلكوم، أي الجامعة الدومنيكية في روما، وكان موضوعها "الإسلام وقت المجمع الڤاتيكاني الثاني: بداية حوار إسلامي مسيحي".

وقتها تأكد الأب قنواتي من وجود كرادلة وأساقفة ولاهوتيين في محاضرته قادرين على التأثير في النقاش في جلسات المجمع الفاتيكاني الثاني، وقد بدا وقتها أن نبوءة سابقة للبابا بولس السادس في طريقها للتحقق على الأرض، فقد قال حين كان رئيساً لأساقفة ميلانو: "سيأتي وقت يتوجه بالحديث إلى المسلمين مثلما توجه بالحديث إلى الأرثوذكس".

تحركت المياه بقوة في قنوات الفاتيكان وجداوله وعقول رجالاته واشتعل النقاش، ما أدى إلى قيام البابا بولس السادس نفسه بإنشاء السكرتارية العامة لغير المسيحيين، وفي القلب منها لجنة المسلمين، كان ذلك في 19 مايو (أيار) 1964، وقد كان الأب جوزيف كيوك من الآباء البيض أحد أمناء أسرارها وهو حليف لجورج قنواتي.

 خلال النقاشات كان أحد الكرادلة المتقدمين ماريلا، الذي كان في ذلك الوقت المشرف العام على شؤون غير المسيحيين يتحدث بالقول، "نحن لا نعرف شيئاً عن الإسلام"، فيجيبه الأب قنواتي غاضباً "نحن ندرس الإسلام منذ ثلاثين سنة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كارول فوتيلا يعزز الحوار مع المسلمين

حين أسلم البابا بولس السادس الروح في السادس من أغسطس (آب) 1978، لم يطل انتظار الكرادلة لاختيار خليفة له ففي 26 أغسطس، أي بعد ثلاثة أسابيع من وفاة سلفه تم اختيار بطريرك البندقية ألبينو لوتشاني، تحت اسم "يوحنا بولس الأول"، الذي لم يطل به المقام في السدة البطرسية إذ توفي سريعاً بنوبة قلبية في 28 سبتمبر (أيلول) 1978، أي ظل في مقعد البابوية 33 يوماً.

كان الخلف واضحاً جداً، إنه كاردينال بولندا الأشهر كارول فوتيلا، الرجل المقاوم للشيوعية بكل قوة، أو الذي تم اختياره بابا وحبراً أعظم للكنيسة الرومانية الكاثوليكية في 16 أكتوبر 1978 باسم يوحنا بولس الثاني، الذي سيقدر له عبر حبرية تعد من الحبريات الطويلة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية القديم والمعاصر، توفي في الثاني من أبريل (نيسان) 2005، أي نحو 27 عاماً بابا.

في كتابهما "صاحب القداسة"، يتناول الصحافيان الأميركيان كارل برنشتاين وماركوبوليتي، الدور الذي لعبه البابا البولندي الأصل في طريق التقريب بين الأديان عامة وفي تحسين أجواء الحوار الإسلامي - المسيحي على نحو خاص.

كان لدى البابا الجديد فكرة جيدة عن بعض نواحي الديانة الإسلامية، وغالباً مصدرها وثيقة "في حاضرات أيامنا"، إذ تأكد لديه أن في الإسلام توحيداً قوياً وخضوعاً وتسليماً كاملاً لإله رحيم، عطفاً على الالتزام بالصلاة المنتظمة وممارسة الصوم من أجل التوبة، غير أنه كان لديه ارتياب وعدم ثقة نحو التيارات الأصولية، وقد صدح بذلك أكثر من مرة مشيراً إلى ما يجري في إيران وفي شمال أفريقيا.

كان البابا مقتنعاً بالضرورة القصوى للحوار مع الإسلام في شمال أفريقيا، من مصر حتى المغرب العربي، انطلاقاً من أن الحوار شأن ضروري لا غنى عنه من أجل بقاء الكنيسة الكاثوليكية، لا سيما أن أعضاءها هم الأقل عدداً.

فى عام 1982، خلال رحلته إلى نيجيريا توقف يوحنا بولس الثاني في مدينة تدعى كدونا، التي تبعد نحو 400 ميلاً من لاغوس، مدينة يؤمن مواطنوها بالدين الإسلامي عن بكرة أبيهم، وذلك لمقابلة وفد من رؤساء الإسلام وشيوخه هناك.

غير أنه مع وصول البابا رفضوا مقابلته، وبدلاً من ذلك أسرعوا به إلى غرفة صغيرة في المطار، حيث ألقى خطابه المعد سلفاً إلى المستمعين الذين لم يتعدوا محافظ المدينة ومرافقيه، وذلك قبل العودة إلى لاغوس، وكانت العبارة الجوهرية في ذلك الخطاب، "يمكننا أن يدعو بعضنا بعضاً إخوةً وأخوات من خلال إيماننا بإله واحد".

لم ينل إخفاق رحلة نيجيريا من عزيمة البابا يوحنا بولس الثاني في طريق بناء جسور مع العالم الإسلامي، ففي عام 1985 وفي شهر أغسطس تحديداً، اضطلع البابا الراحل بمحاولة أخرى للانفتاح على الإسلام في مراكش، حيث تجمع المشاركون من الدول العربية في دورة ألعاب كازابلانكا، وقد حاول عاهل المغرب الراحل الملك الحسن الثاني تنظيم اجتماع على مستوى كبير للحبر الأعظم مع ممثلين من 23 دولة مشتركة في الألعاب الرياضية، لكنهم رفضوا مقابلته.

كان على ملك المغرب أن يتصرف سريعاً، وعليه ومن أجل إنقاذ الموقف استدعى نحو خمسين ألفاً من الشباب المغربي المتحمس، أولئك الذين قدموا للبابا استقبالاً حاراً، ويومها خاطبهم بالقول، إن الحوار بين المسيحيين والمسلمين أصبح اليوم أكثر صعوبة من قبل في عالم يزداد علمانية ويقترب أحياناً من الإلحاد، لكن يمكن للشباب أن يصنعوا مستقبلاً أفضل إذا عاهدوا أنفسهم على بناء هذا العالم الجديد، حسب نهج الله وتدبيره، وعلينا أن نبين اليوم أي القيم الروحية التي يحتاجها العالم".

لم يكن طريق يوحنا بولس الثاني للحوار والجوار مع العالم الإسلامي ممهداً، وحلمه بإيجاد جبهة مسيحية - إسلامية مشتركة ضد المادية المعاصرة والإلحاد تعرض لعقبات جراء تصاعد موجة الأصولية الإسلاموية منذ بداية الثمانينيات في دول أفريقيا الشمالية، من مصر إلى الجزائر، غير أن ذلك لم يغير من قناعات خليفة بطرس وتصريحاته العلنية، تلك التي فرق فيها جذرياً بين الإسلام نفسه، والتيارات المتطرفة في صفوف بعض من المتشددين الإسلامويين.

وعلى رغم معارضة الأصوليين الكاثوليك، فقد شجع قداسته إنشاء أكبر مسجد في أوروبا الغربية، على أرض روما، المدينة المقدسة للعالم المسيحي الكاثوليكي، وفي الوقت عينه ألح بأن على الدول الإسلامية أن تكون كريمة بالمثل في السماح بحرية العقيدة للمسيحيين.

بعد رحلته الناجحة إلى المغرب، وفي 27 أكتوبر 1986، استقبل يوحنا بولس الثاني في أسيزي، كثيراً من الرؤساء الدينيين، رئيس أساقفة كانتربري، والحاخام الأكبر في روما، والدلاي لاما، ومطران كييف نائباً عن بطريرك روسيا، وممثلين عن مختلف الحاضنات الإسلامية من العالم كله، وفي المقدمة مندوب الأزهر الشريف، ومبعوثين من البوذيين والهندوس والسيخ.

كان المشاركون في ذلك النهار يمثلون أربعة آلاف مليون نسمة (أربعة مليارات) من 65 ديانة ومذهب وطائفة مختلفة، وصلى البابا مع المندوبين المسيحيين في كاتدرائية سان روفينو، كما صلى الكهنة الكاثوليك بجانب الأئمة المسلمين على الأرض في إحدى القاعات.

فى ذلك اليوم رأى البابا أن، التحدي من أجل السلام يتخطى الاختلافات الدينية، وفي ملاحظة للنقد الذاتي أضاف، "أنا مستعد للاعتراف بأننا نحن الكاثوليك لم نكن دائماً دعاة سلام ولهذا فصلاتي هي عمل تكفيري أيضاً".

في ذلك النهار اعتقد البابا يوحنا بولس الثاني أن الصلاة المشتركة لكل الرؤساء الدينيين، كانت نقطة التحول في الحرب الباردة وبداية النهاية لسباق التسلح حول العالم.

في منتصف فبراير (شباط) من عام 2000، كان يوحنا بولس الثاني، أول حبر روماني أعظم يدلف إلى قلب الأزهر الشريف ضيفاً مرحباً به في هذا الصرح الذي يمثل قلب العالم الإسلامي السني، وهناك خاطب الجمع بالقول، "أشكركم على كلماتكم الودية واسمحوا لي بأن أستوعب أفكاركم، فالله خلق الإنسان رجلاً كان أم امراة، ومنحهما الأرض لإعمارها، وهناك ترابط وثيق بين الدين والإيمان والثقافة، فالإسلام هو دين والمسيحية أيضاً، وكذلك فإن كلاً منهما تحول إلى ثقافة، إذاً فإن من المهم جداً إجراء اللقاء مع الشخصيات التي تمثل الثقافة الإسلامية في مصر، بودي التعبير عن شكري الجزيل على إتاحة فرصة اللقاء هذه والترحيب بجميع العلماء المشهورين المجتمعين هنا".

ويومها أضاف يوحنا بولس الثاني، "إنني لمقتنع بأن مستقبل العالم يتوقف على الثقافات المختلفة، وعلى الحوار الديني بينها، فالأمر هو كما عبر عنه القديس توما الأكويني حينما قال بأن "حياة الجنس البشري تتكون في الثقافة، وأن مستقبلها كامن في الثقافة أيضاً".

لم يكن الحبر الروماني المتقدم في العمر وقتها يتحدث باسم مستقبل المسلمين والمسيحيين فقط، بل مستقبل الأمم والبشر كافة، وكان اللقاء تاريخياً وجسراً مشهوداً لم يحدث مثله من قبل، حيث إن الأزهر أكبر مرجعية في العالم الإسلامي.

وكما كان يوحنا بولس الثاني أول بابا كاثوليكي يزور الأزهر، بالقدر نفسه وفي السادس من مايو 2001، زار مسجداً لم يزره أي بابا من قبل ألا وهو المسجد الأموي فى دمشق، وقد شكلت الخطوات القصيرة للبابا العجوز المصاب بمرض شديد نقطة انعطاف، أريد لها التمهيد لإجراء تحول في العلاقات بين الديانتين الإسلامية والمسيحية.

لاحقاً سوف يكتب التاريخ عن فرنسيس صفحات مثيرة ومهمة في علاقات الشرق والغرب، الإسلام والمسيحية.

المزيد من تقارير