Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"عنقاء العنف" في دارفور تسكن رماد القرى المحترقة

الأجواء تنذر بتجدد النزاع بعد تدمير 12 بلدة ونزوح 25 ألف شخص وسط شهادات مرعبة من الناجين

لم تبق بمحلية شرق بليل سوى أربع قرى فقط فيما تعرضت البلدات المنكوبة للنهب والقتل الجزافي (أ ف ب)

ما زالت هواجس تجدد النزاع الدموي ضمن تداعيات الأحداث التي وقعت الأسبوع الماضي في قرى شمال وجنوب شرقي محلية بليل بولاية جنوب دارفور تسيطر على أهالي وقيادات المنطقة من قبيلة الداجو، إذ خلفت الأحداث قتلى وجرحى قدرت أعدادهم بنحو 15 قتيلاً و42 جريحاً بينهم أطفال ونساء كبار سن، بينما قدر عدد القرى التي أحرقت بنحو 12 قرية، فضلاً عن نزوح ما يقارب 25 ألف شخص يعيشون أوضاعاً إنسانية صعبة بحسب سلطان عموم قبيلة الداجو.

مخاوف وأهوال

على رغم حال الطوارئ وحظر التجوال المسائي داخل محلية بليل وتفويض القوات النظامية باتخاذ جميع التدابير والإجراءات الضرورية وفقاً للقانون، لكن المخاوف من عودة اشتعال المنطقة لم تتبدد بعد، في ما يرى كثيرون أن الإرهاصات والتجمعات والأجواء العامة تنذر بتجدد فورة النزاع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تروي ناجيات من الأحداث فصولاً من لحظات الرعب التي عشنها وما تعرضن له وشهدنه من فظائع، إذ تقول خديجة يعقوب محمد من منطقة أم ضرابة أنهم عاشوا ثلاثة أيام بدءاً من الأربعاء 21 ديسمبر (كانون الأول) وحتى الجمعة رعباً ونهباً وقتلاً.

تكشف خديجة كيف أنهم ظلوا طوال الأيام الثلاثة يبحثون عن أطفالهم بعد أن لاذوا بالفرار فرادى عبر الخلاء الموحش والخطر ليكتشفوا بعدها أن كل القرى المجاورة التي يمكن اللجوء إليها قد أحرقت أيضاً فاختاروا البقاء في النقعة (الأرض الفضاء).

وتضيف خديجة بحسرة ودموع "جئنا بأطفالنا وهم عراة بعد مسيرة واصلنا فيها الجري ليل نهار لثلاثة أيام متتالية، بعض كبار السن العاجزين تم حرقهم وجرح آخرون، فيما تم تقييد أحد الشباب الذي وقع في أيديهم بالحبال وقذف به في النيران المشتعلة، أخذو كل شيء ولم يتركوا لنا شيئاً".

تحذيرات وترقب

إلى ذلك حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) من تجدد أعمال العنف القبلي في تلك المنطقة بولاية جنوب دارفور، التي اندلع فيها النزاع خلال الأيام الماضية.

وأكد المكتب في بيان له أن انتشار قوات الأمن جعل الوضع الأمني هادئاً لكن لا يمكن التنبؤ به، وأفاد البيان بأن القرى التي حرقت يسكنها 10 آلاف شخص من قبيلة الداجو، وقد عادوا إليها من مخيمات النازحين في سياق العودة الطوعية أو الموسمية.

من جانبه أبدى جعفر آدم سلطان عموم قبيلة الداجو، مخاوفه من حدوث ما هو أسوأ، ومع عدم تفاؤله بالهدوء الحالي في المنطقة لا يعتقد الرجل أن الأوضاع تحت السيطرة فعلاً بموجب ما يراه من إرهاصات واقع الحال. يقول "ليس الوضع كما تزعم السلطات الحكومية مستقر بعد إعلان الطوارئ بل إنه في مثل هذه الظروف تمنح الطوارئ الطرف الآخر فرصة النجاة وربما تكرار الهجوم. الوضع مرتبك ومختلط".

يؤكد آدم أن الوضع لا يزال مفتوحاً على كل الاحتمالات، مناشداً الحكومة المركزية التحرك بفعل جاد وعقد اجتماع لمجلس الدفاع الوطني لمراجعة وجود السلطة ممثلة في الشرطة والجيش وسط الأهالي لحمايتهم، وإنهاء العدوان والاستضعاف الذي يمارس على قبيلة الداجو المسالمة التي شكلت بذرة وجود دارفور.

وأوضح سلطان الداجو أن حكومة الولاية ليس بيدها حلول أو قوات كافية لإنهاء ما يعرف محلياً بـ"أم كواب" أي التهام القوي للضعيف، مطالباً بحصر السلاح في يد الدولة.

وكشف عن خطط لعودة النازحين وغالبيتهم من النساء والأطفال والمسنين إلى قراهم في أقرب فرصة بعد تهيئة الأوضاع، باعتبار أن وجودهم في أراضيهم هو خط دفاعهم الأول وإن كانت هناك معونات فلتأتيهم في ديارهم، بحسبه.

استهداف منظم

في حديثه عن تفاصيل الأحداث، كشف سلطان الداجو عن أن مجموعات شبابية من القبيلة على ظهر "موتر تكتك" (دراجة نارية للنقل) تعرضوا لاعتداء من مجموعة رعاة، لكن الأوضاع تفاقمت بعد ظهور جثة قتيل لأحد الرعاة في مكان غير بعيد، مما أدى مساء اليوم نفسه إلى تجمع مجموعات عربية ترتدي زياً عسكرياً مموهاً لا يشبه زي القوات المسلحة ويمتطون الخيل والجمال والمواتر ترافقهم عربتا دفع رباعي واحتشدوا على مرمى من قرية أمورو في مقابل استنفار من شباب الداجو على أطراف القرية.

وتابع "بدأت مناوشات مسائية وتمكن شباب القرية من صد محاولة الهجوم الأولى ثم تكرر الأمر مرة أخرى مع وصول أربع عربات لقوات نظامية إحداها تتبع الشرطة وثلاثة للدعم السريع، إذ اندلعت نيران في وسط القرية أعقبها تبادل لإطلاق النار تم خلاله حرق القرية تماماً".

يقدر السلطان جعفر عدد النازحين بنحو 25 ألف والقتلى بـ 15 من قبيلة الداجو، فضلاً عن عدد غير معروف من الطرف آخر، كما أصيب في الاشتباكات أربعة من أفراد الشرطة وحُرقت أكثر من تسع قرى كلها لقبيلة الداجو، وجميع سكانها ممَن عادوا حديثاً من معسكرات النزوح إلى قرى العودة الطوعية.

لا يخفي سلطان الداجو شعوره بأن ما حدث عمل منظم يلتمس الأسباب للاستحواذ على أراضي الداجو، مشيراً إلى أن "هذه ليست المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الاحتكاكات، لكن يجب أن تكون هناك دولة تحمي الناس بأجهزتها، بحيث لا ينبغي أن تفرض مثل تلك الميليشيات سطوتها مستغلة الهشاشة الأمنية في ظل الحكومة الراهنة".

انتشار أمني ولكن

يضيف زعيم الداجو أنه على رغم الانتشار الأمني لنحو 58 عربة "تاتشر" مسلحة، فإن الوجود الدائم هو المطلوب وليس لدى وقوع الأحداث فقط، كما أن المواطنين لديهم بعض التحفظات على قوات الدعم السريع بسبب بعض تصرفاتهم الموصوفة بالانحياز إلى طرف من دون آخر، الأمر الذي اعتبره كثير من الناس "شبهة تواطؤ".

وعن طبيعة المهاجمين لقرى الداجو قال السلطان إن الطرف الثاني لا يزال يبدو مجهولاً، فالمهاجمون هم عبارة عن مجموعات عربية تتحرك، من دون أن يسمي قبيلة بعينها، ويطلق المواطنون هناك على أي تجمع لجماعات عربية مسلحة اسم "الجنجويد"، وهم المجموعات القديمة نفسها التي لم تنته بعد لكنها فقط نائمة وتظهر بين حين وآخر.

وكانت لجنة الأمن بالولاية نشرت 57 مركبة عسكرية من القوات المشتركة لحسم النزاع القبلي والفصل بين الأطراف، مع إرسال طائرة استطلاع مروحية لمسح مناطق الأحداث، واستنفرت كل الإدارات الأهلية من قبيلتي الرزيقات والداجو والقبائل الأخرى بغرض التدخل وتهدئة الأوضاع ومتابعة علاج الجرحى.

كما وجهت اللجنة بحصر الخسائر والوقوف ميدانياً على الوضع الإنساني، وأهابت بالأطراف المتنازعة الاحتكام لصوت العقل حفاظاً على الأرواح والممتلكات، مؤكدة أن القانون سيطاول كل من يثبت تورطه في هذه الأحداث.

اتهامات للسلطة

لكن "منسقية النازحين" قدمت توصيفاً آخر للأحداث قالت فيه إن ميليشيات من "الجنجويد" وهي قبائل عربية مسلحة ترتدي زياً مموهاً هاجمت تسع قرى شرق مدينة نيالا عاصمة الولاية علي بعد نحو 17 كيلو متراً، وهي قرى أموري وكسقو وتقلا وجميزا وأم ترينا وحميدا وسينقو وقشطير ودوكا، مما أسفر عن مقتل وإصابة عشرات المواطنين.

وبحسب آدم رجال المتحدث الرسمي باسم المنسقية، فإن الجناة كانوا يتمطون عربات "لاندكروز" رباعية الدفع ودرجات نارية ويرتدون زياً رسمياً يشبه زي قوات الدعم السريع.

وقال إن السلطات الحكومية غابت بشكل كامل أثناء الأحداث، وفشلت من بعد في توفير ممرات آمنة للمواطنين للنزوح إلى نيالا وبليل.

بدورها ناشدت المفوضية القومية لحقوق الإنسان السلطات بسرعة التدخل في مثل هذه الحالات، كون تأخر الاستجابة من شأنه تعريض حياة المواطنين للخطر، مطالبة بتحقيق مستقل وشفاف وتقديم العون الإنساني للضحايا واتخاذ تدابير وإجراءات وقائية من مثل هذه الحوادث.

وبحسب هيئة محاميي دارفور فإن أكثر من 11 قرية تم حرقها كلياً أو جزئياً ولم تبق بمحلية شرق بليل سوى أربع قرى فقط، كما تعرضت القرى المنكوبة للسلب والنهب والقتل الجزافي.

آفة السلاح

في السياق نفسه قال الناشط في مجال السلام والتعايش السلمي عبدالمجيد عبدالله الفكي، إن الانتشار الكثيف للسلاح في دارفور بمختلف أنواعه يغري القبائل والميليشيات بتجييش أنفسهم والاستقواء حتى على القوات النظامية، مما يسهم في تجدد نزاعات خامدة وينتج أخرى جديدة.

وطالب الفكي الدولة في كل مستوياتها المركزية والإقليمية والولائية، بضرورة التعامل بالجدية والحسم مع قضية حصر وجمع السلاح خارج القوات النظامية.

ولفت الناشط في السلم الاجتماعي إلى أن توالي أحداث العنف القبلي وتصاعد الاشتباكات يطعن في مدى فاعلية "اتفاق جوبا"، كونه عجز عن بسط السلام في دارفور، منوهاً إلى الضعف الذي لازم تنفيذ الترتيبات الأمنية وقوات حماية المدنيين.

على صعيد متصل أوضح صالح عبدالرحمن سليمان مفوض العون الإنساني بولاية جنوب دارفور، أن نحو 15 قرية تأثرت بالأحداث، وبعضها تم حرقه مع موجة نزوح للمواطنين إلى المناطق المجاورة.

وأشار سليمان إلى أن الحصر الأولى كشف عن أن هناك نحو 3000 أسرة (بمتوسط خمسة أشخاص للأسرة الواحدة) نزحوا إلى رئاسة محلية بليل، إلى جانب معسكرات بليل ودريج وكلمة، ومناطق أخرى في فاشا وتعايشا وشيقي وضمراية ووصمة، ويجري حالياً حصرهم جمعياً.

أوضح المفوض لـ"اندبندنت عربية" أن حكومة الولاية قررت إرسال مواد غذائية كالذرة والسكر إلى جانب مواد إيواء سيبدأ توزيعها على المتضررين فور وصولها، فيما لم تصل أية معونات من الحكومة الاتحادية حتى الآن، وطلبت مفوضية الشؤون الإنسانية المركزية المعلومات اللازمة لتتم الاستجابة على ضوء الاحتياجات التي يجري حصرها.

وأشار سليمان إلى أن المفوضية عقدت اجتماعاً طارئاً مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، كما أطلقت نداء عاجلاً لجميع المنظمات العاملة بالولاية، وتقوم في الوقت نفسه بجولات ميدانية في إطار مسح وحصر وتحديد الاحتياجات، ومن المنتظر أن تستكمل خلال الأيام القليلة المقبلة توطئة لرفعها للمنظمات.

من جانبها دانت البعثة الأممية المتكاملة لدعم التحول الديمقراطي في السودان (يونيتامس) بشدة أحداث العنف الأخيرة في جنوب دارفور، وحضت أطراف النزاع على وقف العنف بشكل فوري. ‫   

ودعت البعثة على صفحتها في "تويتر" السلطات إلى اتخاذ تدابير أقوى لحماية المدنيين والسماح بوصول المساعدات الإنسانية ومحاسبة الجناة، مؤكدة الحاجة إلى معاجلة شاملة لأسباب العنف الجذرية في جميع أنحاء السودان.

وخلف نزاع إقليم دارفور المسلح الذي اندلع في 2003 بين الحركات المسلحة وحكومة الرئيس المخلوع عمر البشير، نحو 175 معسكراً للنازحين واللاجئين في الإقليم.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير