Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البيت اليمني للموسيقى يرمم بالنغم بيت الوطن الكبير

حمل على عاتقه تعليم الفنون رغم ظروف البلاد الإنسانية والصراع السياسي المتنامي

يسعى "البيت اليمني للموسيقى" لإعادة الحياة إلى المجتمع الذي يئن تحت وطأة الحرب (اندبندنت عربية)

بالنشيد والأغنية ورنة العود ونواح الناي الحزين يواسون نشيج الأرض التي رويت من دماء أقرانهم، ويعزون نفوس المحبين الباكية التي كتبتها نوتة محروقة تشكو ليالي الحرب وخوفها، وكأنهم يرممون بآلاتهم الشجية بيت اليمن الكبير.

وحين تقرع طبول الحرب في غير جبهة وميدان، وينادي صوتها لتلبية "داعي الموت"، كما تقول إحدى "الزوامل" التي تستحث على القتال، سعى البيت اليمني للموسيقى لإعادة المجتمع لهويته التي سلبتها صرخات الصراع، وليس ثمة هوية معبرة كالأغنية وإرثها الزاخر والمتعدد بعد تجديدها وتطويرها، في مشهد يستعرض ثنائية متنافرة بين صيحات الموت، ولحن الحياة.


توثيق الهوية الغنائية

حمل البيت اليمني للموسيقى على عاتقه مهمة تدريس الفن، عزفاً وغناءً، واكتسب منذ تأسيسه، كمنظمة مجتمع مدني غير ربحية، في عام 2007 مكانة بارزة في المشهد الثقافي والإبداعي في بلد يمتلك إرثاً فنياً ضخماً، وملأ فراغات تركها الغياب الرسمي المنشغل دوماً بصراعاته السياسية.

وفي حديث رئيس البيت الموسيقى فؤاد الشرجبي إلى "اندبندنت عربية"، يقول إن البيت أنجز كثيراً في سبيل "الحفاظ على الهوية الغنائية اليمنية والموسيقى كفن إنساني سامٍ عبر رصد وتوثيق الأغنية اليمنية بجميع أشكالها وأرشفتها ضمن قاعدة بيانات متخصصة لحفظها من الاندثار وصونها من التشويه والتحوير الذي يفقدها هويتها الأصيلة، باعتبارها محفوظة في ذاكرة المسنين وتتداول بالسماع من جيل إلى آخر، وهي المهمة التي نسعى للتصدي لها".

صوت من مغارة الحرب

إلا أن اللافت أن يضطلع بهذه المهمة ويفتح أبواب الدراسة للطلاب والنشء لتعلم الموسيقى في ظل ظروف صعبة تعانيها اليمن التي لا صوت يعلو فيها فوق صوت آلة القتال، ومنها العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثي، الجماعة الراديكالية التي تضيق ذرعاً بالفنون، ولهذا يسعى القائمون عليه "بجهد متواصل من أجل نشر الوعي الموسيقي والفني والثقافي والعمل على إيجاد فرص للتنمية المستدامة للشباب في المجالات الفنية والثقافية، موسيقى ومسرح وفنون تشكيلية وتصوير، إلخ".

وترجمة للإقبال الكبير الذي يصفه رئيسه من قبل الدارسين، يقيم المكان "فعاليات فنية وأدبية وندوات ثقافية لتعزيز دور الفنون في بناء السلام وتعزيز مبدأ التعايش".

ووفقاً للتنوع الجغرافي والتضاريس والمناخ شديد الاختلاف، من صحارى وجبال وسواحل، تنوعت بنية المجتمع وفنونه الشعبية، ومنها الأغاني التي تقوم على أربعة ألوان رئيسة هي الصنعاني والحضرمي واللحجي والعدني، وغيرها.

جمع التراث

يستقبل البيت القادم إليه بدندنات عود ونغمات كمان تسللت من قاعاته المتعددة التي تضم صالات تدريب وأستوديو تسجيل صوتي وقسم خاص بالأرشفة والتوثيق وورشة فنية لصناعة آلة "القنبوس" أو "الطربي"، وهي آلة العود اليمني القديم، وقاعة للعروض والفعاليات ومرسم للفنون التشكيلية، إضافة إلى فصول دراسية.

وبخلاف دراسة الموسيقى التي تجري على نحو نادر ولافت في بلد ملتهب على الدوام، تضمنت مهامه "توثيق التراث الشفهي وإعادة نشر قصص الجدات والحكايات والأساطير اليمنية من خلال إنتاج مسلسل إذاعي تم بثه في عدة إذاعات محلية تغطي معظم محافظات الجمهورية اليمنية، كما تم وضع المسلسل على مواقع السوشيال ميديا".

الفن للتعايش

إلى جانب ذلك، كان للشرجبي وفريقه تجربة مميزة في العام الماضي بإطلاق مشروع "فننا تعايش"، نتج عنه مسرحية غنائية بعنوان "متعايشين"، إضافة إلى "عدة عروض مسرحية جماهيرية نالت استحسان الجميع وحققت التعايش أولاً بين فريق العمل الذي تجاوز عددهم الـ40 شاباً وشابة من مختلف الشرائح المجتمعية ابتدأ من المهمشين إلى طلبة الماجستير، بمن فيهم نازحون ومكفوفون، ومن ذوي الحاجات الخاصة، وكانت نسبة المشاركات من الإناث 40 في المئة، حيث كانت ممثلة في جميع فرق التدريب".

العنان لفنون الشباب

وبما أن غالب نسبة المجتمع اليمني من فئة الشباب الذين يبحثون عن متنفس حقيقي، "تحررت إبداعاتهم بآلات الفنون من كبت استقطابات الحرب وضجيجها، في شتى الفنون وفي طليعتها الرسم والغناء والموسيقى والمسرح والتصوير وصناعة الأفلام، وإن بأجهزة هواتفهم النقالة"، بحسب الشرجبي، الذي قال إنه سعى جاهداً إلى "خلق مساحات صديقة للشباب لإشراكهم في الفعل الفني ومنحهم الثقة بمواهبهم سعياً إلى خلق فرص عمل جديدة في مجالات الفنون".

في مواجهة دعوات العنف

أثر الوضع السياسي وما خلفه من انهيارات عامة في جميع مناحي الحياة وسياقاتها الإنسانية، ومنها الفنون التي خفتت ألحانها، في حين برزت أصوات مبتورة عن جذور الهوية الطربية للبلاد على هيئة "شيلات" تم استدعاؤها من التراث الشعبي، ولكن بكلمات تستحث المراهقين والأطفال على الالتحاق بجبهات القتال والموت في سبيل من لا يعرفون أهدافه ولا يدركون شعاراته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعن الأثر الذي تركه البيت اليمني للموسيقى في معالجة هذه الآثار، يرى رئيسه أنهم، على رغم الظروف الصعبة، نجحوا خلال 14 عاماً من العمل الفني المتواصل في تحقيق "وجود طيب من خلال الأعمال الغنائية التوعوية".

علاج بالموسيقى

هل يمكن للموسيقى أن تعالج المجتمع المتأثر جراء الحرب على رغم انعدام الإمكانات؟ يمكن القول إن الإجابة لدى البيت اليمني للموسيقى الذي لم يتوقف نشاطه بفعل تحول الدعم الأهلي والدولي لتمويل الأعمال الإنسانية والاغاثية وتأثر أنشطته، ولملمت إدارته ورواده شتاتهم وأعادوا نشاطهم بجهود ذاتية من خلال أنشطة إنسانية مجتمعية في إطار العلاج بالموسيقى من خلال التطوع "بإقامة فعاليات فنية في المدارس التي تأثرت بشكل مباشر من الحرب وأثر ذلك على نفسيات الطلاب والطالبات وتجاوز عدد الطلاب في كل مدرسة نحو 3000 طالب أو طالبة كانوا يصدحون بصوت واحد لأجمل الأناشيد الوطنية".

يشير إلى الأثر الذي أحدثته هذه المشاركات بأنها أسالت، "دموع الأمل والحماس وارتفعت معها حماسة المدرسين لنحقق أفضل ما يمكن عمله في الدعم النفسي الذي أعاد البسمة للحياة التعليمية، وقد تم قياس الأثر في استبيان قبلي واستبيان بعدي لطلاب المدارس التي تمت الفعاليات فيها، فكانت النتيجة مبهرة جداً ومرضية حتى عند أوليا الأمور". وتطور النشاط لإقامة "دورات في التربية الموسيقية ضمن منهج خاص لتخريج مدرسين ومدرسات لمادة الموسيقى نظراً إلى احتياج المدارس الخاصة لمدرسي مادة الموسيقى".

ارتدادات قاتمة

مع الحالة القاتمة التي تخيم على البلاد جراء استمرار الحرب واقترابها من الدخول في عامها التاسع، يواجه نشاط المكان جملة من التهديدات لعل أهمها "استمرار الحرب التي عرقلت كثيراً من أنشطتنا وعدم وجود دعم مادي يساعدنا على تغطية المصاريف التشغيلية بعد أن حول كثير من المنظمات مشاريع الدعم المجتمعي والثقافي والفني إلى دعم إغاثي على رغم أن الدعم النفسي يحتاج إليه المجتمع بشكل أكبر أثناء الحرب.

هنا يتطرق إلى اشكال آخر في بعده الاجتماعي كرسه العرف الشعبي لدى بعض الفئات فيما يتعلق "بالنظرة القاصرة للفنون وتصاعد حدتها خلال الحرب"، مؤكداً، "رسالتنا تجبرنا على البقاء والاستمرار انطلاقاً من إيماننا بالدور الهام الذي تقدمه الفنون والموسيقى في نشر المحبة والسلام ومسعانا لانتشال الشباب من براثن التطرف الديني والمذهبي وإبعادهم من الانخراط في الصراعات العسكرية وإيجاد متنفس حقيقي للشباب والأطفال من الجنسين يساعدهم على العيش والتفكير بشكل متوازن وسوي".

ملجأنا الواعد: أوركسترا وطنية

من بين المواهب البارزة التي تميز بإخراجها لنور الإبداع، عازفة البيانو الفنانة أبرار الحناني التي حازت حضوراً بارزاً في عدد من المناسبات التي مثلت فيها بلدها.

أبرار قالت إن البيت اليمني للموسيقى هو الذي "كبرنا فيه فنياً وشكل هويتنا الموسيقية ومنحنا الفرصة لإطلاق مسيرتنا الفنية قبل أن يكون لنا الملجأ والمتنفس الذي أطلق لمواهبنا العنان حتى بات المتنفس الأهم لكل موهوب".

استشرافاً للمستقبل الواعد وما سيمثله لهم بعد أن تحسسوا طريقهم الفني ومن خلاله شاركوا في مناسبات غنائية عدة، تضيف، "نستطيع القول إن لدينا الخطوة الأولى لإنشاء أوركسترا وطنية في المستقبل لأن جميع العازفين في البيت اليمني للموسيقى أصبحوا يجيدون قراءة النوتة الموسيقية كونها الأهم في تكوين وصناعة الفرق الموسيقية المتطورة واللغة التي يجيدها كل عازف حول العالم، وهو ما ركز عليه البيت اليمني للموسيقى، إضافة للإلمام بتراثنا الفني الزاخر والممتد وأبعاد ألوانه الغنائية المختلفة التي تشكل هوية متجذرة ومتفردة ننهل منها كل عطاء موسيقي نحو المستقبل".

تكوين شخصية الفنان

الحال ذاتها بالنسبة إلى المغنين الذين كان لهم المكان الموضوعي لبلورة مواهبهم وصقل أصواتهم استناداً على مكتبة غنائية ضخمة من الأعمال القديمة التي ملأت الفضاء الفني منذ مئات السنين.

تقول الفنانة علا الناصري، إن البيت اليمني ساعدنا كفنانين في تكوين شخصياتنا الغنائية المتفردة، وأسهم بشكل كبير في نضوجنا الفني وفهم مبادئ وأساسات الغناء والموسيقى، ومنه اليمني على وجه الخصوص.

جاهزون للمستقبل

علا التي تخرجت في البيت اليمني للموسيقى وشاركت في عديد من المهرجانات والأعمال الغنائية تطمح لتحقيق مزيد، وإضافة كثير للمشهد الفني مستقبلاً، وملء فراغ غياب المؤسسات الفنية لوجود "القاعدة الفنية والفنانين والقائمين على هذا الجانب وكونهم هامات فنية نراهن عليهم إنتاج أعمال تستقي جمالها من تاريخنا الفني".

وتختتم، "نلاحظ أن الأغنية اليمنية فرضت نفسها كلون مستقل، وهذا يرجع بشكل كبير للفنانين الشباب الذين بدأوا يعملون على تطويرها ونشرها، وإن في حدود إمكاناتهم، ولهذا نسعى إلى التطوير وإيجاد قاعدة فنية تكون جاهزة بفرقة أوركسترالية متطورة وبكوكبة غنائية محترفة تحمل على عاتقها مهمة إبراز الفن اليمني في المستقبل، وهو ما بات يلامس الواقع من خلال هذا البيت".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة